أمل جعفر.. 3 عقود من الهيام بالمايكروفون
من أوائل الخليجيات اللواتي اقتحمن الإعلام
الجمعة / 14 / ذو القعدة / 1439 هـ الجمعة 27 يوليو 2018 02:58
قراءة الدكتور عبدالله المدني (أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين)
في التاريخ الإعلامي لدولة الكويت هناك مكانة خاصة للراحلة أمل جعفر، ليس لأنها من أوائل المذيعات في تلفزيون الكويت الرسمي الذي بدأ بثه الأول باللونين الأبيض والأسود في 15 نوفمبر 1961، وإنما أيضاً لأنها كانت الأولى الناطقة باللغة الإنجليزية في الإذاعة الكويتية سنة 1965، ناهيك عن أمر آخر هو سجلها الحافل بالأعمال الإعلامية الناجحة سواء في التلفزيون أو الإذاعة. لذا فإنها تصنف ضمن قائمة رائدات الإعلام الكويتي المرئي والمسموع جنباً إلى جنبٍ مع باسمة سليمان، وفاطمة حسين، ومنى طالب، وشيخة الزاحم، وأمينة الشراح، وأمل عبدالله، وأنيسة محمد جعفر المعروفة باسم «ماما أنيسة».
ولدت المذيعة القديرة أمل وفيق محمد مصطفى جعفر الزغبي الشهيرة بـ «أمل جعفر» في لبنان عام 1942 ابنة لأبوين كويتيين. وإذا كان والدها «وفيق جعفر» ليس من المشاهير، فإن عمها «عزت جعفر» أشهر من نار على علم كونه قدم إلى الكويت عام 1935 من مصر بصحبة الشيخ أحمد الجابر الذي كان يبحث وقتها عن شاب مثقف ومطلع ويجيد اللغات الأجنبية، كي يخدمه كمستشار ومرافق ضمن سكرتارية قصر دسمان بدلاً من المستشارين الذين عفا عليهم الزمن ولم يعودوا قادرين على الاستجابة لمتطلبات مرحلة تحولات ما بعد الحرب العالمية الأولى من توقيع معاهدات وترسيم حدود وإرساء تفاهمات استراتيجية مع القوى الكبرى.
ففي حوار أجرته معه صحيفة القبس الكويتية (25/5/2006) أخبرنا عم المذيعة أمل جعفر أنه ينحدر من مدينة دمياط المصرية، وأن والده وجده اللذين كانا يعملان في تجارة الجلود هاجرا إلى لبنان، وأنه عـُين مرافقاً للشيخ أحمد الجابر الصباح خلال زيارة الأخير الخاصة لمصر في عهد الملك فؤاد وهو في طريق عودته من بريطانيا، وأنه خلال إحدى الحفلات على شرف الشيخ أحمد الجابر اقترح عليه أن يأتي إلى الكويت، عارضاً عليه البقاء فيها إن أعجبته، وإلا العودة إلى مصر.
ويبدو أن عزت استحضر وقتها حالة بروز وصعود المصري الشيخ حافظ وهبة ضمن مستشاري ورجالات الملك عبدالعزيز آل سعود، فوافق على اقتراح الشيخ أحمد الجابر وسافر معه وهو في سن الـ 23 إلى الكويت عبر أراضي لبنان وسورية والعراق. وفي كويت الثلاثينات والأربعينات سطع نجمه كثيراً في قصر دسمان الأميري جنباً إلى جنبٍ مع شخصيتين أخريين هما «محمد سيد عمر» و«بن زين»، ثم برز أكثر فأكثر في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات التي شهدت مرافقته لكل حكام الكويت وشيوخها في أسفارهم الخارجية، قبل أن يأفل نجمه تدريجياً، ويدخل معتقلات نظام الغزو العراقي، وصولاً إلى وفاته في عام 2000 عن 88 سنة.
وبالعودة إلى أمل جعفر، نجد - طبقا لما ورد في كتاب «منارات كويتية» لمؤلفه ممدوح المحسن العنزي (ص 60) - أنها جاءت إلى الكويت من لبنان لأول مرة في سنة 1945 وعمرها لا يتجاوز سنتين ونصف السنة، فدرست فيها لبعض الوقت، لكنها عادت إلى لبنان لتلتحق هناك بمدرسة فرنسية، قبل أن تعود مجدداً إلى الكويت وتترعرع بها، وتدرس المرحلة الابتدائية بالمدرسة الجبلية (القبْـلية)، والمرحلة الإعدادية بمدرسة عائشة، والمرحلة الثانوية بمدرسة المرقاب. وبعد أن أنهت بنجاح دراستها الثانوية (القسم الأدبي) أرادت أن تواصل تحصيلها الجامعي، لكن الكويت لم تكن بها جامعة آنذاك، كما أن والديها وعمها رفضوا سفرها إلى الخارج بمفردها، قائلين لها «ما عندنا بنات يدخلون الجامعة، وإنت درستٍ عربي وفرنسي وإنجليزي وهذا كافٍ، ولستِ محتاجة للفلوس فالخير وايد والحمد لله». فبكت وأضربت عن الطعام وحبست نفسها في غرفتها الصغيرة لأيام، طبقاً لما قالته في حوار مع جريدة عالم اليوم (14/12/2008)، رغم أن أسرتها لم تكن متشددة وإنما محافظة ومؤمنة بالانضباط، والسلوك القويم، وضرورة احترام الأبناء لقرارات الوالدين، بحسب كلامها.
وعن ذكريات طفولتها في الكويت نقل عنها مؤلف كتاب «منارات كويتية» (ص 58 و59) قولها: «بيتنا كان في ساحة الصفاة، وكنت أذهب إلى المدرسة الشرقية (الجبلية) ومدرسة عائشة مشياً على الأقدام (....) وعندما كنت أذهب في الصباح الباكر للمدرسة بصحبة زميلاتي كنت أمر على الدكاكين الموجودة على طريقي وآخذ كل ما أريده وأحتاجه منها ولا أحاسبهم لأنهم يعرفون والدي الذي كان يحاسبهم كل آخر شهر. وعندما نخرج من المدرسة كنا نذهب إلى بيت أي من صويحباتنا ونجلس نتغدى ونلعب سويّاً بكل براءة وأمان. وكنا بنات وأولاد نلعب في الشارع، ولم يكن الحال كما هو الآن، إذ حل الخوف والحذر محل الأمان وراحة البال».
واصلت أمل ذكرياتها عن أيام طفولتها وصباها فقالت: «كنت أغسل ملابسي في البحر على (السيف) وهذا الأمر وأنا في المرحلة الابتدائية، وأتذكر أيضاً أيام الحر والرطوبة، فقد كنا نبلل الفرش بالماء ونطلع على السطح وننام قريري الأعين، فلم يكن هناك مكيفات ولا مراوح ولا شيء من هذا القبيل. كانت كل سبل الرفاهية معدومة تماماً، وأقول هذا الكلام لأن الجيل الحالي يجب أن يعرف كيف كان آباؤهم يعيشون، وكيف كانت معاناتهم، كي يحمدوا الله على هذه النعمة التي وهبها لهم. حياتنا كانت صعبة، ولكنها حلوة، فالجار يزور جاره وصلة الرحم موجودة لكن الآن (كل واحد عايش بروحه)».
وخلال مرحلة رفض أهلها لفكرة استكمال تعليمها الجامعي، عززت أمل ثقافتها بإتقان اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية، وقراءة الأعمال الروائية لوليام شكسبير ونجيب محفوظ وطه حسين وإحسان عبدالقدوس، والاطلاع على مختلف المطبوعات في شتى فروع المعرفة، كما أنها كانت متيمة بمتابعة البرامج الإذاعية التي كانت تبثها محطتا صوت العرب وهيئة الإذاعة البريطانية إلى درجة أن والدها نهرها كثيراً قائلاً: «خلي الراديو يوكلك عيش».
أما التحاقها بالتلفزيون والإذاعة فحكاية درامية منفصلة، بدأت وهي لم تتجاوز سن الثامنة عشرة. إذ روت تفاصيلها في حديثها لجريدة «عالم اليوم» (مصدر سابق) قائلة: «عندما تم افتتاح تلفزيون الكويت تحدث (الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وزير الأنباء والإرشاد) إلى والدي وعمي لكي أعمل بالتلفزيون، لكنهما كانا مصرين على الرفض، واستمرت المحادثات لفترة طويلة من الزمن حتى اقتنع والدي. كان اقتناع أهلي مشروطاً بأن يكون (عملي) في فترات محدودة، وأن يكون ذهابي وعودتي مع أحد من الأهل. كان بيتنا وقتها بجوار التلفزيون، ولا يبعد عنه سوى 10 دقائق سيراً على الأقدام، ومع ذلك كان لا بد أن يصاحبني أحد من أهلي في الذهاب والعودة».
وأضافت في السياق نفسه أن رئيس التلفزيون آنذاك المرحوم خالد المسعود الفهيد كان في بعض الأحيان يعيدها إلى منزلها بسيارته ويسلمها لوالديها يداً بيدٍ. وبسبب فضل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح (أمير دولة الكويت الحالي) عليها لجهة إيمانه بمواهبها وتشجيعه لها على الالتحاق بالعمل الإعلامي، فإن أمل جعفر كثيراً ما رددت في أحاديثها أن الأخير هو بمثابة أبيها الروحي، خصوصاً أنه ارتبط لسنوات طويلة بعلاقة صداقة وطيدة مع عمها عزت جعفر.
جملة القول أن أمل بدأت العمل الإعلامي قبل أن تكمل عامها الثامن عشر لتدخل التاريخ كأصغر مذيعة تلفزيونية تلتحق بالتلفزيون الكويتي في بداية مسيرة الجهاز، لكنها قبل ذلك، أي حينما كان التلفزيون يقوم بالبث التجريبي، خاضت عملية تدريب وتأهيل على الإلقاء والإنصات والتفاعل لأكثر من شهرين على يد الممثل المسرحي المصري زكي طليمات الذي كان وقتذاك معاراً للعمل في الكويت.
ورغم أن خطواتها الإعلامية الأولى بدأت من التلفزيون، فإنها عشقت الإذاعة وميكرفوناتها وهامت بها، بدليل أنه، بمجرد شروع الإذاعة والتلفزيون في عملية تبادل طواقمهما في الستينات، قررت أن تنتقل في عام 1965 إلى الإذاعة لتصبح أول مذيعة تقدم برامج باللغة الإنجليزية، تـُعرّف من خلالها العالم على بلدها وثقافته وتاريخه وفنونه، علماً أن البث الإنجليزي لإذاعة الكويت كان ناجحاً بكل المقاييس، رغم قلة الإمكانات وضعفها آنذاك. إذ يكفي أن نعرف أن إذاعة الكويت الإنجليزية بدأت بخمسة أفراد غير كويتيين هم: مسؤول الأخبار الفلسطيني «أنطوان شبيطة»، ومسؤولة إنجليزية لـ «لإف إم»، وثلاثة إداريين من شبه القارة الهندية.
وهكذا نجحت أمل وسطع نجمها، ليس بسبب حبها وحماسها للعمل الإعلامي فحسب، وإنما أيضا بسبب إخلاصها وتفانيها وتجاوزها لكل العقبات في ذلك الزمن المبكر، ناهيك عن حرصها على التعلم من أخطائها، وتفادي الصدامات مع الآخرين والعمل بروح الفريق الواحد. قالت أمل عن الإذاعة أنها «فن وعمل، بمعنى أنه من لا يعمل باقتناع لن ينجح، فالأهم هو حب العمل بإحساس. فقد كنت أفكر قبل خلودي للنوم ما سنعمله غداً، وأراجع صوابي وأخطائي السابقة» ثم أضافت: «لقد عملت أنا وأقراني بالإضاءة والديكور كمساعدة للآخرين، وذلك بسبب حبنا لعملنا، أما الآن لا أعلم إنْ كانت نوعية مذيعات الستينات موجودة أم لا؟». ولعل أحد دلائل تميز أمل جعفر في عملها الإعلامي نجاح البرامج التي قدمتها، والتي بدأت بالبرنامج التمثيلي القصير «أنا غلطان» من إعدادها وتقديمها وإخراجها وتمثيل كبار نجوم ذلك الزمن من أمثال سعد الفرج وخالد النفيسي ومريم الغضبان ومريم الصالح. هذا البرنامج الذي أظهرت فيه موهبة متوقدة، وكان توطئة لقيامها بتقديم برامج أخرى على رأسها برنامج «خلي بالك»، وهو برنامج تمثيلي يُعنى بالسلوك والتوجيه مدته خمس دقائق وكان يعده الفنان سعد فرج والدكتور نشمي عبدالكريم، ثم برنامج «أروع الألحان» الذي كان يعرض الألحان والأغاني المفضلة عند الغرب والعرب للمقارنة بينها والتحدث عن مزايا كل لحن، وهو ما ساهم في ظهور جيل كويتي شاب من متذوقي الفن بمختلف أشكاله. أما في التلفزيون، فقد قدمت برامج الحوار مع الفنانين والمثقفين العرب من زوار الكويت، إضافة إلى تقديم سهرات على الهواء مباشرة مع الفنانين من خلال برنامج «ليلة خميس».
3 منعطفات رسمت ملامح أمل
في حياة أمل جعفر 3 منعطفات مهمة؛ أولها دخولها مجال الإعلام المرئي والمسموع، وهذا تحدثنا عنه بالتفصيل في الأسطر السابقة، وثانيها ارتباطها بزميلها الإعلامي أحد مؤسسي تلفزيون الكويت الراحل رضا الفيلي، الذي تعرفت عليه أثناء عملهما معا في الإذاعة والتلفزيون، فنشأت بينهما قصة حب تُوجت بالزواج. وحول زواجها، قالت أمل في الصفحتين 65، و66 من كتاب «منارات كويتية» (مصدر سابق)، إن رضا الفيلي كان يعتقد في البداية «أني شايفة حالي»، لكن بعد فترة «بدأنا نتجاذب أطراف الحديث... وأصبح هناك نوع من الإعجاب الفكري، بمعنى أن طريقته كانت تعجبني وهو كذلك، وتقدم يطلبني أول مرة وثاني مرة وثالث مرة، وكان طلبه يقابل بالرفض من أهلي، وذلك عام 1962. بعد ذلك تدخل الشيخ عبدالله الأحمد الصباح (رئيس دائرة الأمن العام في حقبة الخمسينات) والشيخ صباح الأحمد الصباح في الموضوع، وأيضا أولاد الحلال كلموا أهلي، وبعد إلحاح وافق أبي وعمي وأهلي وتزوجنا».
وأضافت قائلة: «كانت الخطبة في بيت والدي في عام 1964، وتم عقد القران في أواخر 1964 في بيت الشيخ صباح الأحمد، وكان هو الشاهد الأول على عقد الزواج، والشاهد الثاني عبدالرزاق البصير رحمة الله عليه». وفي مكان آخر، قالت ما مفاده إنها بدأت مع رضا الفيلي صغيرين وكبرا معا، واصفة ذلك بقمة السعادة واللذة في حياتهما، ومؤكدة أنهما اعتمدا بصورة مطلقة على نفسيهما، بدليل أنهما استأجرا شقة صغيرة مكونة من غرفة واحدة وسفرة ومطبخ بجوار المطافي بشارع الهلالي، كي تكون عش الزوجية الذي توطدت أركانه بميلاد الأبناء خالد وخلود ونجود وعنود.
أما المنعطف الثالث فتمثل بسفر الزوجين معا إلى الولايات المتحدة في عام 1969، حيث ابتُعث الفيلي إلى هناك لاستكمال دراسته الجامعية في مجال الإعلام، فيما سافرت هي معه كمرافقة أولا، قبل أن تحصل من وزارة الإعلام على إجازة مفتوحة للدراسة. وقد استغلت أمل فترة وجودها مع زوجها في الولايات المتحدة، والتي انتهت في عام 1974، بدراسة الإعلام والعلاقات الدولية، ناهيك عن اكتساب المعارف الإضافية من خلال الاحتكاك بالمجتمع الأمريكي متعدد الأطياف والثقافات.
.. واستراحة لعقدين سبقت رحيل «العلامة الفارقة»
بعد 33 عاما من العطاء، والجلوس خلف ميكروفونات الإذاعة أو الوقوف أمام كاميرات التلفزيون، بكل ما استوجبته ظروف البدايات المبكرة من مشقة مضاعفة وعمل متواصل ومحاولات دؤوبة لتجاوز النواقص، قررت أمل جعفر في عام 1993 أن تترجل وتعتزل العمل الإعلامي، بعدما شعرت أنها قدمت وأعطت لوطنها كل ما عندها، ناهيك عن أمر آخر ألح عليها كي تعتزل وهو التفرغ لرعاية أبنائها وبناتها وأحفادها. غير أنها لم تنقطع عن الأصدقاء الكثر الذين تعرفت عليهم خلال مشوارها الإعلامي، فظلت متواصلة معهم.
في حوارها المشار إليه آنفا مع جريدة عالم اليوم نجدها تتحدث بحرقة وأسى حول تراجع دور الكويت في إثراء المشهد الخليجي والعربي بالمهرجانات الإذاعية والتلفزيونية، قائلة: «كانت الكويت أول دولة خليجية إعلاميا لدرجة أن أشقاءنا من سلطنة عمان والسعودية والبحرين والإمارات يتدربون على أيدينا، وكنت أنا إحدى المدربات للمذيعين والمذيعات والمخرجين. الآن لا نعلم إلى أين ذهب الإعلام الكويتي.. ولولا القنوات الخاصة بإمكاناتها لغاب الإعلام الكويتي».
من الطرائف التي كانت أمل جعفر بطلتها خلال عملها بالإذاعة الكويتية يوم أن كانت الأخيرة مجرد «شبرات» داخل كراج تابع للأمن العام أنها ــ بسبب الارتباك والرهبة ــ نطقت عبارة «أيها الساعة السادة الآن» بدلا من عبارة «أيها السادة الساعة الآن».
وفي يوم 12 كانون الثاني/ يناير 2014 غيب الموت أمل جعفر عن واحد وسبعين عاما، من بعد صراع طويل مع المرض. فنعاها واثنى عليها كبار رموز الإعلام في وطنها، وفي مقدمتهم وزير الإعلام، وزير الدولة لشئون الشباب الشيخ سلمان صباح الحمود الصباح الذي وصفها بـ «العلامة الفارقة في سماء الإعلام الكويتي من خلال ما قدمته من برامج إذاعية وتلفزيونية عديدة باللغة الإنجليزية لتمثل شعاع ثقافة كويتنا بالنسبة للجاليات الأجنبية الموجودة على أرض الكويت، وقبسا إعلاميا كويتيا إلى دول العالم».
ولدت المذيعة القديرة أمل وفيق محمد مصطفى جعفر الزغبي الشهيرة بـ «أمل جعفر» في لبنان عام 1942 ابنة لأبوين كويتيين. وإذا كان والدها «وفيق جعفر» ليس من المشاهير، فإن عمها «عزت جعفر» أشهر من نار على علم كونه قدم إلى الكويت عام 1935 من مصر بصحبة الشيخ أحمد الجابر الذي كان يبحث وقتها عن شاب مثقف ومطلع ويجيد اللغات الأجنبية، كي يخدمه كمستشار ومرافق ضمن سكرتارية قصر دسمان بدلاً من المستشارين الذين عفا عليهم الزمن ولم يعودوا قادرين على الاستجابة لمتطلبات مرحلة تحولات ما بعد الحرب العالمية الأولى من توقيع معاهدات وترسيم حدود وإرساء تفاهمات استراتيجية مع القوى الكبرى.
ففي حوار أجرته معه صحيفة القبس الكويتية (25/5/2006) أخبرنا عم المذيعة أمل جعفر أنه ينحدر من مدينة دمياط المصرية، وأن والده وجده اللذين كانا يعملان في تجارة الجلود هاجرا إلى لبنان، وأنه عـُين مرافقاً للشيخ أحمد الجابر الصباح خلال زيارة الأخير الخاصة لمصر في عهد الملك فؤاد وهو في طريق عودته من بريطانيا، وأنه خلال إحدى الحفلات على شرف الشيخ أحمد الجابر اقترح عليه أن يأتي إلى الكويت، عارضاً عليه البقاء فيها إن أعجبته، وإلا العودة إلى مصر.
ويبدو أن عزت استحضر وقتها حالة بروز وصعود المصري الشيخ حافظ وهبة ضمن مستشاري ورجالات الملك عبدالعزيز آل سعود، فوافق على اقتراح الشيخ أحمد الجابر وسافر معه وهو في سن الـ 23 إلى الكويت عبر أراضي لبنان وسورية والعراق. وفي كويت الثلاثينات والأربعينات سطع نجمه كثيراً في قصر دسمان الأميري جنباً إلى جنبٍ مع شخصيتين أخريين هما «محمد سيد عمر» و«بن زين»، ثم برز أكثر فأكثر في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات التي شهدت مرافقته لكل حكام الكويت وشيوخها في أسفارهم الخارجية، قبل أن يأفل نجمه تدريجياً، ويدخل معتقلات نظام الغزو العراقي، وصولاً إلى وفاته في عام 2000 عن 88 سنة.
وبالعودة إلى أمل جعفر، نجد - طبقا لما ورد في كتاب «منارات كويتية» لمؤلفه ممدوح المحسن العنزي (ص 60) - أنها جاءت إلى الكويت من لبنان لأول مرة في سنة 1945 وعمرها لا يتجاوز سنتين ونصف السنة، فدرست فيها لبعض الوقت، لكنها عادت إلى لبنان لتلتحق هناك بمدرسة فرنسية، قبل أن تعود مجدداً إلى الكويت وتترعرع بها، وتدرس المرحلة الابتدائية بالمدرسة الجبلية (القبْـلية)، والمرحلة الإعدادية بمدرسة عائشة، والمرحلة الثانوية بمدرسة المرقاب. وبعد أن أنهت بنجاح دراستها الثانوية (القسم الأدبي) أرادت أن تواصل تحصيلها الجامعي، لكن الكويت لم تكن بها جامعة آنذاك، كما أن والديها وعمها رفضوا سفرها إلى الخارج بمفردها، قائلين لها «ما عندنا بنات يدخلون الجامعة، وإنت درستٍ عربي وفرنسي وإنجليزي وهذا كافٍ، ولستِ محتاجة للفلوس فالخير وايد والحمد لله». فبكت وأضربت عن الطعام وحبست نفسها في غرفتها الصغيرة لأيام، طبقاً لما قالته في حوار مع جريدة عالم اليوم (14/12/2008)، رغم أن أسرتها لم تكن متشددة وإنما محافظة ومؤمنة بالانضباط، والسلوك القويم، وضرورة احترام الأبناء لقرارات الوالدين، بحسب كلامها.
وعن ذكريات طفولتها في الكويت نقل عنها مؤلف كتاب «منارات كويتية» (ص 58 و59) قولها: «بيتنا كان في ساحة الصفاة، وكنت أذهب إلى المدرسة الشرقية (الجبلية) ومدرسة عائشة مشياً على الأقدام (....) وعندما كنت أذهب في الصباح الباكر للمدرسة بصحبة زميلاتي كنت أمر على الدكاكين الموجودة على طريقي وآخذ كل ما أريده وأحتاجه منها ولا أحاسبهم لأنهم يعرفون والدي الذي كان يحاسبهم كل آخر شهر. وعندما نخرج من المدرسة كنا نذهب إلى بيت أي من صويحباتنا ونجلس نتغدى ونلعب سويّاً بكل براءة وأمان. وكنا بنات وأولاد نلعب في الشارع، ولم يكن الحال كما هو الآن، إذ حل الخوف والحذر محل الأمان وراحة البال».
واصلت أمل ذكرياتها عن أيام طفولتها وصباها فقالت: «كنت أغسل ملابسي في البحر على (السيف) وهذا الأمر وأنا في المرحلة الابتدائية، وأتذكر أيضاً أيام الحر والرطوبة، فقد كنا نبلل الفرش بالماء ونطلع على السطح وننام قريري الأعين، فلم يكن هناك مكيفات ولا مراوح ولا شيء من هذا القبيل. كانت كل سبل الرفاهية معدومة تماماً، وأقول هذا الكلام لأن الجيل الحالي يجب أن يعرف كيف كان آباؤهم يعيشون، وكيف كانت معاناتهم، كي يحمدوا الله على هذه النعمة التي وهبها لهم. حياتنا كانت صعبة، ولكنها حلوة، فالجار يزور جاره وصلة الرحم موجودة لكن الآن (كل واحد عايش بروحه)».
وخلال مرحلة رفض أهلها لفكرة استكمال تعليمها الجامعي، عززت أمل ثقافتها بإتقان اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية، وقراءة الأعمال الروائية لوليام شكسبير ونجيب محفوظ وطه حسين وإحسان عبدالقدوس، والاطلاع على مختلف المطبوعات في شتى فروع المعرفة، كما أنها كانت متيمة بمتابعة البرامج الإذاعية التي كانت تبثها محطتا صوت العرب وهيئة الإذاعة البريطانية إلى درجة أن والدها نهرها كثيراً قائلاً: «خلي الراديو يوكلك عيش».
أما التحاقها بالتلفزيون والإذاعة فحكاية درامية منفصلة، بدأت وهي لم تتجاوز سن الثامنة عشرة. إذ روت تفاصيلها في حديثها لجريدة «عالم اليوم» (مصدر سابق) قائلة: «عندما تم افتتاح تلفزيون الكويت تحدث (الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وزير الأنباء والإرشاد) إلى والدي وعمي لكي أعمل بالتلفزيون، لكنهما كانا مصرين على الرفض، واستمرت المحادثات لفترة طويلة من الزمن حتى اقتنع والدي. كان اقتناع أهلي مشروطاً بأن يكون (عملي) في فترات محدودة، وأن يكون ذهابي وعودتي مع أحد من الأهل. كان بيتنا وقتها بجوار التلفزيون، ولا يبعد عنه سوى 10 دقائق سيراً على الأقدام، ومع ذلك كان لا بد أن يصاحبني أحد من أهلي في الذهاب والعودة».
وأضافت في السياق نفسه أن رئيس التلفزيون آنذاك المرحوم خالد المسعود الفهيد كان في بعض الأحيان يعيدها إلى منزلها بسيارته ويسلمها لوالديها يداً بيدٍ. وبسبب فضل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح (أمير دولة الكويت الحالي) عليها لجهة إيمانه بمواهبها وتشجيعه لها على الالتحاق بالعمل الإعلامي، فإن أمل جعفر كثيراً ما رددت في أحاديثها أن الأخير هو بمثابة أبيها الروحي، خصوصاً أنه ارتبط لسنوات طويلة بعلاقة صداقة وطيدة مع عمها عزت جعفر.
جملة القول أن أمل بدأت العمل الإعلامي قبل أن تكمل عامها الثامن عشر لتدخل التاريخ كأصغر مذيعة تلفزيونية تلتحق بالتلفزيون الكويتي في بداية مسيرة الجهاز، لكنها قبل ذلك، أي حينما كان التلفزيون يقوم بالبث التجريبي، خاضت عملية تدريب وتأهيل على الإلقاء والإنصات والتفاعل لأكثر من شهرين على يد الممثل المسرحي المصري زكي طليمات الذي كان وقتذاك معاراً للعمل في الكويت.
ورغم أن خطواتها الإعلامية الأولى بدأت من التلفزيون، فإنها عشقت الإذاعة وميكرفوناتها وهامت بها، بدليل أنه، بمجرد شروع الإذاعة والتلفزيون في عملية تبادل طواقمهما في الستينات، قررت أن تنتقل في عام 1965 إلى الإذاعة لتصبح أول مذيعة تقدم برامج باللغة الإنجليزية، تـُعرّف من خلالها العالم على بلدها وثقافته وتاريخه وفنونه، علماً أن البث الإنجليزي لإذاعة الكويت كان ناجحاً بكل المقاييس، رغم قلة الإمكانات وضعفها آنذاك. إذ يكفي أن نعرف أن إذاعة الكويت الإنجليزية بدأت بخمسة أفراد غير كويتيين هم: مسؤول الأخبار الفلسطيني «أنطوان شبيطة»، ومسؤولة إنجليزية لـ «لإف إم»، وثلاثة إداريين من شبه القارة الهندية.
وهكذا نجحت أمل وسطع نجمها، ليس بسبب حبها وحماسها للعمل الإعلامي فحسب، وإنما أيضا بسبب إخلاصها وتفانيها وتجاوزها لكل العقبات في ذلك الزمن المبكر، ناهيك عن حرصها على التعلم من أخطائها، وتفادي الصدامات مع الآخرين والعمل بروح الفريق الواحد. قالت أمل عن الإذاعة أنها «فن وعمل، بمعنى أنه من لا يعمل باقتناع لن ينجح، فالأهم هو حب العمل بإحساس. فقد كنت أفكر قبل خلودي للنوم ما سنعمله غداً، وأراجع صوابي وأخطائي السابقة» ثم أضافت: «لقد عملت أنا وأقراني بالإضاءة والديكور كمساعدة للآخرين، وذلك بسبب حبنا لعملنا، أما الآن لا أعلم إنْ كانت نوعية مذيعات الستينات موجودة أم لا؟». ولعل أحد دلائل تميز أمل جعفر في عملها الإعلامي نجاح البرامج التي قدمتها، والتي بدأت بالبرنامج التمثيلي القصير «أنا غلطان» من إعدادها وتقديمها وإخراجها وتمثيل كبار نجوم ذلك الزمن من أمثال سعد الفرج وخالد النفيسي ومريم الغضبان ومريم الصالح. هذا البرنامج الذي أظهرت فيه موهبة متوقدة، وكان توطئة لقيامها بتقديم برامج أخرى على رأسها برنامج «خلي بالك»، وهو برنامج تمثيلي يُعنى بالسلوك والتوجيه مدته خمس دقائق وكان يعده الفنان سعد فرج والدكتور نشمي عبدالكريم، ثم برنامج «أروع الألحان» الذي كان يعرض الألحان والأغاني المفضلة عند الغرب والعرب للمقارنة بينها والتحدث عن مزايا كل لحن، وهو ما ساهم في ظهور جيل كويتي شاب من متذوقي الفن بمختلف أشكاله. أما في التلفزيون، فقد قدمت برامج الحوار مع الفنانين والمثقفين العرب من زوار الكويت، إضافة إلى تقديم سهرات على الهواء مباشرة مع الفنانين من خلال برنامج «ليلة خميس».
3 منعطفات رسمت ملامح أمل
في حياة أمل جعفر 3 منعطفات مهمة؛ أولها دخولها مجال الإعلام المرئي والمسموع، وهذا تحدثنا عنه بالتفصيل في الأسطر السابقة، وثانيها ارتباطها بزميلها الإعلامي أحد مؤسسي تلفزيون الكويت الراحل رضا الفيلي، الذي تعرفت عليه أثناء عملهما معا في الإذاعة والتلفزيون، فنشأت بينهما قصة حب تُوجت بالزواج. وحول زواجها، قالت أمل في الصفحتين 65، و66 من كتاب «منارات كويتية» (مصدر سابق)، إن رضا الفيلي كان يعتقد في البداية «أني شايفة حالي»، لكن بعد فترة «بدأنا نتجاذب أطراف الحديث... وأصبح هناك نوع من الإعجاب الفكري، بمعنى أن طريقته كانت تعجبني وهو كذلك، وتقدم يطلبني أول مرة وثاني مرة وثالث مرة، وكان طلبه يقابل بالرفض من أهلي، وذلك عام 1962. بعد ذلك تدخل الشيخ عبدالله الأحمد الصباح (رئيس دائرة الأمن العام في حقبة الخمسينات) والشيخ صباح الأحمد الصباح في الموضوع، وأيضا أولاد الحلال كلموا أهلي، وبعد إلحاح وافق أبي وعمي وأهلي وتزوجنا».
وأضافت قائلة: «كانت الخطبة في بيت والدي في عام 1964، وتم عقد القران في أواخر 1964 في بيت الشيخ صباح الأحمد، وكان هو الشاهد الأول على عقد الزواج، والشاهد الثاني عبدالرزاق البصير رحمة الله عليه». وفي مكان آخر، قالت ما مفاده إنها بدأت مع رضا الفيلي صغيرين وكبرا معا، واصفة ذلك بقمة السعادة واللذة في حياتهما، ومؤكدة أنهما اعتمدا بصورة مطلقة على نفسيهما، بدليل أنهما استأجرا شقة صغيرة مكونة من غرفة واحدة وسفرة ومطبخ بجوار المطافي بشارع الهلالي، كي تكون عش الزوجية الذي توطدت أركانه بميلاد الأبناء خالد وخلود ونجود وعنود.
أما المنعطف الثالث فتمثل بسفر الزوجين معا إلى الولايات المتحدة في عام 1969، حيث ابتُعث الفيلي إلى هناك لاستكمال دراسته الجامعية في مجال الإعلام، فيما سافرت هي معه كمرافقة أولا، قبل أن تحصل من وزارة الإعلام على إجازة مفتوحة للدراسة. وقد استغلت أمل فترة وجودها مع زوجها في الولايات المتحدة، والتي انتهت في عام 1974، بدراسة الإعلام والعلاقات الدولية، ناهيك عن اكتساب المعارف الإضافية من خلال الاحتكاك بالمجتمع الأمريكي متعدد الأطياف والثقافات.
.. واستراحة لعقدين سبقت رحيل «العلامة الفارقة»
بعد 33 عاما من العطاء، والجلوس خلف ميكروفونات الإذاعة أو الوقوف أمام كاميرات التلفزيون، بكل ما استوجبته ظروف البدايات المبكرة من مشقة مضاعفة وعمل متواصل ومحاولات دؤوبة لتجاوز النواقص، قررت أمل جعفر في عام 1993 أن تترجل وتعتزل العمل الإعلامي، بعدما شعرت أنها قدمت وأعطت لوطنها كل ما عندها، ناهيك عن أمر آخر ألح عليها كي تعتزل وهو التفرغ لرعاية أبنائها وبناتها وأحفادها. غير أنها لم تنقطع عن الأصدقاء الكثر الذين تعرفت عليهم خلال مشوارها الإعلامي، فظلت متواصلة معهم.
في حوارها المشار إليه آنفا مع جريدة عالم اليوم نجدها تتحدث بحرقة وأسى حول تراجع دور الكويت في إثراء المشهد الخليجي والعربي بالمهرجانات الإذاعية والتلفزيونية، قائلة: «كانت الكويت أول دولة خليجية إعلاميا لدرجة أن أشقاءنا من سلطنة عمان والسعودية والبحرين والإمارات يتدربون على أيدينا، وكنت أنا إحدى المدربات للمذيعين والمذيعات والمخرجين. الآن لا نعلم إلى أين ذهب الإعلام الكويتي.. ولولا القنوات الخاصة بإمكاناتها لغاب الإعلام الكويتي».
من الطرائف التي كانت أمل جعفر بطلتها خلال عملها بالإذاعة الكويتية يوم أن كانت الأخيرة مجرد «شبرات» داخل كراج تابع للأمن العام أنها ــ بسبب الارتباك والرهبة ــ نطقت عبارة «أيها الساعة السادة الآن» بدلا من عبارة «أيها السادة الساعة الآن».
وفي يوم 12 كانون الثاني/ يناير 2014 غيب الموت أمل جعفر عن واحد وسبعين عاما، من بعد صراع طويل مع المرض. فنعاها واثنى عليها كبار رموز الإعلام في وطنها، وفي مقدمتهم وزير الإعلام، وزير الدولة لشئون الشباب الشيخ سلمان صباح الحمود الصباح الذي وصفها بـ «العلامة الفارقة في سماء الإعلام الكويتي من خلال ما قدمته من برامج إذاعية وتلفزيونية عديدة باللغة الإنجليزية لتمثل شعاع ثقافة كويتنا بالنسبة للجاليات الأجنبية الموجودة على أرض الكويت، وقبسا إعلاميا كويتيا إلى دول العالم».