ليلة في كومو
الخميس / 12 / ذو الحجة / 1439 هـ الخميس 23 أغسطس 2018 01:02
أريج الجهني
في إطار رحلتي المعرفية والثقافية أتبادل الزيارات تارة في بيتي وتارة برفقة الصديقات الأوروبيات ذهاباً وإياباً، كانت محطتي الأولى في كومو مدينة السحر والعذوبة والبحيرة الأروع في العالم في الشمال الإيطالي وتبعد عن ميلان نصف ساعة، ذهبت مع رفيقتي الإيطالية «إيمونا» التي عاشت برفقتي عدة أشهر فقررت دعوتي لمنزلها ولعلها المرة الأولى التي أدخل بها منزلا ليس بمنزلي لقضاء ليلة، يا له من شعور مهيب.
فرغم حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة العظيم الذي وجدته من هذا الشعب الجميل والباذخ والمحب للمرح والحياة والطعام الشهي، كنت أشعر بالرهبة، لعل العائق الأكبر الذي اصطدمت به هو عائق اللغة ويليه عائق الخصوصية الذي يتلبسنا أينما كنا، لوهلة استحضرت ذاكرتي كافة وجوه السيدات اللاتي عملن في منزلنا منذ الطفولة جميعهن!
يا إلهي! كم نحن غائبون عن هذا الشعور، شعور أن تدخل منزلاً كغريب لا تفهم ماذا يقول أهله، كانت «إيمونا» بجانبي تترجم لي أحاديث أهلها الجميلة الحانية لي لكنني كنت أستمع وأتصور وجوه الخادمات ورهبة اللغة، وكيف تصرخ النساء في وجوههن إذا لم يفهمن الطلبات! كانت أصواتهم مرتفعة، فالشعب الإيطالي يشبه العرب بنبرات الأصوات وكثرة تحريك الأيدي مما يجعلك لا تفهم هل هم غاضبون أم يمرحون، وهم بالمناسبة جدا مرحون.
اللغة وما أدراك ما اللغة، كم نحن مقصرون في اكتساب لغات متعددة، كمنظمات تعليمية ومجتمعات، فالطالب في بريطانيا يبدأ تعلم الفرنسية أو لغة أخرى في المدارس الحكومية في الصف الخامس ابتدائي، ونحن ما زلنا نفكر في جدوى لغة وهنا أقول «لغة واحدة لا تكفي الحاجة»، لا تنتظروا الزمن بادروا لتعلم لغتين وأكثر.
أعود الآن لأتذكر رهبة الخصوصية وبرودة الغربة، نعم للغربة شعور بارد وقارس يزداد عندما تعلم أنك لست في منزلك، أتذكر عندما أدرت صنبور المياه فخرجت باردة متجمدة أغلقته، وعدت شاحبة الوجه علمت أن لا مكان للدفء خارج عوالمنا الخاصة، كل هذا في أقل من نصف ليلة، أكملت ليلتي بالضحك مع صديقتي وتأمل وجوه المارة، ولكن وجوه العاملات كانت الأكثر حضورا في مخيلتي ليلتها، لأول مرة أشعر بهذا العمق العاطفي عن ألم الغربة.
فمهما كانت الظروف البيئية جيدة، الغربة تحدث عطبا في الروح، يا الله! كم من مغترب لدينا وكم من عاملة وعامل جاءوا وتركوا قلوبهم معلقة هناك، كم جاعوا وخجلوا من طلب ما يشتهون، كم اشتاقوا وباتوا دون أن يشتكوا، كم تعبوا وناموا وهم يئنون، رفقاً رفقاً بهم.
إن التحدث عن الرفق بالخدم شيء وعيش جزء من تجربتهم الإنسانية «كمحاكاة» شيء مختلف جدا جدا، أشجع كلا منكم أن يغادر منطقة راحته ليتألم قليلاً، حتى يتعلم! التعلم من خلال الممارسة أكثر فعالية من التنظيرات والأخلاقيات السطحية التي نتغنى بها صباح مساء.
ليلة في كومو رغم روعتها وجمالها إلا أنها زادت من إحساسي بالمغتربين، وأيقظت بداخلي شموع الغائبين، نعم لم أبك حينها لكنها قد أينعت في خاطري غابات الحنين.
* كاتبة سعودية
فرغم حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة العظيم الذي وجدته من هذا الشعب الجميل والباذخ والمحب للمرح والحياة والطعام الشهي، كنت أشعر بالرهبة، لعل العائق الأكبر الذي اصطدمت به هو عائق اللغة ويليه عائق الخصوصية الذي يتلبسنا أينما كنا، لوهلة استحضرت ذاكرتي كافة وجوه السيدات اللاتي عملن في منزلنا منذ الطفولة جميعهن!
يا إلهي! كم نحن غائبون عن هذا الشعور، شعور أن تدخل منزلاً كغريب لا تفهم ماذا يقول أهله، كانت «إيمونا» بجانبي تترجم لي أحاديث أهلها الجميلة الحانية لي لكنني كنت أستمع وأتصور وجوه الخادمات ورهبة اللغة، وكيف تصرخ النساء في وجوههن إذا لم يفهمن الطلبات! كانت أصواتهم مرتفعة، فالشعب الإيطالي يشبه العرب بنبرات الأصوات وكثرة تحريك الأيدي مما يجعلك لا تفهم هل هم غاضبون أم يمرحون، وهم بالمناسبة جدا مرحون.
اللغة وما أدراك ما اللغة، كم نحن مقصرون في اكتساب لغات متعددة، كمنظمات تعليمية ومجتمعات، فالطالب في بريطانيا يبدأ تعلم الفرنسية أو لغة أخرى في المدارس الحكومية في الصف الخامس ابتدائي، ونحن ما زلنا نفكر في جدوى لغة وهنا أقول «لغة واحدة لا تكفي الحاجة»، لا تنتظروا الزمن بادروا لتعلم لغتين وأكثر.
أعود الآن لأتذكر رهبة الخصوصية وبرودة الغربة، نعم للغربة شعور بارد وقارس يزداد عندما تعلم أنك لست في منزلك، أتذكر عندما أدرت صنبور المياه فخرجت باردة متجمدة أغلقته، وعدت شاحبة الوجه علمت أن لا مكان للدفء خارج عوالمنا الخاصة، كل هذا في أقل من نصف ليلة، أكملت ليلتي بالضحك مع صديقتي وتأمل وجوه المارة، ولكن وجوه العاملات كانت الأكثر حضورا في مخيلتي ليلتها، لأول مرة أشعر بهذا العمق العاطفي عن ألم الغربة.
فمهما كانت الظروف البيئية جيدة، الغربة تحدث عطبا في الروح، يا الله! كم من مغترب لدينا وكم من عاملة وعامل جاءوا وتركوا قلوبهم معلقة هناك، كم جاعوا وخجلوا من طلب ما يشتهون، كم اشتاقوا وباتوا دون أن يشتكوا، كم تعبوا وناموا وهم يئنون، رفقاً رفقاً بهم.
إن التحدث عن الرفق بالخدم شيء وعيش جزء من تجربتهم الإنسانية «كمحاكاة» شيء مختلف جدا جدا، أشجع كلا منكم أن يغادر منطقة راحته ليتألم قليلاً، حتى يتعلم! التعلم من خلال الممارسة أكثر فعالية من التنظيرات والأخلاقيات السطحية التي نتغنى بها صباح مساء.
ليلة في كومو رغم روعتها وجمالها إلا أنها زادت من إحساسي بالمغتربين، وأيقظت بداخلي شموع الغائبين، نعم لم أبك حينها لكنها قد أينعت في خاطري غابات الحنين.
* كاتبة سعودية