لقاء الملك عبدالله بتاتشر.. الحــكْمة في الأوقات الصعبة
كيف نجح ولي العهد آنذاك في إقناع المرأة الحــــديدية بالكف عن شراء صادرات النفط الإيراني؟
الأربعاء / 26 / ذو القعدة / 1439 هـ الأربعاء 08 أغسطس 2018 02:30
ياسين أحمد (لندن) Okaz_Online@
ظل ملوك السعودية وأولياء عهدهم أطرافاً فاعلة في الحفاظ على «العلاقات الخاصة» بين السعودية وبريطانيا، التي أقامها مؤسس المملكة وموحدها الملك الراحل عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود ورئيس الوزراء الراحل سير ونستون تشرشل قبل أكثر من 80 عاماً. وبقيت تلك العلاقة على ثباتها ورسوخها على رغم المنعطفات والأزمات. وتحولت خلال زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لندن في فبراير الماضي، إلى «علاقات خاصة إستراتيجية». وقام ولي العهد (الملك) الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود بدور مؤثر للحفاظ على تلك الروابط خلال إحدى أشد اللحظات حلكة في تاريخ العلاقة الخاصة، خلال زيارة قام بها لبريطانيا من 22 إلى 25 فبراير 1984. وتؤكد وثائق أرشيف الحكومة البريطانية (الذي حصلت «عكاظ» على إذن حصري للاطلاع عليه) أن حكمة الملك عبدالله -كان آنذاك ولياً لعهد الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز- جعلته يضع في حسبانه أسوأ السيناريوهات التي يمكن توقعها، وكيفية التواؤم معها. وبالطبع فإن حكمته تجلت أكثر بعد توليه الحكم، في مسيرة مظفرة، انتهت بوفاته -رحمه الله- في مطلع 2015 ليتولى قيادة المملكة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، الذي يقوم بجهود جبارة وإصلاحات تاريخية واسعة يسانده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان «عراب رؤية المملكة 2030» التي تجد إشادة عالمية.
كانت العلاقات السعودية الأمريكية في تلك الفترة أشبه بما كانت عليه أخيراً في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، على رغم أنها بقيت راسخة ومتجذرة، يقودها تحالف لا يهتز على مواجهة التهديد المتمثل بإيران الخمينية، والتشكيك بوضع كل البيض في سلّة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وكان الاتحاد السوفيتي السابق على شفا الانهيار الذي حدث بالفعل نهاية ذلك العقد التاريخي.
زار الملك عبدالله (ولي عهد السعودية آنذاك) لندن لتأكيد قدرة السعودية على تنويع علاقاتها وتحالفاتها. وكان ذلك بحد ذاته موقفاً سعودياً حازماً بوجه السياسة الأمريكية تجاه لبنان آنذاك. ففي عام 1984 انسحبت الولايات المتحدة من لبنان، تاركة الحكومة اللبنانية التي تساندها السعودية في وضع لا تحسد عليه، وهي تحاول التصدي للتدخل الإيراني في شؤونها. وعلى رغم أن الولايات المتحدة ظلت تساند السياسة السعودية بشكل غير مباشر، فإن زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لبريطانيا جاءت قبل زيارتين قام بهما لكل من باكستان وكوريا الجنوبية، في سياق مسعى الرياض لتنويع علاقاتها السياسية.
كانت ثمة ضرورة لتعزيز علاقات السعودية بالدول الأخرى. وكانت الساحة الداخلية في السعودية يسودها الجيل الخاضع لتأثير جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية والدعاة «السروريين» الذين حرصوا على غسل أدمغة شباب ذلك الجيل بأن أفضل خيار تسلكه الدولة السعودية -بحسب تصورهم المريض- أن تحترف التدمير والتطرف باسم «مناهضة الإمبريالية». وكانت زيارة الملك عبدالله لبريطانيا ترمي لحمل المواطنين المخلصين في ولائهم للقيادة بأن قيادتهم إنما تسعى إلى تحقيق مصلحة الوطن فوق كل اعتبار آخر.
لم تكن بريطانيا، عشية زيارة الملك عبدالله، بتلك القوة المالية التي نراها حالياً. لكنه ببُعد نظره وفكره الثاقب حرص على تعزيز العلاقة مع لندن ليفيد منها في مقبل الأيام. فما إن تولى الحكم إثر وفاة الملك فهد -رحمه الله- حتى باشر إصلاحات مهمة، وأظهرت لمن غسل أدمغتهم «بروباجندا» «الإخوان المسلمين» المناهضة للمصلحة الوطنية الحقيقية أنه لن تكون هناك أية مساحة يمكنهم أن يستغلوها منصة لعملهم في هذا المجتمع.
وعلى رغم أن وثائق الأرشيف البريطاني تشير إلى أن زيارة الملك عبدالله لم تأتِ بتخطيط مسبق، وأنه كان يقضي عطلة في أوروبا وقرر زيارة لندن في طريق عودته إلى المملكة؛ إلا أن وقائع الزيارة تؤكد أن الملك عبدالله جاء لبريطانيا في «مهمة عمل». وأوضح سفير بريطانيا لدى المملكة آنذاك سير جيمس كريغ، في برقياته ورسائله، أن حكومة جلالة الملكة اليزابيث قدمت الدعوة إلى ولي العهد آنذاك لزيارة لندن منذ نحو سنتين. وقال سير جيمس إنه كلما ذكّر الملك عبدالله بالدعوة البريطانية كان رد الملك الراحل: إن شاء الله.
لم يكن هدف الملك عبدالله تقوية العلاقة الخاصة فحسب؛ بل تنويع تحالفات السعودية في العالم. كما أن السعودية كانت قلقة من قيام بريطانيا ببيع معدات عسكرية لإيران. وتدرك السعودية أن إيران تستخدم تلك المعدات في سياق مسعاها لاستخدام لبنان قاعدة لبناء دولة شيعية كبرى، عرفت لاحقاً بما يسمى «الهلال الشيعي». وكانت السعودية تدرك جيداً مخاطر ميليشيا حزب الله التي أنشأتها إيران مطلع ثمانينات القرن الـ20. طبعاً لم يكن «حزب الله» آنذاك يملك أية براعة في العلاقات العامة، كما هي حاله الآن، ليدعي أنه ميليشيا لمقاتلين من أجل الحرية، أو أنهم مناهضون للإمبريالية يملكون قناة «برس تي في»، ويحظون بمساندة اليساريين كزعيم حزب العمال الحالي جيريمي كوربن الذي تم تصويره في مسيرات رُفع خلالها عَلَم حزب الله الأصفر. كان «حزب الله» في ذلك الوقت لا يعدو أن يكون تنظيم «داعش» الشيعي، بل إن زعيمه حسن نصر الله أعلن صراحة، في مقابلة تلفزيونية، أن هدفهم هو تأسيس دولة شيعية تمتد من إيران شرقاً حتى لبنان غرباً.
وكان الغرب منشغلاً خلال تلك الحقبة بفرض قيود على مساعي إيران وصدام حسين لتوسيع نفوذ نظاميهما. والمثير تاريخياً أن كلاً منهما كان عدواً للآخر!
إطلالة على شخصية الملك عبدالله
كانت زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لبريطانيا فرصة لإلقائها نظرة عن كثب على شخصية هذا القائد. وطبقاً للوثائق البريطانية المصنفة باعتبارها «بروفايلات» للزعماء الأجانب، فإن الملك عبدالله شخص يتسم بالحياء، ويتحدث بتهذيب عالٍ. وهو وصف لم يخالف الواقع الذي يعرفه السعوديون عن ولي العهد الذي صار أحد أبرز ملوك السعودية، إذ إنه رجل عطوف وكثير الإحسان للآخرين.
لكنه بالطبع كان له وجه آخر لا يقبل التهاون في حق، ولا السكوت على الظلم. وهو وجه يبقى معروفاً لمن يحضرون الاجتماعات المغلقة. غير أن السعوديين والعالم، خصوصاً الغربيين، عرفوا إقدام الملك عبدالله وشجاعته، حين تصدى للرد على الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي على الهواء مباشرة في قمة مشهورة لجامعة الدول العربية في القاهرة عام 2003.
كان مضحكاً حقاً ومثيراً للسخرية وصف القذافي السعودية بأنها تابعة للغرب، بينما كان سفير الولايات المتحدة لدى الرياض آنذاك يشكو إلى واشنطن من أنه أضحى صعباً عليه الاتصال مباشرة بالديوان الملكي السعودي، بل قال إنه طلب مقابلة رفيعة بالديوان، وظل ينتظر الرد لمدة 34 ساعة، بحسب وثائق الأرشيف البريطاني. إنه سلوك يظهر استقلال الدولة والقيادة السعودية على رغم التحالف مع الولايات المتحدة. كما يظهر حنكة القيادة السعودية التي تتصرف بحكمة في مثل هذه الأزمات، وليس بتهور وعاطفية. ويؤكد أنها تضع مصالح شعبها قبل كل اعتبار آخر. ولهذا استجابت بريطانيا طلباً للملك عبدالله بن عبدالعزيز (ولي العهد آنذاك) للكف عن شراء النفط الإيراني.
وبحث الملك عبدالله خلال لقائه رئيسة الحكومة آنذاك تاتشر تعاون الحرس الوطني مع بريطانيا في مستشفياته.
وعقد ولي العهد (الملك) الراحل اجتماعاً مع وزير الخارجية البريطاني سير جيفري هاو، حضره سفير لندن لدى الرياض سير جيمس كريغ. وطبقاً للوثائق فإن الملك عبدالله لم يتحدث إلا بقدر حاجته إلى الحديث. وأوضح للجانب البريطاني أنه يريد إجابات بريطانية إزاء الأوضاع الملتهبة آنذاك في لبنان، وبين العراق وإيران. وفي ضوء الموقف الرمادي للولايات المتحدة، فقد أراد الملك عبدالله أن يعرف على وجه التحديد هل بريطانيا مع السعودية أم ضدها؟ ولاحظ الجانب البريطاني أن الملك عبدالله قادم لتوه من دمشق، حيث التقى الرئيس حافظ الأسد، وسعى لاستقطابه إلى الصف العربي المعتدل، لا أن يترك سورية فريسة للإيرانيين كما هي حالها اليوم في عهد ابنه بشار الأسد. وتشير الوثائق إلى أن الملك عبدالله -الذي وصفته بأنه «ثاقب الذكاء»- طلب من البريطانيين أن يعرف أفكارهم، وليس مواقفهم.
قال وزير الخارجية هاو لولي العهد السعودي آنذاك إنه في ما يتعلق بإيران والعراق ولبنان، يصعب معرفة ما يمكن أن تأتي به إيران لطاولة مفاوضات. وشدد على ضرورة موقف دولي موحد لمعالجة هذه القضية، واعداً بأن تبذل بريطانيا قصارى جهدها على صعيد مجلس الأمن الدولي، والمحافل الأخرى. لكن الملك عبدالله عاجله بسؤال عما إذا كان ممكناً التوصل إلى موقف دولي «موحَّد». وبدا واضحاً أن الملك عبدالله كان رجلاً راسخاً في الواقعية، لا المثالية، وأنه يفهم جيداً الواقع الصعب للسياسة الدولية، وأنها ليست مكاناً لتحقيق الأحلام، وإنما هي ساحة تتطلب تنازلات وصبراً. وهو ما تجلّى في سياساته بعد توليه الحكم، وإقدامه على سلسلة من الإصلاحات التي سعى إلى أن يستوعبها المجتمع السعودي آنذاك. ونجح الملك عبدالله في حمل بريطانيا على اتخاذ موقف صارم تجاه إيران: وقف تصدير الأسلحة البريطانية لنظام الملالي. غير أن ذلك وحده لم يكن كافياً بالنسبة لولي العهد، فقد تمسك -في محادثاته مع سير جيفري، بحضور سير جيمس- بضرورة أن يشمل الإجراء البريطاني أيضاً وقف تصدير قطع الغيار البريطانية إلى طهران. فأصرّ الوزير سير جيفري على أن بريطانيا لا تقدم أي مساعدات عسكرية لإيران. لكن الملك عبدالله لم يكن شخصاً يمكن أن يتقبل تلك الإجابات من دون مزيد من الأسئلة. فقد أصرّ على استمرار التطرق لإيران، من دون أن يخرج عن تهذيبه الجم. وتحت وطأة ذلك العناد، اضطر مسؤول بريطاني للاعتراف بأن بريطانيا تقدم إلى إيران قطع غيار عسكرية بموجب عقد تم توقيعه على عهد الشاه محمد رضا بهلوي، قبل سنوات من مجيء الخميني إلى السلطة. أبلغ الملك عبدالله الجانب البريطاني بأن إحلال الاستقرار والسلام في المنطقة يحتم إبطال تلك العقود، بسبب سياسات النظام الإيراني الذي أطاح بنظام الشاه. وشدد على أن إلغاء تلك العقود سيخدم مصالح بريطانيا بالأساس. وبذلك ضمن ولي العهد السعودي آنذاك أن بريطانيا ستتخذ قراراً يحقق مطالب بلاده. فقد تلقى قبيل مغادرته لندن وعداً من حكومة جلالة الملكة اليزابيث بأنها ستضمن توقف شركات النفط البريطانية عن شراء النفط الإيراني. وكانت شركة «بريتش بتروليوم» (BP) توقفت فعلياً عن شرائه، فيما واصلت شركة «شل» شراء كميات ضئيلة من النفط الإيراني. وشدد الملك عبدالله في محادثاته مع البريطانيين على أن أي قرارات بريطانية من ذلك القبيل سيكون لها تأثير نفسي كبير على نظام الخميني، وسياساته التوسعية، وتهديداته للمصالح العليا لدول المنطقة.
ثناء بريطاني على الملك سلمان
وتتضمن وثائق ملف العلاقات البريطانية - السعودية ثناء حاراً من وزير الخارجية البريطاني سير جيفري هاو على أمير الرياض آنذاك (الملك سلمان بن عبدالعزيز). فقد كانت هناك قضية تتعلق بمقيم بريطاني في الرياض، وأثنى سير جيفري على حسن معالجة أمير الرياض (الملك سلمان) لهذا الملف. وقال الملك عبدالله لسير جيفري إنه تلقى شخصياً معلومات قبيل مغادرته إلى بريطانيا بأن تلك القضية حُلت بما يرضي جميع الأطراف.
لقاء نادر مع تاتشر
عقب لقائه وزير الخارجية، توجه الملك عبدالله إلى لقاء رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، التي أعربت في مستهل اجتماعها عن سعادتها الكبيرة بالاحترام والتقدير الذي يعامل به السعوديون الساسة البريطانيين. وأضافت أن وزير دفاعها مايكل هزلتاين أبلغها بأنه قام بزيارة ناجحة للرياض. بيد أن الشأن اللبناني هو الذي طغى على الاجتماع. كانت السعودية اقترحت آنذاك حكومة وحدة وطنية في لبنان على أساس تقاسم السلطة بين مختلف المكونات السياسية اللبنانية. وكان الملك عبدالله زار لتوه دمشق، حيث يُعتقد بأن الرئيس حافظ الأسد كان رافضاً المقترح السعودي، وعلى رغم أن الأسد (الأب) تظاهر بأنه تقبل اقتراحاً من الملك عبدالله بن عبدالعزيز بأن تترك جميع الأطراف لبنان دون تدخل بين أفرقائه، إلا أنه عمد إلى احتلال لبنان.
وسعى الملك عبدالله إلى التقليل من شأن التقارير الصحفية التي تمسكت بأن المقترح بشأن لبنان سعودي، مشدداً على أنه اقتراح مقبول من ساسة لبنان. وبالنسبة للملك عبدالله فإن الأمن الإقليمي أهم من أن تدعي السعودية إنجاز إحلال السلام في لبنان.
ويبدو من وثائق اجتماع تاتشر - ولي العهد آنذاك، أن الملك عبدالله قرر أن يحدد بنفسه بنود ذلك اللقاء. فقد طلب من تاتشر تغيير موضوع النقاش إلى إيران والعراق. وتحدث الملك عبدالله عن ضرورة وقف مبيعات السلاح البريطانية لإيران، والامتناع عن شراء نفطها. وكررت تاتشر الموقف البريطاني الذي يذهب إلى أن الصادرات العسكرية وقطع الغيار تتم بموجب عقود تم إبرامها قبل اندلاع ثورة الخميني الدموية. وأكدت أن تلك المبيعات توقفت، وإذا كانت إيران تحصل على أي أسلحة أو قطع غيار بريطانية فلا بد أن ذلك يتم عبر باب خلفي، وليس من خلال السياسة البريطانية المعلنة. واستطاع الملك عبدالله أن ينتزع من تاتشر انتقاداً بريطانياً نادراً لإسرائيل، إذ شجبت نفاق الإسرائيليين الذين استمروا في تزويد إيران بالأسلحة بعد سقوط الشاه.
وذكرت تاتشر أن إسرائيل إنما تخون بذلك تحالفها مع الولايات المتحدة.
وتؤكد هذه الوثيقة، بل تفضح نفاق إيران التي تزعم بأنها تمثل جميع المسلمين في سعيها إلى تحرير فلسطين، وهي في الوقت نفسه تشتري من الإسرائيليين سلاحاً في مقابل أموال يوظفونها لقتل مزيد من الفلسطينيين.
تاتشر تكسر البروتوكول
كانت تاتشر حريصة على لقاءٍ ثانٍ بالملك عبدالله. ولذلك قررت أن تكسر البروتوكول الذي ترعاه حكومتها بقبولها دعوة إلى مأدبة عشاء أقامها الملك عبدالله في لندن. وكان واضحاً أنها تدرك جيداً القيمة الحقيقية والفعلية للقادة السعوديين. وكانت قد وعدت سفير إيطاليا في لندن بأنها ستحضر مأدبة عشاء سيقيمها في مقر سفارته، لكن مكتبها اعتذر بشكل مفاجئ للسفير الإيطالي، لأسباب بروتوكولية.
وخلال مأدبة ولي العهد السعودي آنذاك، ألقت تاتشر كلمة أثنت فيها على ملوك السعودية، لقيامهم بتحديث المملكة في زمن قصير، مع حفاظهم على تقاليدها. وبدت رئيسة الوزراء متأثرة جداً بذلك التحول السعودي وهي تخطط أفكارها لاستنساخ تجربة النهوض الاقتصادي والاجتماعي، الذي من شأنه وضع حد للانهيار العام الذي ورثته عند مجيئها للحكم.
ويمكن القول إن ذلك ربما كان سبب حماستها للقاءٍ ثانٍ مع ولي عهد السعودية.
لجنة ثقافية مشتركة
تشير الوثائق الحكومية إلى أن البريطانيين والسعوديين اقترحوا آنذاك تشكيل «لجنة ثقافية مشتركة» تتلخص فكرتها في إقامة معارض، وعرض أفلام، لإظهار الصورة الحقيقية للمملكة. وتحوي وثيقة بهذا الشأن تشكيك مسؤولين بريطانيين في ما إذا كانت تلك الوسائل ستحدث الأثر المطلوب منها. بينما أقر آخرون بجدواها لأن الإعلام المقروء والمسموع كان الوسيلة الوحيدة لتزود المتلقى بالمعلومات.
وتورد الوثيقة انتقادات حكومية بريطانية لتغطية الإعلام البريطاني لزيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للندن. فقد زعم المحرر الدبلوماسي لصحيفة «التايمز» أن السعودية تسعى للنأي بنفسها عن حليفتها الولايات المتحدة. وذلك على رغم أن صحيفته وغيرها من الصحف نشرت أنباء صفقة سلاح أمريكية لكل من السعودية والأردن لاستخدامها في لبنان. وأعرب المسؤولون البريطانيون، طبقاً للوثيقة نفسها، عن اشمئزازهم من زعم تقرير المحلل الدبلوماسي نفسه وجود خلافات في السعودية. ولا تزال هذه «الفِرْية» الأداة المفضلة لمن يريدون تضليل قرائهم ومشاهديهم ومستمعيهم، بشأن استقرار السعودية ورسوخ أمنها. وتقول الوثيقة إن المسؤولين البريطانيين أكدوا أنه لا يوجد أي دليل على صحة تلك المزاعم، وأنهم لم يستشفوا شيئاً من ذلك من خلال تعاملاتهم مع السعوديين.
للفروسية
توضح وثائق وزارة الخارجية والكومونويلث التي تتحدث عن شخصية الملك عبدالله بن عبدالعزيز أنه محب متحمس للفروسية والسباقات. وتتضمن إشارة إلى أن الملكة اليزابيث التقت بالملك عبدالله بنادي الفروسية بالرياض في عام 1979، وهي رياضة يتشاركان التعلق بها. كما تذكر الوثائق أن الملك عبدالله يحب رحلات الصيد في الصحراء، وأن تلك الرحلات قادته أحياناً حتى سورية والعراق. وتشير أيضاً إلى أنه متحمس جداً للعسكرية، إذ تجلت زعامته وشخصيته من خلال قيادته للحرس الوطني، وحرصه على تعليم اثنين من أبنائه بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية البريطانية. وتنبه الوثائق مسؤولي الحكومة البريطانية لتفادي الإشارة إلى تغطية الصحافة البريطانية للعلاقات مع السعودية. ونصيحتها لأولئك المسؤولين أن السعوديين عادة ما يتجاهلون الأخبار السالبة على أمل أن تتقادم فينساها قارئوها. وفي حال تطرق الحديث لهذا الشأن، فعليهم الرد بأن البريطانيين أنفسهم ليسوا بمأمن من تناول الصحف، وأنهم لا يملكون سلطة تجعلهم يوجهون الصحافة بأي شكل. وبالطبع فإن الأمور تغيرت كلياً في العصر الحاضر. فقد عززت وسائل التواصل الاجتماعي سطوتها بما تستطيعه من بث أخبار مزيفة عن السعودية. وهو ما أضحى يحتم على السعودية الرد في حينه، بما يضع النقاط على أحرف وجهة النظر السعودية إزاء التضليل الإعلامي المقصود.
الحكومة البريطانية تشيد بـ«عكاظ»
وأخيراً، فإن من التنقيب في ملفات الوثائق الحكومية البريطانية ثناء مسؤولي الحكومة في لندن على تغطية «عكاظ» ومتابعتها للأحداث السياسية. فقد أعربوا عن تقديرهم لاهتمام صحيفة «عكاظ» بإبراز وجهة نظر رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر حول الأهمية الإستراتيجية للمملكة العربية السعودية. وتقول الوثيقة: «هذه هي أكثر تغطية إيجابية لبريطانيا التي يمكن لأي منّا هنا أن يتذكرها». وتنوه الوثيقة بأن «عكاظ» كان لها قصب السبق إلى ذلك. وتشيد بـ«عكاظ» للأثر الطيب الذي وفرته لـ«العلاقة الخاصة» بين المملكتين. وأشارت الوثيقة إلى أن نشر «عكاظ» صور معدات عسكرية بريطانية أدى إلى تحسين وضع بريطانيا في المنطقة. ولا بد أن ذلك التقدير شجع رجال الأعمال البريطانيين على أنهم سيجدون ترحيباً وتقديراً في السعودية، في وقت كانت ماكينة الدعاية المضللة الغربية تستميت لرسم صورة للسعودي باعتباره معادياً للغربيين. وتذكر الوثيقة بوضوح أن تلك الصورة الإيجابية لبريطانيا في الصحافة السعودية تؤثر بشكل كبير في توفير استقبال حسن للبريطانيين في المملكة.
كانت العلاقات السعودية الأمريكية في تلك الفترة أشبه بما كانت عليه أخيراً في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، على رغم أنها بقيت راسخة ومتجذرة، يقودها تحالف لا يهتز على مواجهة التهديد المتمثل بإيران الخمينية، والتشكيك بوضع كل البيض في سلّة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وكان الاتحاد السوفيتي السابق على شفا الانهيار الذي حدث بالفعل نهاية ذلك العقد التاريخي.
زار الملك عبدالله (ولي عهد السعودية آنذاك) لندن لتأكيد قدرة السعودية على تنويع علاقاتها وتحالفاتها. وكان ذلك بحد ذاته موقفاً سعودياً حازماً بوجه السياسة الأمريكية تجاه لبنان آنذاك. ففي عام 1984 انسحبت الولايات المتحدة من لبنان، تاركة الحكومة اللبنانية التي تساندها السعودية في وضع لا تحسد عليه، وهي تحاول التصدي للتدخل الإيراني في شؤونها. وعلى رغم أن الولايات المتحدة ظلت تساند السياسة السعودية بشكل غير مباشر، فإن زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لبريطانيا جاءت قبل زيارتين قام بهما لكل من باكستان وكوريا الجنوبية، في سياق مسعى الرياض لتنويع علاقاتها السياسية.
كانت ثمة ضرورة لتعزيز علاقات السعودية بالدول الأخرى. وكانت الساحة الداخلية في السعودية يسودها الجيل الخاضع لتأثير جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية والدعاة «السروريين» الذين حرصوا على غسل أدمغة شباب ذلك الجيل بأن أفضل خيار تسلكه الدولة السعودية -بحسب تصورهم المريض- أن تحترف التدمير والتطرف باسم «مناهضة الإمبريالية». وكانت زيارة الملك عبدالله لبريطانيا ترمي لحمل المواطنين المخلصين في ولائهم للقيادة بأن قيادتهم إنما تسعى إلى تحقيق مصلحة الوطن فوق كل اعتبار آخر.
لم تكن بريطانيا، عشية زيارة الملك عبدالله، بتلك القوة المالية التي نراها حالياً. لكنه ببُعد نظره وفكره الثاقب حرص على تعزيز العلاقة مع لندن ليفيد منها في مقبل الأيام. فما إن تولى الحكم إثر وفاة الملك فهد -رحمه الله- حتى باشر إصلاحات مهمة، وأظهرت لمن غسل أدمغتهم «بروباجندا» «الإخوان المسلمين» المناهضة للمصلحة الوطنية الحقيقية أنه لن تكون هناك أية مساحة يمكنهم أن يستغلوها منصة لعملهم في هذا المجتمع.
وعلى رغم أن وثائق الأرشيف البريطاني تشير إلى أن زيارة الملك عبدالله لم تأتِ بتخطيط مسبق، وأنه كان يقضي عطلة في أوروبا وقرر زيارة لندن في طريق عودته إلى المملكة؛ إلا أن وقائع الزيارة تؤكد أن الملك عبدالله جاء لبريطانيا في «مهمة عمل». وأوضح سفير بريطانيا لدى المملكة آنذاك سير جيمس كريغ، في برقياته ورسائله، أن حكومة جلالة الملكة اليزابيث قدمت الدعوة إلى ولي العهد آنذاك لزيارة لندن منذ نحو سنتين. وقال سير جيمس إنه كلما ذكّر الملك عبدالله بالدعوة البريطانية كان رد الملك الراحل: إن شاء الله.
لم يكن هدف الملك عبدالله تقوية العلاقة الخاصة فحسب؛ بل تنويع تحالفات السعودية في العالم. كما أن السعودية كانت قلقة من قيام بريطانيا ببيع معدات عسكرية لإيران. وتدرك السعودية أن إيران تستخدم تلك المعدات في سياق مسعاها لاستخدام لبنان قاعدة لبناء دولة شيعية كبرى، عرفت لاحقاً بما يسمى «الهلال الشيعي». وكانت السعودية تدرك جيداً مخاطر ميليشيا حزب الله التي أنشأتها إيران مطلع ثمانينات القرن الـ20. طبعاً لم يكن «حزب الله» آنذاك يملك أية براعة في العلاقات العامة، كما هي حاله الآن، ليدعي أنه ميليشيا لمقاتلين من أجل الحرية، أو أنهم مناهضون للإمبريالية يملكون قناة «برس تي في»، ويحظون بمساندة اليساريين كزعيم حزب العمال الحالي جيريمي كوربن الذي تم تصويره في مسيرات رُفع خلالها عَلَم حزب الله الأصفر. كان «حزب الله» في ذلك الوقت لا يعدو أن يكون تنظيم «داعش» الشيعي، بل إن زعيمه حسن نصر الله أعلن صراحة، في مقابلة تلفزيونية، أن هدفهم هو تأسيس دولة شيعية تمتد من إيران شرقاً حتى لبنان غرباً.
وكان الغرب منشغلاً خلال تلك الحقبة بفرض قيود على مساعي إيران وصدام حسين لتوسيع نفوذ نظاميهما. والمثير تاريخياً أن كلاً منهما كان عدواً للآخر!
إطلالة على شخصية الملك عبدالله
كانت زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لبريطانيا فرصة لإلقائها نظرة عن كثب على شخصية هذا القائد. وطبقاً للوثائق البريطانية المصنفة باعتبارها «بروفايلات» للزعماء الأجانب، فإن الملك عبدالله شخص يتسم بالحياء، ويتحدث بتهذيب عالٍ. وهو وصف لم يخالف الواقع الذي يعرفه السعوديون عن ولي العهد الذي صار أحد أبرز ملوك السعودية، إذ إنه رجل عطوف وكثير الإحسان للآخرين.
لكنه بالطبع كان له وجه آخر لا يقبل التهاون في حق، ولا السكوت على الظلم. وهو وجه يبقى معروفاً لمن يحضرون الاجتماعات المغلقة. غير أن السعوديين والعالم، خصوصاً الغربيين، عرفوا إقدام الملك عبدالله وشجاعته، حين تصدى للرد على الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي على الهواء مباشرة في قمة مشهورة لجامعة الدول العربية في القاهرة عام 2003.
كان مضحكاً حقاً ومثيراً للسخرية وصف القذافي السعودية بأنها تابعة للغرب، بينما كان سفير الولايات المتحدة لدى الرياض آنذاك يشكو إلى واشنطن من أنه أضحى صعباً عليه الاتصال مباشرة بالديوان الملكي السعودي، بل قال إنه طلب مقابلة رفيعة بالديوان، وظل ينتظر الرد لمدة 34 ساعة، بحسب وثائق الأرشيف البريطاني. إنه سلوك يظهر استقلال الدولة والقيادة السعودية على رغم التحالف مع الولايات المتحدة. كما يظهر حنكة القيادة السعودية التي تتصرف بحكمة في مثل هذه الأزمات، وليس بتهور وعاطفية. ويؤكد أنها تضع مصالح شعبها قبل كل اعتبار آخر. ولهذا استجابت بريطانيا طلباً للملك عبدالله بن عبدالعزيز (ولي العهد آنذاك) للكف عن شراء النفط الإيراني.
وبحث الملك عبدالله خلال لقائه رئيسة الحكومة آنذاك تاتشر تعاون الحرس الوطني مع بريطانيا في مستشفياته.
وعقد ولي العهد (الملك) الراحل اجتماعاً مع وزير الخارجية البريطاني سير جيفري هاو، حضره سفير لندن لدى الرياض سير جيمس كريغ. وطبقاً للوثائق فإن الملك عبدالله لم يتحدث إلا بقدر حاجته إلى الحديث. وأوضح للجانب البريطاني أنه يريد إجابات بريطانية إزاء الأوضاع الملتهبة آنذاك في لبنان، وبين العراق وإيران. وفي ضوء الموقف الرمادي للولايات المتحدة، فقد أراد الملك عبدالله أن يعرف على وجه التحديد هل بريطانيا مع السعودية أم ضدها؟ ولاحظ الجانب البريطاني أن الملك عبدالله قادم لتوه من دمشق، حيث التقى الرئيس حافظ الأسد، وسعى لاستقطابه إلى الصف العربي المعتدل، لا أن يترك سورية فريسة للإيرانيين كما هي حالها اليوم في عهد ابنه بشار الأسد. وتشير الوثائق إلى أن الملك عبدالله -الذي وصفته بأنه «ثاقب الذكاء»- طلب من البريطانيين أن يعرف أفكارهم، وليس مواقفهم.
قال وزير الخارجية هاو لولي العهد السعودي آنذاك إنه في ما يتعلق بإيران والعراق ولبنان، يصعب معرفة ما يمكن أن تأتي به إيران لطاولة مفاوضات. وشدد على ضرورة موقف دولي موحد لمعالجة هذه القضية، واعداً بأن تبذل بريطانيا قصارى جهدها على صعيد مجلس الأمن الدولي، والمحافل الأخرى. لكن الملك عبدالله عاجله بسؤال عما إذا كان ممكناً التوصل إلى موقف دولي «موحَّد». وبدا واضحاً أن الملك عبدالله كان رجلاً راسخاً في الواقعية، لا المثالية، وأنه يفهم جيداً الواقع الصعب للسياسة الدولية، وأنها ليست مكاناً لتحقيق الأحلام، وإنما هي ساحة تتطلب تنازلات وصبراً. وهو ما تجلّى في سياساته بعد توليه الحكم، وإقدامه على سلسلة من الإصلاحات التي سعى إلى أن يستوعبها المجتمع السعودي آنذاك. ونجح الملك عبدالله في حمل بريطانيا على اتخاذ موقف صارم تجاه إيران: وقف تصدير الأسلحة البريطانية لنظام الملالي. غير أن ذلك وحده لم يكن كافياً بالنسبة لولي العهد، فقد تمسك -في محادثاته مع سير جيفري، بحضور سير جيمس- بضرورة أن يشمل الإجراء البريطاني أيضاً وقف تصدير قطع الغيار البريطانية إلى طهران. فأصرّ الوزير سير جيفري على أن بريطانيا لا تقدم أي مساعدات عسكرية لإيران. لكن الملك عبدالله لم يكن شخصاً يمكن أن يتقبل تلك الإجابات من دون مزيد من الأسئلة. فقد أصرّ على استمرار التطرق لإيران، من دون أن يخرج عن تهذيبه الجم. وتحت وطأة ذلك العناد، اضطر مسؤول بريطاني للاعتراف بأن بريطانيا تقدم إلى إيران قطع غيار عسكرية بموجب عقد تم توقيعه على عهد الشاه محمد رضا بهلوي، قبل سنوات من مجيء الخميني إلى السلطة. أبلغ الملك عبدالله الجانب البريطاني بأن إحلال الاستقرار والسلام في المنطقة يحتم إبطال تلك العقود، بسبب سياسات النظام الإيراني الذي أطاح بنظام الشاه. وشدد على أن إلغاء تلك العقود سيخدم مصالح بريطانيا بالأساس. وبذلك ضمن ولي العهد السعودي آنذاك أن بريطانيا ستتخذ قراراً يحقق مطالب بلاده. فقد تلقى قبيل مغادرته لندن وعداً من حكومة جلالة الملكة اليزابيث بأنها ستضمن توقف شركات النفط البريطانية عن شراء النفط الإيراني. وكانت شركة «بريتش بتروليوم» (BP) توقفت فعلياً عن شرائه، فيما واصلت شركة «شل» شراء كميات ضئيلة من النفط الإيراني. وشدد الملك عبدالله في محادثاته مع البريطانيين على أن أي قرارات بريطانية من ذلك القبيل سيكون لها تأثير نفسي كبير على نظام الخميني، وسياساته التوسعية، وتهديداته للمصالح العليا لدول المنطقة.
ثناء بريطاني على الملك سلمان
وتتضمن وثائق ملف العلاقات البريطانية - السعودية ثناء حاراً من وزير الخارجية البريطاني سير جيفري هاو على أمير الرياض آنذاك (الملك سلمان بن عبدالعزيز). فقد كانت هناك قضية تتعلق بمقيم بريطاني في الرياض، وأثنى سير جيفري على حسن معالجة أمير الرياض (الملك سلمان) لهذا الملف. وقال الملك عبدالله لسير جيفري إنه تلقى شخصياً معلومات قبيل مغادرته إلى بريطانيا بأن تلك القضية حُلت بما يرضي جميع الأطراف.
لقاء نادر مع تاتشر
عقب لقائه وزير الخارجية، توجه الملك عبدالله إلى لقاء رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر، التي أعربت في مستهل اجتماعها عن سعادتها الكبيرة بالاحترام والتقدير الذي يعامل به السعوديون الساسة البريطانيين. وأضافت أن وزير دفاعها مايكل هزلتاين أبلغها بأنه قام بزيارة ناجحة للرياض. بيد أن الشأن اللبناني هو الذي طغى على الاجتماع. كانت السعودية اقترحت آنذاك حكومة وحدة وطنية في لبنان على أساس تقاسم السلطة بين مختلف المكونات السياسية اللبنانية. وكان الملك عبدالله زار لتوه دمشق، حيث يُعتقد بأن الرئيس حافظ الأسد كان رافضاً المقترح السعودي، وعلى رغم أن الأسد (الأب) تظاهر بأنه تقبل اقتراحاً من الملك عبدالله بن عبدالعزيز بأن تترك جميع الأطراف لبنان دون تدخل بين أفرقائه، إلا أنه عمد إلى احتلال لبنان.
وسعى الملك عبدالله إلى التقليل من شأن التقارير الصحفية التي تمسكت بأن المقترح بشأن لبنان سعودي، مشدداً على أنه اقتراح مقبول من ساسة لبنان. وبالنسبة للملك عبدالله فإن الأمن الإقليمي أهم من أن تدعي السعودية إنجاز إحلال السلام في لبنان.
ويبدو من وثائق اجتماع تاتشر - ولي العهد آنذاك، أن الملك عبدالله قرر أن يحدد بنفسه بنود ذلك اللقاء. فقد طلب من تاتشر تغيير موضوع النقاش إلى إيران والعراق. وتحدث الملك عبدالله عن ضرورة وقف مبيعات السلاح البريطانية لإيران، والامتناع عن شراء نفطها. وكررت تاتشر الموقف البريطاني الذي يذهب إلى أن الصادرات العسكرية وقطع الغيار تتم بموجب عقود تم إبرامها قبل اندلاع ثورة الخميني الدموية. وأكدت أن تلك المبيعات توقفت، وإذا كانت إيران تحصل على أي أسلحة أو قطع غيار بريطانية فلا بد أن ذلك يتم عبر باب خلفي، وليس من خلال السياسة البريطانية المعلنة. واستطاع الملك عبدالله أن ينتزع من تاتشر انتقاداً بريطانياً نادراً لإسرائيل، إذ شجبت نفاق الإسرائيليين الذين استمروا في تزويد إيران بالأسلحة بعد سقوط الشاه.
وذكرت تاتشر أن إسرائيل إنما تخون بذلك تحالفها مع الولايات المتحدة.
وتؤكد هذه الوثيقة، بل تفضح نفاق إيران التي تزعم بأنها تمثل جميع المسلمين في سعيها إلى تحرير فلسطين، وهي في الوقت نفسه تشتري من الإسرائيليين سلاحاً في مقابل أموال يوظفونها لقتل مزيد من الفلسطينيين.
تاتشر تكسر البروتوكول
كانت تاتشر حريصة على لقاءٍ ثانٍ بالملك عبدالله. ولذلك قررت أن تكسر البروتوكول الذي ترعاه حكومتها بقبولها دعوة إلى مأدبة عشاء أقامها الملك عبدالله في لندن. وكان واضحاً أنها تدرك جيداً القيمة الحقيقية والفعلية للقادة السعوديين. وكانت قد وعدت سفير إيطاليا في لندن بأنها ستحضر مأدبة عشاء سيقيمها في مقر سفارته، لكن مكتبها اعتذر بشكل مفاجئ للسفير الإيطالي، لأسباب بروتوكولية.
وخلال مأدبة ولي العهد السعودي آنذاك، ألقت تاتشر كلمة أثنت فيها على ملوك السعودية، لقيامهم بتحديث المملكة في زمن قصير، مع حفاظهم على تقاليدها. وبدت رئيسة الوزراء متأثرة جداً بذلك التحول السعودي وهي تخطط أفكارها لاستنساخ تجربة النهوض الاقتصادي والاجتماعي، الذي من شأنه وضع حد للانهيار العام الذي ورثته عند مجيئها للحكم.
ويمكن القول إن ذلك ربما كان سبب حماستها للقاءٍ ثانٍ مع ولي عهد السعودية.
لجنة ثقافية مشتركة
تشير الوثائق الحكومية إلى أن البريطانيين والسعوديين اقترحوا آنذاك تشكيل «لجنة ثقافية مشتركة» تتلخص فكرتها في إقامة معارض، وعرض أفلام، لإظهار الصورة الحقيقية للمملكة. وتحوي وثيقة بهذا الشأن تشكيك مسؤولين بريطانيين في ما إذا كانت تلك الوسائل ستحدث الأثر المطلوب منها. بينما أقر آخرون بجدواها لأن الإعلام المقروء والمسموع كان الوسيلة الوحيدة لتزود المتلقى بالمعلومات.
وتورد الوثيقة انتقادات حكومية بريطانية لتغطية الإعلام البريطاني لزيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للندن. فقد زعم المحرر الدبلوماسي لصحيفة «التايمز» أن السعودية تسعى للنأي بنفسها عن حليفتها الولايات المتحدة. وذلك على رغم أن صحيفته وغيرها من الصحف نشرت أنباء صفقة سلاح أمريكية لكل من السعودية والأردن لاستخدامها في لبنان. وأعرب المسؤولون البريطانيون، طبقاً للوثيقة نفسها، عن اشمئزازهم من زعم تقرير المحلل الدبلوماسي نفسه وجود خلافات في السعودية. ولا تزال هذه «الفِرْية» الأداة المفضلة لمن يريدون تضليل قرائهم ومشاهديهم ومستمعيهم، بشأن استقرار السعودية ورسوخ أمنها. وتقول الوثيقة إن المسؤولين البريطانيين أكدوا أنه لا يوجد أي دليل على صحة تلك المزاعم، وأنهم لم يستشفوا شيئاً من ذلك من خلال تعاملاتهم مع السعوديين.
للفروسية
توضح وثائق وزارة الخارجية والكومونويلث التي تتحدث عن شخصية الملك عبدالله بن عبدالعزيز أنه محب متحمس للفروسية والسباقات. وتتضمن إشارة إلى أن الملكة اليزابيث التقت بالملك عبدالله بنادي الفروسية بالرياض في عام 1979، وهي رياضة يتشاركان التعلق بها. كما تذكر الوثائق أن الملك عبدالله يحب رحلات الصيد في الصحراء، وأن تلك الرحلات قادته أحياناً حتى سورية والعراق. وتشير أيضاً إلى أنه متحمس جداً للعسكرية، إذ تجلت زعامته وشخصيته من خلال قيادته للحرس الوطني، وحرصه على تعليم اثنين من أبنائه بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية البريطانية. وتنبه الوثائق مسؤولي الحكومة البريطانية لتفادي الإشارة إلى تغطية الصحافة البريطانية للعلاقات مع السعودية. ونصيحتها لأولئك المسؤولين أن السعوديين عادة ما يتجاهلون الأخبار السالبة على أمل أن تتقادم فينساها قارئوها. وفي حال تطرق الحديث لهذا الشأن، فعليهم الرد بأن البريطانيين أنفسهم ليسوا بمأمن من تناول الصحف، وأنهم لا يملكون سلطة تجعلهم يوجهون الصحافة بأي شكل. وبالطبع فإن الأمور تغيرت كلياً في العصر الحاضر. فقد عززت وسائل التواصل الاجتماعي سطوتها بما تستطيعه من بث أخبار مزيفة عن السعودية. وهو ما أضحى يحتم على السعودية الرد في حينه، بما يضع النقاط على أحرف وجهة النظر السعودية إزاء التضليل الإعلامي المقصود.
الحكومة البريطانية تشيد بـ«عكاظ»
وأخيراً، فإن من التنقيب في ملفات الوثائق الحكومية البريطانية ثناء مسؤولي الحكومة في لندن على تغطية «عكاظ» ومتابعتها للأحداث السياسية. فقد أعربوا عن تقديرهم لاهتمام صحيفة «عكاظ» بإبراز وجهة نظر رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر حول الأهمية الإستراتيجية للمملكة العربية السعودية. وتقول الوثيقة: «هذه هي أكثر تغطية إيجابية لبريطانيا التي يمكن لأي منّا هنا أن يتذكرها». وتنوه الوثيقة بأن «عكاظ» كان لها قصب السبق إلى ذلك. وتشيد بـ«عكاظ» للأثر الطيب الذي وفرته لـ«العلاقة الخاصة» بين المملكتين. وأشارت الوثيقة إلى أن نشر «عكاظ» صور معدات عسكرية بريطانية أدى إلى تحسين وضع بريطانيا في المنطقة. ولا بد أن ذلك التقدير شجع رجال الأعمال البريطانيين على أنهم سيجدون ترحيباً وتقديراً في السعودية، في وقت كانت ماكينة الدعاية المضللة الغربية تستميت لرسم صورة للسعودي باعتباره معادياً للغربيين. وتذكر الوثيقة بوضوح أن تلك الصورة الإيجابية لبريطانيا في الصحافة السعودية تؤثر بشكل كبير في توفير استقبال حسن للبريطانيين في المملكة.