ثقافة وفن

غنيمة.. أم الصحافة النسوية في الخليج

المرزوق مع أحفادها، بعيدا عن هموم الصحافة.

قراءة الدكتور عبدالله المدني أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين

في 17 مارس سنة 2013 فقدت الكويت والخليج واحدة من رائدات العمل الصحفي اللواتي اقترن عملهن في مجال الإعلام بأعمال كثيرة أخرى على الأصعدة الاجتماعية والإنسانية والخيرية داخل الكويت وخارجها، بل كانت واحدة من المقاتلات اللواتي وهبن أنفسهن للدفاع عن المرأة الكويتية والخليجية ونشر الوعي حول الشؤون الأسرية.

في ذلك اليوم الحزين غيب الموت، بعد معاناة مع المرض وعلاج طويل في ألمانيا، السيدة «غنيمة فهد المرزوق» عن عمر ناهز 72 عاما، فتم تشييعها ودفنها بمقبرة الصليبيخات وسط حضور كثيف. وبهذا انطفأت شمعة من شموع الخليج التي كافحت وعملت بلا كلل منذ سنوات شبابها الأولى من أجل أن تسود القيم الأسرية النبيلة وأن تُحترم المرأة كمواطنه لها ما للمواطن الرجل من حقوق.

**********

كما يشير لقبها، تنتمي غنيمة المُكناة بـ«أم هلال» إلى عائلة المرزوق الكويتية، والأخيرة اسم رنان في تاريخ الكويت كونها إحدى العائلات التي أهدت البلاد ثلة من المشاهير والنجباء في عوالم التجارة والصحافة والوزارة والبرلمان والدبلوماسية والاقتصاد، ناهيك عن أن عائلة المرزوق اشتهرت بامتلاكها للسفن والمراكب الشراعية الكبيرة وبساتين النخيل في البصرة، علاوة على صولاتها وجولاتها في أعمال الغوص والاتجار باللؤلؤ وتصدير المواد الغذائية والأخشاب التي قادت بعضا من أبناء الأسرة للسكن والعمل في الهند البريطانية، ولاسيما في مدن بمبي وكراتشي وكاليكوت.

وإذا ما عدنا إلى والد السيدة غنيمة وهو «فهد مرزوق المرزوق» نجد أنه كغيره من آل مرزوق استقر في الهند البريطانية وعمل بها تاجرا، وكانت له فيلا سكنية راقية في منطقة جمشيت رود. وقد ساهم كل هذا في اتصاله وتواصله مع حكام الكويت وشيوخها وتجارها، بل واستضافة عدد منهم في بيوته، ناهيك عن نجاحه في نسج علاقات تجارية قوية مع أكبر البيوتات التجارية الهندية. وحينما عاد إلى الكويت واصل نشاطه التجاري وتم اختياره عضوا في مجلس المعارف وعضوا مؤسسا للمجلس البلدي ولبنك الكويت الوطني. وقد كتبت الصحفية المصرية المقيمة في الكويت حمدية خلف في كتابها «دانة في بحر الكويت» الصادر عام 2007 على لسان غنيمة ما يلي: «عن ذكرياتي مع الوالد، كان يقيم في الهند حيث تجارته، وتصادف أن سافر معنا الشيخ عبدالله السالم -أمير البلاد، وكان من عادته أن يمضي إجازته السنوية في الهند، وكان الشيخ عبدالله السالم أديبا وشاعرا وعاشقا للأدب، وكان أخي مرزوق معي، وكان يحفظ المعلقات والأشعار العربية ويتحدث الإنجليزية بطلاقة، كان طالبا في الجامعة الأمريكية ببيروت- وناداه الشيخ ليجلس بجواره، ويتحدث معه في الأدب والشعر ويتسامران، ولم يكن هناك حاجز أبدا بين الشعب الكويتي وحكامه على مدى عمرنا».

ولدت غنيمة المرزوق في الكويت في مطلع أربعينات القرن العشرين، لكنها قضت جزءا من طفولتها، بدءا من سن الرابعة، في الهند بسبب تواجد والدها هناك من أجل التجارة، كما أنها درست فترة قصيرة في إحدى المدارس الهندية مع شقيقتها سارة وشقيقها مرزوق. دعونا نقرأ شيئا مما قالته عن طفولتها بحسب ما أوردته جريدة «الجريدة» الكويتية (18/3/2013): «فترة الطفولة هي أمتع فترات حياتي... حياتي كانت كحياة أي طفلة في مجتمع هادئ بسيط، تربط بين أفراده علاقات الأسرة الواحدة، علاقات حميمية. كانت الكويت عبارة عن أحياء ثلاثة، هي: حي «جبلة» كما ننطقها في الكويت، وحي «شرق»، وحي «وسط»... أنا ولدت في حي «القبلة»، والدي وجدي رحمهما الله كانا يعملان في التجارة. كانت لهما تجارتهما في الهند والكويت. كان البحر مصدر رزق الكويتيين: غوصاً بحثاً عن اللؤلؤ، أو مسرحاً لسفن الكويتيين للتجارة. كنا ميسورين، لكن كنا نتصرف بحساب في الملبس والمأكل. نكاد نقول مجتمع الكويت في زمن الطفولة كان خالياً من المشاكل. كان مجتمعاً بلا مشاكل. مجتمعاً رائعاً منفتحاً يرتبط بالإسلام وبالعروبة، أما عن العلاقة في الأسرة بالنسبة للوالد والوالدة والشقيق والشقيقة فكانت علاقة محبة وصداقة وعلاقة دفء وحرارة ورعاية وحماية وتشجيع للحوار الديموقراطي والشورى، ومن هنا كانت روعة مرحلة الطفولة».

طفولتها بالهند البريطانية

عن ذكريات فترة طفولتها في الهند البريطانية، نقلت صحيفة الأنباء الكويتية (17/3/2013) عنها قولها: «أذكر في هذا الزمن الباكر من عمري أن والدي كانت عنده فيلا لسكنه، وكان ملحقا بها بيت للضيافة، تعود كغيره من الكويتيين المقيمين في الهند وباكستان استقبال ضيوفه فيها، أذكر أن البحارة الكويتيين والآخرين من دول الخليج كانوا عندما يصلون إلى الهند يسكنون عند صاحب السفينة، كان ذلك جزءا من تقاليدنا، كانت بيوت الكويتيين المقيمين في الهند مفتوحة لبحارة السفن الأخرى التي لا بيوت لأصحابها في الهند، كانت هذه الضيافة قانونا يلتزم به أصحاب السفن، وكان والدي واحدا منهم».

حينما عادت غنيمة من الهند إلى الكويت أكملت دراستها في المدرسة القبلية حتى المرحلة الثانوية. ورغم أنها كانت متفوقة حينذاك في الرياضيات إلا أن ميولها الأدبية كانت أكثر وضوحا، الأمر الذي قادها، بعد حصولها على شهادة الثانوية العامة، للسفر إلى مصر، حيث التحقت هناك بكلية الآداب -جامعة القاهرة لدراسة الصحافة.

مرثية علقتها بالصحافة

أما لماذا الصحافة تحديدا، فقد لعبت ثلاثة أسباب دورا في ذلك، أولها أنها نشأت في بيت ثقافي كان يعج بالصحف والمجلات والكتب التي كانت تصل إلى الكويت من مصر ولبنان، وكان شقيقها مرزوق، الطالب آنذاك بجامعة بيروت الأمريكية، يحرص على اقتنائها بانتظام. أما السبب الثاني فهو قيامها بكتابة مقال ترثي فيه شقيقها مرزوق بعد وفاته، وحصولها على إشادة من معلمات اللغة العربية بسبب قوة وبلاغة المقال، واقتراحهن أن ينشر المقال في مجلة «البعثة» التي كانت تصدر عن «بيت الكويت» في القاهرة. والسبب الثالث هو اشتراكها في مسابقة لكتابة القصة القصيرة نظمتها مجلة «البعثة»، وفوزها بالجائزة الثانية، وهو ما جعلها تشعر أكثر فأكثر أنها خلقت للكتابة والانضمام إلى بلاط صاحبة الجلالة بعد صقل موهبتها الفطرية بالدراسة الأكاديمية. وقتها لم تكن أي من مواطناتها قد درسن الصحافة بعد، لكن بالرغم من ذلك فإن والدها وأسرتها لم يمانعا، بل شجعاها، خصوصا أنها كانت تؤمن بأن الصحافة رسالة سامية.

وتفيد سيرتها الذاتية أنها كانت منذ صباها منفتحة على آفاق الثقافة والمعرفة والاطلاع على ما يدور في العالم من تطورات وأحداث، وذلك بتأثير من والدتها نورية العدساني وشقيقها مرزوق. كما كانت مهمومة ومنشغلة بالتزامن بالقضايا العربية والقومية، بدليل مشاركتها في أول مظاهرة نسائية شهدتها الكويت سنة 1956، وتوجهت إلى مبنى المقيمية السياسية البريطانية، وذلك احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر.

ترخيص مجلة.. شبكة الخطوبة!

خلال دراستها في مصر، وأثناء عملها رئيسة للجنة الثقافية لاتحاد طلبة الكويت بالقاهرة، تعرفت على زميلها ومواطنها رئيس الاتحاد «فجحان هلال المطيري» الذي تقدم للزواج منها، وكانت «شبكة» الخطوبة عبارة عن ترخيص صادر من وزارة الإرشاد والأنباء الكويتية (وزارة الإعلام لاحقا) لإصدار مجلة، وذلك بعد أن تيقن فجحان من رغبة خطيبته غنيمة في العمل بالصحافة بعد التخرج، علما بأن التصريح المذكور كان فجحان هلال المطيري -ابن تاجر اللؤلؤ الأشهر في الكويت هلال المطيري، وأول مدير لمكتب الأمير الشيخ عبدالله السالم الصباح بعد تخرجه- قد اشتراه في سنة 1964 من الراحل «حمد العيسى» المحامي الذي كان قد حصل على الترخيص من الجهات الرسمية لإصدار مجلة أسبوعية تحت اسم «أضواء المدينة».

تخبرنا أم هلال أن العمل الصحفي لم يكن سهلا في الكويت في تلك الحقبة بصفة عامة، فما بالك بقيام فتاة كويتية بخوض غماره، لكنها تستدرك فتقول إن زوجها فجحان ساندها بقوة، ووقف إلى جانبها لجهة استخدام الترخيص الذي بحوزتها في إطلاق أول مجلة أسبوعية في المنطقة تعنى بشؤون وشجون المرأة والأسرة الكويتية والخليجية تحت اسم «أسرتي». وقد صدر العدد الأول من المجلة بالفعل في فبراير عام 1965. ثم أصدرت المرزوق لاحقا جريدة «أجيال» الأسبوعية لمخاطبة الشباب حتى سن الـ35، ونجحت تجربتها بدليل أنها واصلت العمل وأسست «مؤسسة فهد المرزوق الصحفية» التي تحولت إلى واحدة من قلاع الصحافة في الكويت والخليج.

أم الخير

واستمر دعم زوجها لها في هذا المشروع غير المسبوق إلى أن توفي شابا في عام 1974، تاركا لها وراءه عدة أبناء (غيداء وهلال ومنى وعُلا ومرزوق). والمعروف أن «أسرتي» لقيت صدى طيبا لدى الجنسين. وفي سياق الأسباب، قالت صحيفة «الوطن» الكويتية (17/3/2013) ما مفاده أن غنيمة المرزوق حرصت على أن يكون لها خط واضح وصريح يقوم على هدف توجيه الأسرة والمرأة الكويتيتين وتبصيرهما بشؤون عالمهما دون زيف أو مجاملة، وعلى مبدأ أن المرأة والرجل يكملان بعضهما البعض، وأن المرأة نصف المجتمع وحقوقها السياسية واجبة الانتزاع بالقوة، ناهيك عن أنها حرصت على ألا تصور مجلتها الموقف بين المرأة والرجل على أنه معركة. عدا عن ذلك انعكس على مجلتها الكثير مما كانت تؤمن به مثل التعايش بين أهل الأديان المختلفة، ودعم القضايا العربية والإسلامية، وانتهاج الإسلام الوسطي الداعي للمساواة والعدالة وحرية المعتقد، الرافض للظلم والعدوان. ولعل من الأسباب الأخرى لنجاح واستمرار «أسرتي» أن غنيمة المرزوق تجاوزت المعتاد في الصحافة مثل الخبر والتحقيق والحوار والحملة إلى فن «المقال الكاريكاتيري». إذ راحت تحرر باب «أم الخير» الذي جسدت فيه شخصية الأم والجدة التي ترصد التحولات والظواهر الاجتماعية الطارئة على المجتمع الكويتي وتنتقدها بأسلوب ساخر وقلم لاذع، مستهدفة محاربتها وبيان نتائجها السلبية. وتحدثت أم هلال عن ابنها البكر «هلال» في كتاب «دانة من بحر الخليج» (مصدر سابق) فقالت: «هلال، شخص غير متكلف، ولا يعرف التصنع، ويتميز بالصراحة والوضوح في التعامل، لذلك حين لا يعجبه منطقك يصارحك برأيه، وأيضا حين يرتاح لشخص ما يبدي ارتياحه بوضوح».

امرأة بـ1000 رجل

من الذين تحدثوا عنها، الكاتب المصري الكبير «رجاء النقاش» الذي التقاها في بيت الكويت في القاهرة، فوصفها بأنها «امرأة بألف رجل» بناء على ما لمسه من مواقفها المتصفة بالحكمة والذكاء والقوة وقول الحق وعدم الوقوف مكتوفة اليد حيال القضايا الإنسانية.

لغنيمة المرزوق مآثر كثيرة في ميادين الخير والبر والإحسان ونصرة الفقراء والمعدمين في كل زوايا الكون، مع حرصها وتشديدها على الكتمان. ولولا مساهماتها المشهودة في العمل الخيري الكويتي لما لُقبتْ بـ«أم الخير»، ولما اختيرت عضوا في مجلس إدارة الصندوق الوقفي للدعوة والإغاثة التابع للأمانة العامة للأوقاف الكويتية، وعضوا في مجلس إدارة جمعية بشائر الخير.

في قائمة أعمالها الإنسانية: إطلاق مهرجان «طبق الخير» والطلب من «الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية» بالكويت الإشراف عليه؛ إطلاق مشروع «ابن الشهيد» دعما لمصر في أعقاب انتصار أكتوبر 1973 وقيامها بحملة تبرعات لهذا الغرض، مع تبرعها هي وأختها سارة بمبلغ 160 ألف دينار؛ تأسيس جامعة في جمهورية قرقيزيا، إنشاء كلية ثانوية في كشمير، إنشاء كلية للبنات في ألبانيا، تشييد كلية فهد المرزوق في باكستان، المساهمة في صندوق إعانة المرضى ومحتاجي الأطراف الصناعية من ضحايا حرب الشيشان، مساعدة النساء المسلمات في البوسنة والهرسك، دعم لجنة مسلمي أفريقيا ولجنة الرحمة العالمية في أعمالها الخيرية في القارة السمراء، التكفل بتعليم ألف طفل إريتيري حتى إنهاء مراحلهم الدراسية، إنشاء قرى الحنان للأيتام في كل من لبنان والسودان.

رائدة إعلامية

حظيت غنيمة بالعديد من صور التكريم خلال مشوارها الصحفي. فقد نالت جائزة الدولة التقديرية سنة 2011 من قبل وزارة الإعلام الكويتية، وجائزة «إنجاز العمر» في قطاع النشر من قبل مؤتمر الشرق الأوسط للنشر المنعقد في دبي سنة 2006، تقديرا لريادتها في إنشاء الصحافة الأسرية، ومساهمتها الرائدة في تأسيس أول تنظيم نقابي للصحفيين في منطقة الخليج العربي.

وتم اختيارها من قبل قسم الإعلام بجامعة الكويت كشخصية للعام 2000/2001 في مجال الريادة الإعلامية، كما اختيرت كعضو من خارج هيئة التدريس في مجلس كلية الآداب بجامعة الكويت، ومنحها «مركز دراسات مشاركة المرأة العربية» في باريس جائزة المرأة العربية المميزة، ومنحتها جامعة قرقيزيا درجة الدكتوراه الفخرية تقديرا منها لأعمالها الخيرية والإنسانية.