محمد نصيف.. الصرح المنيف
الجمعة / 21 / ذو القعدة / 1439 هـ الجمعة 03 أغسطس 2018 03:16
قراءة: د. عبدالله المدني - أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين
والمعروف تاريخيا أيضا أن الشريف حسين بن علي نزل في هذا البيت بعد وصوله إلى جدة بحرا من الأستانة في الثالث من ديسمبر 1908 لاستلام إمارة مكة بموجب فرمان من الخليفة العثماني عبدالحميد، كما أن الوالي التركي على الحجاز كان يتخذ منه مقرا لإقامته في فصل الربيع، ناهيك عن أن آخر الخلفاء العثمانيين السلطان «محمد وحيد» أقام به أيضا بعد أن عزله وطرده مصطفى كمال أتاتورك من الأستانة. عن هذا البيت/القصر كتبت صحيفة الشرق الأوسط (8/ 11/ 2013) قائلة إنه «يحتوي على حمام تركي وصهريج في أسفله تجتمع فيه مياه الأمطار (...) ويتميز بـ(الرواشين)، وهي عبارة عن التغطية الخشبية البارزة للنوافذ والفتحات الخارجية، ويعتبر الخشب هو العنصر الأساسي في تصميم هذه الرواشين، ويقال إن الشيخ عمر أفندي قام باستيراد كميات ضخمة من الأخشاب من الهند وإندونيسيا لهذا الغرض. وتعتبر النوافذ والرواشين وأبواب الواجهات والزخارف والنقوش من أهم المفردات المعمارية والجمالية التي تُميز البيت». أما صحيفة «البلاد» السعودية (12/7/2017) فقد كتبت: «ثمة مقولة تجدها حاضرة في المجتمع الجداوي، ولا سيما عند استقبالهم لزائر من خارج المدينة «إن زرت جدة ولم تعرج إلى (بيت نصيف) فكأنك لم تزرها»، ونضيف إلى ما ذكرته الصحيفتان أن البيت شيد من نوع من الحجارة تحافظ على البرودة وتمتص الحرارة والرطوبة، وأنه استخدم في بنائه أخشاب سفينة إنجليزية كانت غارقة على ساحل جدة، علاوة على الأخشاب المستوردة من الهند وإندونيسيا.
يذكر أن المغفور له الملك فيصل أمر بشراء البيت بمبلغ 3.3 مليون ريال كي يكون ملكا للدولة ومن أجل الحفاظ عليه كأثر تاريخي تحت إشراف إدارة الآثار بوزارة المعارف.
من شخصيات العائلة البارزة مؤسسها وعميدها عمر بن عبدالله بن أبوبكر بن محمد نصيف الشهير بـ«عمر أفندي نصيف»، ووصفته المراجع بـ«كبير أعيان جدة»، ووكيل شريف مكة، بل وكيل كل من كان يتولى إمارة مكة من الأشراف، وصاحب الصلة الوثيقة بالوالي التركي في الحجاز زمن الدولة العثمانية. وعمر أفندي نصيف هو والد عالم الدين ووجيه جدة وصاحب مكتبة نصيف المرحوم الشيخ «محمد حسين نصيف» الذي هو محور حديثنا هنا.
محمد نصيف.. تاريخ يمشي
عن الشيخ محمد حسين نصيف كتبت مجلة (قافلة الزيت) في عددها لشهر ديسمبر 1956 -بتصرف-، واصفة إياه بـ«صاحب الطلعة النورانية، والوجه الذي يطفح بالبشر والإيمان، والهدوء الذي يوحي إليك بالثقة والاطمئنان، والابتسامة المشرقة التي تدل على الدماثة والرضا، والإشعاع الذي ينم عن الذكاء وحضور البديهة». ثم أضافت المجلة قائلة: «ذلك هو شيخنا الرابض في مجلسه، الذي ربما لم يفارقه منذ عشرات السنين. في تلك الجلسة التقليدية التي تبدأ صباح كل يوم يشاهد فيها من تلك النافذة كل ما يدور في ذلك السوق، وما يمر بالبلد من حوادث، ويمد يده بين الحين والآخر إلى علبة يتناول منها بعض القروش التي يتصدق بها على من يمد يده إلى تلك النافذة، طالبا صدقة وإحسانا».
ووصفه علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر قائلا: «الشيخ محمد نصيف، نسيج وحده بين أبناء عصره: سماحة نفس، ورجاحة عقل، ورقة طبع». ووصفه الشيخ علي الطنطاوي بأنه «كان تاريخا يمشي على الأرض، يعرف الناس والكتب والأنساب، وكان لبيبا أصيلا متواضعا غير متكلف، وقد فتح الله عليه ويسر له سبل الرزق». وفي مكان آخر قال عنه الطنطاوي: «كان نبيلاً أصيلاً لا متكلفاً وكان طبعاً فيه لا تطبعاً فلو أراد العدول عنه لما استطاع». أما الشيخ محمد المانع مدير المعارف السابق في السعودية فقد قال عنه: «لم نعلم في الحجاز رجلا يساويه في الكرم، وحسن الخلق». وعن سجاياه ولباسه كتب وزير الإعلام السعودي السابق الدكتور محمد عبده يماني في مدونته قائلا: «وقد لبس زيه الحجازي والعمة ملتفة على رأسه والسديري يزين ملابسه، وكان الرجل في غاية الأناقة وعلى أدب جم عندما يتحدث إلى الناس (...)، وعندما نجلس إليه نجده علما وعالما في العلوم الإسلامية عامة وفي الأدب والشعر والتاريخ على وجه الخصوص، وبهذا كنا نأنس بمجلسه ونسعى إليه».
توفي في الطائف ودفن بجدة
ولد محمد حسين نصيف في الأول من يوليو 1885 وتوفي في الطائف في 30 يوليو 1971 حيث صلي عليه في «مسجد المعمار» قبل أن يُنقل جثمانه إلى جدة ليدفن في «مقبرة الأسد». وقد ترك الرجل وراءه -طبقا لصحيفة المدينة السعودية (مصدر سابق)- أربعة أبناء، هم: حسين بن محمد نصيف (تولى رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجدة وتوفي عام 1372هـ، وهو مؤلف الكتاب المرجعي الشهير «ماضي الحجاز وحاضره»)، عمر بن محمد نصيف (أول من ابتعث للدراسة في كلية المعلمين بالقاهرة، وأول من تخرج فيها من السعوديين. عمل في التدريس وتولى إدارة أوقاف جدة ورئاسة بلديتها. توفي عام 1382هـ، وهو والد الدكتور عبدالله عمر نصيف الذي شغل مناصب مدير جامعة الملك عبدالعزيز، فأمين عام رابطة العالم الإسلامي، فنائب رئيس مجلس الشورى)، عبدالقادر بن محمد نصيف (عمل لفترة من الزمن في سلك التعليم مدرسا للغة الإنجليزية)، وعزة بنت محمد نصيف (وهي زوجة الشيخ محمد عمر جمجوم).
كان جده لأبيه (عمر أفندي نصيف) تزوج فلم يرزق إلا بذرية من البنات، ثم تزوج للمرة الثانية فرزق بولد وحيد سماه حسين (والد الشيخ محمد نصيف)، لكن الأخير توفي في ريعان شبابه، تاركا خلفه ابنه الصغير محمد الذي تولى الجد عمر أفندي نصيف تربيته ورعايته، وتوفير البيئة الصحية له للتزود بالعلم، وكان مثل هذه البيئة متوفرا في بيت العائلة الذي كانت مكتبته مكتنزة بأمهات الكتب، وكانت قاعاته على الدوام مزدحمة بالعلماء ورجال السياسة والفكر والضيوف من داخل الحجاز وخارجها.
وهكذا حفظ الرجل في سن مبكرة القرآن الكريم الذي حببه في القراءة، فراح يطلع على مختلف الكتب الدينية والدنيوية، ويخصص جزءا من وقته للنظر في المسائل الشرعية والفقهية المحتاجة للبحث والتأمل، وجزءا آخر للالتقاء بطلبة العلم وكبار العلماء، وصولا إلى حصوله على عدد من الإجازات المختلفة في علوم الدين من بعد تتلمذه على أيدي علماء من أمثال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي المدرس في الحرم المكي، والشيخ عبدالقادر التلمساني، والشيخ أبوبكر خوقير، والشيخ أحمد النجار، طبقا لما كتبه عنه منصور العساف في جريدة الرياض (23/1/2015).
آل نصيف في جدة، عائلة من أعرق عائلات الحجاز وأكثرها ذكرا في تاريخ المنطقة (إلى جانب آل زينل)؛ بسبب ما كان لأبنائها من دور في إشاعة العلم ومحاربة البدع والخرافات، وطباعة الكتب وتوزيعها بالمجان، والاهتمام بطلبة العلم ورعاية شؤونهم، والتواصل مع رجالات الفكر في الداخل والخارج، والإنفاق على أوجه الخير، والكرم اللا محدود. يشهد على
علو مقامهم بيت العائلة الواقع في وسط مدينة جدة، الذي يعتبر أحد أهم المعالم الأثرية في عروس البحر الأحمر، علما بأن تاريخ بدء بنائه يعود إلى عام 1872 تقريبا
وتاريخ الانتهاء منه يعود إلى عام 1880 تقريبا، ناهيك عن أنه اكتسب أهمية تاريخية مضاعفة منذ أن نزل فيه الملك المؤسس عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في عام 1925
أي بُعيد دخوله الحجاز، واتخاذه مكانا مؤقتا لاستقبال زواره والمبايعين له بالحكم وعقد الاجتماعات لترتيب أمور الدولة وأوضاع الحجاز. واستمر
الملك يتردد عليه ويقيم به كلما حلّ بجدة إلى أن تم الانتهاء من بناء القصر الأخضر كقصر خاص للملك المؤسس.
يشيع المعرفة بالمجان.. مكتبته مقصد الباحثين
لا بد من الإشارة أيضا إلى ميزة تميز بها نصيف وهي البحث عن الكتب والمخطوطات، وتتبع النادر منها، وشراؤها وجمعها، وإعادة طباعتها على نفقته الخاصة، وتوزيعها مجانا على المهتمين وطلبة العلم الذين كان يستضيف غير المقتدرين منهم في بيته. فقد عكف منذ شبابه على الولع بمثل هذه الأنشطة، الأمر الذي أثمر عن تكوينه مكتبة خاصة ضخمة. هذه المكتبة التي عُرفت لاحقا باسم «مكتبة الشيخ محمد نصيف»، وتم التبرع بمحتوياتها النادرة، بعد وفاة صاحبها، للمكتبة المركزية بجامعة الملك عبدالعزيز. قال فيها أمين الريحاني في الجزء الأول من كتابه «ملوك العرب» (ص 52): «إن عنده مكتبة حافلة بالقديم والحديث من التآليف، لا يقتنيها للعرض فقط بل ينتفع بها، يجيء الأدباء إلى دار الشيخ محمد كأنها دار الكتب العمومية، فيعيرهم ما يشاؤون منها، ويشتري ما يعرضون من مخطوطات أو مطبوع، وهو دائرة معارف ناطقة يجيب على السؤالات التي توجه إليه ويهدي إلى مصادر الثقة في العلوم الأدبية والتاريخية والفقهية». فمن الكتب التي قام نصيف بطبعها ونشرها بماله الخاص: كتاب «الأنوار الكاشفة» وكتاب «التنكيل» للشيخ عبدالرحمن المعلمي اليماني، وكتاب «الجواب الباهر في حكم زيارة المقابر» لابن تيمية، وكتاب «العلو للعلي الغفار» للحافظ محمد أحمد الذهبي.
ومن النوادر التي ضمها إلى مكتبته تلك، طبقا لتحقيق مجلة قافلة الزيت: كتاب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني المكون من 13 جزءا من طباعة المطبعة الأميرية المصرية في سنة 1896، وكان يباع وقت ظهوره بجنيهين من الذهب، ثم صار نادرا فبيع بـ15 جنيها ذهبيا، وكتاب «تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل» للقاضي القلاني، وهو كتاب في التوحيد بحث نصيف عن نسخته الأصلية فلم يجدها إلا في إسطنبول، فطلبها وصورها واحتفظ بالنسخة المصورة في مكتبته، وكتاب «تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف» لجمال الدين أبوالحجاج يوسف المزي، وهو كتاب في الحديث والسنة مكون من 8 مجلدات.
من سوق الإماء.. كان الشغف بالكتاب!
ولبدايات تكوين مكتبة الشيخ محمد نصيف قصة طريفة رواها بنفسه ومفادها أن جده الشيخ عمر أفندي أرسله ذات يوم مع حاجب قصره، بعد أن زود الأخير ببعض الجنيهات، إلى السوق لشراء أمة لحفيده كي تقوم بخدمته. وحينما رأى الحفيد، أي الشيخ محمد نصيف، طريقة بيع الإماء وما فيها من امتهان لكرامتهن وإنسانيتهن وسوء معاملة من قبل الدلالين اشمأزت نفسه وقفل عائدا، ولكن في طريق عودته شاءت الصدف أن يمر بمكتبة لأحد العلماء يعرضها ورثته للبيع، فأخذ المال من الحاجب واشترى به المكتبة، ثم أسرع إلى جده ليخبره بما فعل، فاستحسن الجد تصرفه، وعدّه بشرى خير وعلامة مبكرة على نبوغ حفيده ووجود رغبة جامحة لديه في التحصيل وطلب العلم. وفي واقعة أخرى مشابهة قال الشيخ محمد نصيف لمجلة قافلة الزيت: «في يوم من أيام الصيف القاسية الشديدة الحر، جئت البيت لاهثا، والعرق يتصبب من جبيني وأطرافي، ودخلتُ على جدي -رحمه الله- وأنا فرح نشوان، فاستغرب حالي ومنظري. قلتُ وأنا لا أتمالك نفسي من الفرح: اشتريت يا جدي ثلاثين جزءا من تفسير القرآن لابن جرير الطبري والسعر خمسة جنيهات.. فأطرق جدي برهة ثم رفع رأسه وقال بحنو: يا ولدي.. المائة والخمسون جنيها هي قيمة بيت أجرته بالسنة 10 جنيهات.. قلت: لا.. لا.. يا جدي.. الـ30 جزءا بـ5 جنيهات، فأخرج جدي الخمسة جنيهات وناولني إياها، وقبلني، ثم قال: أنت مصرح لك أنْ تشتري كتبا بألف جنيه». ومع مرور الزمن كبرت المكتبة كنتيجة لحرص صاحبها على تزويدها بكل مفيد ونادر، وجعلها مثل مائدته مفتوحة لكل من يريد الغرف منها، حيث قال حفيده الدكتور عبدالله عمر نصيف في حوار مع صحيفة المدينة: «المكتبة والضيافة والوجاهة كان لها تأثير إيجابي كبير. كان له -أي جده- ضيوف في بيته على الدوام. إذا لم يكن هناك ضيوف يطلب منا أن نقف على باب البيت لندعو المارة ليتناولوا الطعام».
حظي باحترام القيادة.. وزينل «أصدقاؤه الخلص»
تواصل الشيخ محمد نصيف الذي كان على الدوام موضع احترام الملك عبدالعزيز، ومن بعده موضع احترام وتقدير أبنائه الملوك والأمراء، في حياته مع ثلة من الأعلام من خارج السعودية، وارتبط بهم بروابط الصداقة والعلم، من هؤلاء: صاحب المنار «محمد رشيد رضا»، ومن علماء وأدباء مصر المشايخ طه الساكت وأحمد الشرباصي ومحمد عرفة وعبداللطيف السبكي، ومن علماء الشام بهجت البيطار ومصطفى الزرقا والدكتور مصطفى السباعي ومحب الدين الخطيب والشيخان أحمد محمد شاكر ومحمود محمد شاكر، ومن العراق العلامة الشيخ محمود الألوسي واللواء الركن محمود شيت خطاب، ومن الجزائر العلامة مبارك الميلي والشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ ابن باديس الجزائري، ومن المغرب الأديب الشاعر الدكتور تقي الدين الهلالي، وغيرهم كثير.
في أواخر الخمسينات سألوه: مَن أصدقاؤك الخلص؟ فأجاب قائلا: «الحاج يوسف زينل وأخوه الأكبر الحاج محمد علي زينل الموجود في بومباي وهو من تجار المجوهرات. أما الحاج يوسف زينل فغني عن التعريف، فهو موسوعة من الخلق والرقة والمعرفة، حاضر البديهة، واعي الذاكرة، يحدثك في التاريخ كأنه يقرأ في كتاب مفتوح.. إنه ثروة كبيرة ليس لهذا البلد فحسب، بل لكل البلاد العربية والعالم الإسلامي».
يذكر أن المغفور له الملك فيصل أمر بشراء البيت بمبلغ 3.3 مليون ريال كي يكون ملكا للدولة ومن أجل الحفاظ عليه كأثر تاريخي تحت إشراف إدارة الآثار بوزارة المعارف.
من شخصيات العائلة البارزة مؤسسها وعميدها عمر بن عبدالله بن أبوبكر بن محمد نصيف الشهير بـ«عمر أفندي نصيف»، ووصفته المراجع بـ«كبير أعيان جدة»، ووكيل شريف مكة، بل وكيل كل من كان يتولى إمارة مكة من الأشراف، وصاحب الصلة الوثيقة بالوالي التركي في الحجاز زمن الدولة العثمانية. وعمر أفندي نصيف هو والد عالم الدين ووجيه جدة وصاحب مكتبة نصيف المرحوم الشيخ «محمد حسين نصيف» الذي هو محور حديثنا هنا.
محمد نصيف.. تاريخ يمشي
عن الشيخ محمد حسين نصيف كتبت مجلة (قافلة الزيت) في عددها لشهر ديسمبر 1956 -بتصرف-، واصفة إياه بـ«صاحب الطلعة النورانية، والوجه الذي يطفح بالبشر والإيمان، والهدوء الذي يوحي إليك بالثقة والاطمئنان، والابتسامة المشرقة التي تدل على الدماثة والرضا، والإشعاع الذي ينم عن الذكاء وحضور البديهة». ثم أضافت المجلة قائلة: «ذلك هو شيخنا الرابض في مجلسه، الذي ربما لم يفارقه منذ عشرات السنين. في تلك الجلسة التقليدية التي تبدأ صباح كل يوم يشاهد فيها من تلك النافذة كل ما يدور في ذلك السوق، وما يمر بالبلد من حوادث، ويمد يده بين الحين والآخر إلى علبة يتناول منها بعض القروش التي يتصدق بها على من يمد يده إلى تلك النافذة، طالبا صدقة وإحسانا».
ووصفه علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر قائلا: «الشيخ محمد نصيف، نسيج وحده بين أبناء عصره: سماحة نفس، ورجاحة عقل، ورقة طبع». ووصفه الشيخ علي الطنطاوي بأنه «كان تاريخا يمشي على الأرض، يعرف الناس والكتب والأنساب، وكان لبيبا أصيلا متواضعا غير متكلف، وقد فتح الله عليه ويسر له سبل الرزق». وفي مكان آخر قال عنه الطنطاوي: «كان نبيلاً أصيلاً لا متكلفاً وكان طبعاً فيه لا تطبعاً فلو أراد العدول عنه لما استطاع». أما الشيخ محمد المانع مدير المعارف السابق في السعودية فقد قال عنه: «لم نعلم في الحجاز رجلا يساويه في الكرم، وحسن الخلق». وعن سجاياه ولباسه كتب وزير الإعلام السعودي السابق الدكتور محمد عبده يماني في مدونته قائلا: «وقد لبس زيه الحجازي والعمة ملتفة على رأسه والسديري يزين ملابسه، وكان الرجل في غاية الأناقة وعلى أدب جم عندما يتحدث إلى الناس (...)، وعندما نجلس إليه نجده علما وعالما في العلوم الإسلامية عامة وفي الأدب والشعر والتاريخ على وجه الخصوص، وبهذا كنا نأنس بمجلسه ونسعى إليه».
توفي في الطائف ودفن بجدة
ولد محمد حسين نصيف في الأول من يوليو 1885 وتوفي في الطائف في 30 يوليو 1971 حيث صلي عليه في «مسجد المعمار» قبل أن يُنقل جثمانه إلى جدة ليدفن في «مقبرة الأسد». وقد ترك الرجل وراءه -طبقا لصحيفة المدينة السعودية (مصدر سابق)- أربعة أبناء، هم: حسين بن محمد نصيف (تولى رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجدة وتوفي عام 1372هـ، وهو مؤلف الكتاب المرجعي الشهير «ماضي الحجاز وحاضره»)، عمر بن محمد نصيف (أول من ابتعث للدراسة في كلية المعلمين بالقاهرة، وأول من تخرج فيها من السعوديين. عمل في التدريس وتولى إدارة أوقاف جدة ورئاسة بلديتها. توفي عام 1382هـ، وهو والد الدكتور عبدالله عمر نصيف الذي شغل مناصب مدير جامعة الملك عبدالعزيز، فأمين عام رابطة العالم الإسلامي، فنائب رئيس مجلس الشورى)، عبدالقادر بن محمد نصيف (عمل لفترة من الزمن في سلك التعليم مدرسا للغة الإنجليزية)، وعزة بنت محمد نصيف (وهي زوجة الشيخ محمد عمر جمجوم).
كان جده لأبيه (عمر أفندي نصيف) تزوج فلم يرزق إلا بذرية من البنات، ثم تزوج للمرة الثانية فرزق بولد وحيد سماه حسين (والد الشيخ محمد نصيف)، لكن الأخير توفي في ريعان شبابه، تاركا خلفه ابنه الصغير محمد الذي تولى الجد عمر أفندي نصيف تربيته ورعايته، وتوفير البيئة الصحية له للتزود بالعلم، وكان مثل هذه البيئة متوفرا في بيت العائلة الذي كانت مكتبته مكتنزة بأمهات الكتب، وكانت قاعاته على الدوام مزدحمة بالعلماء ورجال السياسة والفكر والضيوف من داخل الحجاز وخارجها.
وهكذا حفظ الرجل في سن مبكرة القرآن الكريم الذي حببه في القراءة، فراح يطلع على مختلف الكتب الدينية والدنيوية، ويخصص جزءا من وقته للنظر في المسائل الشرعية والفقهية المحتاجة للبحث والتأمل، وجزءا آخر للالتقاء بطلبة العلم وكبار العلماء، وصولا إلى حصوله على عدد من الإجازات المختلفة في علوم الدين من بعد تتلمذه على أيدي علماء من أمثال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي المدرس في الحرم المكي، والشيخ عبدالقادر التلمساني، والشيخ أبوبكر خوقير، والشيخ أحمد النجار، طبقا لما كتبه عنه منصور العساف في جريدة الرياض (23/1/2015).
آل نصيف في جدة، عائلة من أعرق عائلات الحجاز وأكثرها ذكرا في تاريخ المنطقة (إلى جانب آل زينل)؛ بسبب ما كان لأبنائها من دور في إشاعة العلم ومحاربة البدع والخرافات، وطباعة الكتب وتوزيعها بالمجان، والاهتمام بطلبة العلم ورعاية شؤونهم، والتواصل مع رجالات الفكر في الداخل والخارج، والإنفاق على أوجه الخير، والكرم اللا محدود. يشهد على
علو مقامهم بيت العائلة الواقع في وسط مدينة جدة، الذي يعتبر أحد أهم المعالم الأثرية في عروس البحر الأحمر، علما بأن تاريخ بدء بنائه يعود إلى عام 1872 تقريبا
وتاريخ الانتهاء منه يعود إلى عام 1880 تقريبا، ناهيك عن أنه اكتسب أهمية تاريخية مضاعفة منذ أن نزل فيه الملك المؤسس عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في عام 1925
أي بُعيد دخوله الحجاز، واتخاذه مكانا مؤقتا لاستقبال زواره والمبايعين له بالحكم وعقد الاجتماعات لترتيب أمور الدولة وأوضاع الحجاز. واستمر
الملك يتردد عليه ويقيم به كلما حلّ بجدة إلى أن تم الانتهاء من بناء القصر الأخضر كقصر خاص للملك المؤسس.
يشيع المعرفة بالمجان.. مكتبته مقصد الباحثين
لا بد من الإشارة أيضا إلى ميزة تميز بها نصيف وهي البحث عن الكتب والمخطوطات، وتتبع النادر منها، وشراؤها وجمعها، وإعادة طباعتها على نفقته الخاصة، وتوزيعها مجانا على المهتمين وطلبة العلم الذين كان يستضيف غير المقتدرين منهم في بيته. فقد عكف منذ شبابه على الولع بمثل هذه الأنشطة، الأمر الذي أثمر عن تكوينه مكتبة خاصة ضخمة. هذه المكتبة التي عُرفت لاحقا باسم «مكتبة الشيخ محمد نصيف»، وتم التبرع بمحتوياتها النادرة، بعد وفاة صاحبها، للمكتبة المركزية بجامعة الملك عبدالعزيز. قال فيها أمين الريحاني في الجزء الأول من كتابه «ملوك العرب» (ص 52): «إن عنده مكتبة حافلة بالقديم والحديث من التآليف، لا يقتنيها للعرض فقط بل ينتفع بها، يجيء الأدباء إلى دار الشيخ محمد كأنها دار الكتب العمومية، فيعيرهم ما يشاؤون منها، ويشتري ما يعرضون من مخطوطات أو مطبوع، وهو دائرة معارف ناطقة يجيب على السؤالات التي توجه إليه ويهدي إلى مصادر الثقة في العلوم الأدبية والتاريخية والفقهية». فمن الكتب التي قام نصيف بطبعها ونشرها بماله الخاص: كتاب «الأنوار الكاشفة» وكتاب «التنكيل» للشيخ عبدالرحمن المعلمي اليماني، وكتاب «الجواب الباهر في حكم زيارة المقابر» لابن تيمية، وكتاب «العلو للعلي الغفار» للحافظ محمد أحمد الذهبي.
ومن النوادر التي ضمها إلى مكتبته تلك، طبقا لتحقيق مجلة قافلة الزيت: كتاب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني المكون من 13 جزءا من طباعة المطبعة الأميرية المصرية في سنة 1896، وكان يباع وقت ظهوره بجنيهين من الذهب، ثم صار نادرا فبيع بـ15 جنيها ذهبيا، وكتاب «تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل» للقاضي القلاني، وهو كتاب في التوحيد بحث نصيف عن نسخته الأصلية فلم يجدها إلا في إسطنبول، فطلبها وصورها واحتفظ بالنسخة المصورة في مكتبته، وكتاب «تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف» لجمال الدين أبوالحجاج يوسف المزي، وهو كتاب في الحديث والسنة مكون من 8 مجلدات.
من سوق الإماء.. كان الشغف بالكتاب!
ولبدايات تكوين مكتبة الشيخ محمد نصيف قصة طريفة رواها بنفسه ومفادها أن جده الشيخ عمر أفندي أرسله ذات يوم مع حاجب قصره، بعد أن زود الأخير ببعض الجنيهات، إلى السوق لشراء أمة لحفيده كي تقوم بخدمته. وحينما رأى الحفيد، أي الشيخ محمد نصيف، طريقة بيع الإماء وما فيها من امتهان لكرامتهن وإنسانيتهن وسوء معاملة من قبل الدلالين اشمأزت نفسه وقفل عائدا، ولكن في طريق عودته شاءت الصدف أن يمر بمكتبة لأحد العلماء يعرضها ورثته للبيع، فأخذ المال من الحاجب واشترى به المكتبة، ثم أسرع إلى جده ليخبره بما فعل، فاستحسن الجد تصرفه، وعدّه بشرى خير وعلامة مبكرة على نبوغ حفيده ووجود رغبة جامحة لديه في التحصيل وطلب العلم. وفي واقعة أخرى مشابهة قال الشيخ محمد نصيف لمجلة قافلة الزيت: «في يوم من أيام الصيف القاسية الشديدة الحر، جئت البيت لاهثا، والعرق يتصبب من جبيني وأطرافي، ودخلتُ على جدي -رحمه الله- وأنا فرح نشوان، فاستغرب حالي ومنظري. قلتُ وأنا لا أتمالك نفسي من الفرح: اشتريت يا جدي ثلاثين جزءا من تفسير القرآن لابن جرير الطبري والسعر خمسة جنيهات.. فأطرق جدي برهة ثم رفع رأسه وقال بحنو: يا ولدي.. المائة والخمسون جنيها هي قيمة بيت أجرته بالسنة 10 جنيهات.. قلت: لا.. لا.. يا جدي.. الـ30 جزءا بـ5 جنيهات، فأخرج جدي الخمسة جنيهات وناولني إياها، وقبلني، ثم قال: أنت مصرح لك أنْ تشتري كتبا بألف جنيه». ومع مرور الزمن كبرت المكتبة كنتيجة لحرص صاحبها على تزويدها بكل مفيد ونادر، وجعلها مثل مائدته مفتوحة لكل من يريد الغرف منها، حيث قال حفيده الدكتور عبدالله عمر نصيف في حوار مع صحيفة المدينة: «المكتبة والضيافة والوجاهة كان لها تأثير إيجابي كبير. كان له -أي جده- ضيوف في بيته على الدوام. إذا لم يكن هناك ضيوف يطلب منا أن نقف على باب البيت لندعو المارة ليتناولوا الطعام».
حظي باحترام القيادة.. وزينل «أصدقاؤه الخلص»
تواصل الشيخ محمد نصيف الذي كان على الدوام موضع احترام الملك عبدالعزيز، ومن بعده موضع احترام وتقدير أبنائه الملوك والأمراء، في حياته مع ثلة من الأعلام من خارج السعودية، وارتبط بهم بروابط الصداقة والعلم، من هؤلاء: صاحب المنار «محمد رشيد رضا»، ومن علماء وأدباء مصر المشايخ طه الساكت وأحمد الشرباصي ومحمد عرفة وعبداللطيف السبكي، ومن علماء الشام بهجت البيطار ومصطفى الزرقا والدكتور مصطفى السباعي ومحب الدين الخطيب والشيخان أحمد محمد شاكر ومحمود محمد شاكر، ومن العراق العلامة الشيخ محمود الألوسي واللواء الركن محمود شيت خطاب، ومن الجزائر العلامة مبارك الميلي والشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ ابن باديس الجزائري، ومن المغرب الأديب الشاعر الدكتور تقي الدين الهلالي، وغيرهم كثير.
في أواخر الخمسينات سألوه: مَن أصدقاؤك الخلص؟ فأجاب قائلا: «الحاج يوسف زينل وأخوه الأكبر الحاج محمد علي زينل الموجود في بومباي وهو من تجار المجوهرات. أما الحاج يوسف زينل فغني عن التعريف، فهو موسوعة من الخلق والرقة والمعرفة، حاضر البديهة، واعي الذاكرة، يحدثك في التاريخ كأنه يقرأ في كتاب مفتوح.. إنه ثروة كبيرة ليس لهذا البلد فحسب، بل لكل البلاد العربية والعالم الإسلامي».