سلاح الدولار !
الثلاثاء / 10 / ذو الحجة / 1439 هـ الثلاثاء 21 أغسطس 2018 01:21
طلال صالح بنان
• تُدار حركة الصراع الدولي بعدة أدوات متوفرة، بنِسَب متفاوتة بين الدول. تأتي في مقدمة هذه الأدوات (الأداة الاقتصادية). ومما يجعل الأداة الاقتصادية أكثر حضوراً وتأثيراً على مستوى السياسة الدولية، أنها تطال ليس فقط حركة الصراع الدولي.. بل سلوكيات التعاون بين الدول أيضاً. الدول القوية، نقصد بها الدول الغنية الكبرى، لا تُقدر قوتها بمعايير القوة الصلبة (العسكرية)، بقدر ما تُحسب وتُقَيَّم بقوة ومتانة اقتصادها.
صحيح: الولايات المتحدة قوة عسكرية متقدمة تتمتع بإمكانات ردع استراتيجية متنوعة ومتفوقة، تقليدية وغير تقليدية، بيد أن قوة واشنطن الطاغية هَذِه ليست متفردة.. والأهم: أنها ليست فعالة، بدرجة كافية، لخدمة أجندة سياستها الخارجية.. وحماية مصالحها، والذود عن أمنها القومي.
إلى جانب كون الولايات المتحدة عملاقا اقتصاديا، إلا أن مكانة الهيمنة الكونية التي تعتمد عليها، في ما يخص أدوات سياستها الخارجية الناعمة، هي قوة عملتها القومية (الدولار). الدولار الأمريكي لا يعكس قوة اقتصاد الولايات المتحدة الإنتاجي المتنوع الضخم.. وسوقها الداخلي الكبير.. ونصيبها المتقدم في التجارة الدولية، بقدر كون الدولار العملة الأولى في العالم، التي تُقَيّم وتُقَدّر بها حجم التجارة العالمية.. وكذا ثروة الأمم الأخرى، الغنية والفقيرة على السواء.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وحتى قبيل أن تضع الحرب أوزارها، وُقِّعت اتفاقية بريتون وودز (٢٢ يوليو ١٩٤٤)، التي بموجبها تخلى العالم عن نظام الذهب والإسترليني إلى الدولار، عندما تعهدت الولايات المتحدة، وبموجب تلك الاتفاقية، بأنها تتكفل بتحديد سعر ثابت للذهب، عند قرابة: ٣٧ دولاراً للأوقية. حينها كانت الولايات المتحدة تمتلك ٧٥٪ من ذهب العالم.
هذا طمأن دول العالم، بأن اقتصادياتها وثرواتها، محفوظة لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ذهباً. استمر هذا الحال، حتى عام 1973 عندما أعلن الرئيس الأمريكي، في ما عرف بصدمة نيكسون، عدم قدرة الولايات المتحدة على تحويل الدولار إلى ذهب! عندها شعر العالم أنه تعرض لعملية «نصب دولية». مع ذلك لم يكن أمام العالم من خيار سوى الاستمرار في اعتبار الدولار الأداة النقدية الأكثر قبولاً، إن لم تكن العملة الوحيدة القابلة للتداول بين الدول، لتمويل حركة التجارة الدولية.. وتقدير ثروات الدول.. وأوضاع اقتصادياتها، ومعدلات التنمية بها.
كل السلع والخدمات الأساسية، على مستوى التجارة الدولية والبينية بين الدول تُقَيّمُ بالدولار الأمريكي. أسعار الطاقة.. حجم التجارة الدولية والبينية بين الدول.. حركة رؤوس الأموال، بل حتى التحويلات التي يقوم بها الأفراد، عبر حدود الدول، تتم بالدولار. مؤخراً: بدعوى مكافحة الإرهاب.. وتفشي ظاهرة غسل الأموال، كالاتجار في المخدرات والبشر، تفاقمت قوة واشنطن الاقتصادية، بسيطرتها على حركة الدولار حول العالم.
مؤخراً، أيضاً: استخدمت الولايات المتحدة، الدولار ليس كونه جزرة للتأثير على سلوكيات الكثير من دول العالم.. بل أضحت تستخدمه بمثابة العصا، التي «تؤدب» به من يخرج عن طاعتها، سواء كان من خصومها أم حتى من حلفائها. بالتبعية: طورت الولايات المتحدة نظام المقاطعة الاقتصادية، كنظام موازٍ لنظام المعونة الاقتصادية، إن لم يكن بديلاً عنه، أحياناً.
مع الوقت: أصبح الطلب على الدولار متزايداً، إما طمعاً في ذهب (العم سام) أم خوفاً من سيفه. الاقتصاديات الناشئة، هي الأكثر حساسية للدولار، لدرجة أن معدلات النمو المتزايدة فيها، ليست بعيدة عن سطوة الدولار. هذا ما يحصل، هذه الأيام، لليرة التركية، حيث تتلخص مشكلتها في عجز ميزان المدفوعات التجاري التركي، بالرغم من متانة الاقتصاد التركي الإنتاجية والمتنوعة.. ومعدلات النمو المطردة فيه.
فاتورة الطاقة.. وكذا التزامات استثمارات القطاع المحلي الخاص لسداد أقساط مديونيته.. ولدفعِ نصيب شركائه الدوليين من عوائده، وجميعها تدفع بالدولار، يظهر مدى هشاشة الاقتصاديات الناشئة، التي تلهث وراء النمو، دون حساب مخاطر متغير الدولار.. وسطوته السياسية. وإذا أضفنا إلى ذلك مشاكل تركيا السياسية مع جيرانها ومع الولايات المتحدة، تظهر لنا مدى حساسية الوضع السياسي والاقتصادي في تركيا.
كل ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة بعيدة عن أية آثار سلبية اقتصادية وأمنية، من جراء تماديها في تسييس الوضع المتميز للدولار عالمياً. الأخذ بالسياسات الحمائية.. وتسييس الدولار، يدفع الجميع لإيجاد خيارات اقتصادية بديلة، وبالتبعية: التأثير سلباً على استقرار العالم وسلمه. تطورات محتملة لحروب اقتصادية جراء التمادي من قبل واشنطن لاستخدام سلاح الدولار، إلى مستويات قد تدفع العالم إلى شفير الهاوية. عندها تتقلص قدرة الولايات المتحدة، ليس فقط في الحفاظ على مكانة الدولار كأهم متغيرات هيمنتها على النظام الدولي، إلى التأثير الخطير على اقتصاد الولايات المتحدة نفسها.. بل وإلى الإضرار بأمنها القومي.
الأداة الاقتصادية، إذا لم تُدر بحكمة طبيعتها «الناعمة».. وتجاوزت حدود حركتها الآمنة، فإنها تتحول إلى حروب استراتيجية حامية الوطيس.
* كاتب سعودي
صحيح: الولايات المتحدة قوة عسكرية متقدمة تتمتع بإمكانات ردع استراتيجية متنوعة ومتفوقة، تقليدية وغير تقليدية، بيد أن قوة واشنطن الطاغية هَذِه ليست متفردة.. والأهم: أنها ليست فعالة، بدرجة كافية، لخدمة أجندة سياستها الخارجية.. وحماية مصالحها، والذود عن أمنها القومي.
إلى جانب كون الولايات المتحدة عملاقا اقتصاديا، إلا أن مكانة الهيمنة الكونية التي تعتمد عليها، في ما يخص أدوات سياستها الخارجية الناعمة، هي قوة عملتها القومية (الدولار). الدولار الأمريكي لا يعكس قوة اقتصاد الولايات المتحدة الإنتاجي المتنوع الضخم.. وسوقها الداخلي الكبير.. ونصيبها المتقدم في التجارة الدولية، بقدر كون الدولار العملة الأولى في العالم، التي تُقَيّم وتُقَدّر بها حجم التجارة العالمية.. وكذا ثروة الأمم الأخرى، الغنية والفقيرة على السواء.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وحتى قبيل أن تضع الحرب أوزارها، وُقِّعت اتفاقية بريتون وودز (٢٢ يوليو ١٩٤٤)، التي بموجبها تخلى العالم عن نظام الذهب والإسترليني إلى الدولار، عندما تعهدت الولايات المتحدة، وبموجب تلك الاتفاقية، بأنها تتكفل بتحديد سعر ثابت للذهب، عند قرابة: ٣٧ دولاراً للأوقية. حينها كانت الولايات المتحدة تمتلك ٧٥٪ من ذهب العالم.
هذا طمأن دول العالم، بأن اقتصادياتها وثرواتها، محفوظة لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ذهباً. استمر هذا الحال، حتى عام 1973 عندما أعلن الرئيس الأمريكي، في ما عرف بصدمة نيكسون، عدم قدرة الولايات المتحدة على تحويل الدولار إلى ذهب! عندها شعر العالم أنه تعرض لعملية «نصب دولية». مع ذلك لم يكن أمام العالم من خيار سوى الاستمرار في اعتبار الدولار الأداة النقدية الأكثر قبولاً، إن لم تكن العملة الوحيدة القابلة للتداول بين الدول، لتمويل حركة التجارة الدولية.. وتقدير ثروات الدول.. وأوضاع اقتصادياتها، ومعدلات التنمية بها.
كل السلع والخدمات الأساسية، على مستوى التجارة الدولية والبينية بين الدول تُقَيّمُ بالدولار الأمريكي. أسعار الطاقة.. حجم التجارة الدولية والبينية بين الدول.. حركة رؤوس الأموال، بل حتى التحويلات التي يقوم بها الأفراد، عبر حدود الدول، تتم بالدولار. مؤخراً: بدعوى مكافحة الإرهاب.. وتفشي ظاهرة غسل الأموال، كالاتجار في المخدرات والبشر، تفاقمت قوة واشنطن الاقتصادية، بسيطرتها على حركة الدولار حول العالم.
مؤخراً، أيضاً: استخدمت الولايات المتحدة، الدولار ليس كونه جزرة للتأثير على سلوكيات الكثير من دول العالم.. بل أضحت تستخدمه بمثابة العصا، التي «تؤدب» به من يخرج عن طاعتها، سواء كان من خصومها أم حتى من حلفائها. بالتبعية: طورت الولايات المتحدة نظام المقاطعة الاقتصادية، كنظام موازٍ لنظام المعونة الاقتصادية، إن لم يكن بديلاً عنه، أحياناً.
مع الوقت: أصبح الطلب على الدولار متزايداً، إما طمعاً في ذهب (العم سام) أم خوفاً من سيفه. الاقتصاديات الناشئة، هي الأكثر حساسية للدولار، لدرجة أن معدلات النمو المتزايدة فيها، ليست بعيدة عن سطوة الدولار. هذا ما يحصل، هذه الأيام، لليرة التركية، حيث تتلخص مشكلتها في عجز ميزان المدفوعات التجاري التركي، بالرغم من متانة الاقتصاد التركي الإنتاجية والمتنوعة.. ومعدلات النمو المطردة فيه.
فاتورة الطاقة.. وكذا التزامات استثمارات القطاع المحلي الخاص لسداد أقساط مديونيته.. ولدفعِ نصيب شركائه الدوليين من عوائده، وجميعها تدفع بالدولار، يظهر مدى هشاشة الاقتصاديات الناشئة، التي تلهث وراء النمو، دون حساب مخاطر متغير الدولار.. وسطوته السياسية. وإذا أضفنا إلى ذلك مشاكل تركيا السياسية مع جيرانها ومع الولايات المتحدة، تظهر لنا مدى حساسية الوضع السياسي والاقتصادي في تركيا.
كل ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة بعيدة عن أية آثار سلبية اقتصادية وأمنية، من جراء تماديها في تسييس الوضع المتميز للدولار عالمياً. الأخذ بالسياسات الحمائية.. وتسييس الدولار، يدفع الجميع لإيجاد خيارات اقتصادية بديلة، وبالتبعية: التأثير سلباً على استقرار العالم وسلمه. تطورات محتملة لحروب اقتصادية جراء التمادي من قبل واشنطن لاستخدام سلاح الدولار، إلى مستويات قد تدفع العالم إلى شفير الهاوية. عندها تتقلص قدرة الولايات المتحدة، ليس فقط في الحفاظ على مكانة الدولار كأهم متغيرات هيمنتها على النظام الدولي، إلى التأثير الخطير على اقتصاد الولايات المتحدة نفسها.. بل وإلى الإضرار بأمنها القومي.
الأداة الاقتصادية، إذا لم تُدر بحكمة طبيعتها «الناعمة».. وتجاوزت حدود حركتها الآمنة، فإنها تتحول إلى حروب استراتيجية حامية الوطيس.
* كاتب سعودي