ريادة الأعمال: نظام بيئي وعالم جديد (1)
الجمعة / 13 / ذو الحجة / 1439 هـ الجمعة 24 أغسطس 2018 01:25
ملفي الرشيدي
كثيراً ما نسمع ونقرأ عن وادي السيليكون في كاليفورنيا الذي بدأت منه أغلب الابتكارات الرئيسية في التكنولوجيا وغالباً ما يقفز الذهن مباشرة إلى جامعة ستانفورد. هذه الجامعة العريقة التي تمتلك نظام ريادة الأعمال الأكثر تميزاً بالعالم. لا تتفاجأ عزيزي القارئ إذا علمت أن رواد الأعمال في ستانفورد حققوا عائدات تقترب من 3 تريليونات سنوياً وساهموا بتوليد أكثر من 5 ملايين وظيفة. تخيّل أن هؤلاء لو قاموا بتأسيس دولة خاصة بهم فسوف سيتم تصنيفها كعاشر أكبر قوة اقتصادية في العالم. ولأن الجامعات العملاقة تتنافس مع بعضها بعضا (لدرجة الغيرة) فسوف نستحضرالتعريف الذي صاغه هاوارد ستيفنسون عرّاب ريادة الأعمال بكلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد بأنه السعي وراء فُرص تتجاوز نطاق الموارد الخاضعة للسيطرة.
لا خلاف على أن العالم يزداد تعقيداً وبالتالي أصبحت مشاكله أكثر تعقيداً وحجماً وتأثيراً، ويتزامن مع ذلك وجود أصوات كثيرة تُشدِّد على ضرورة تحويل هذه التحديات المجتمعية والعالمية من خلال الابتكار وريادة الأعمال إلى فرص وحلول قابلة للتطبيق والتوسع اقتصاديا. لهذا يمكن القول إن ريادة الأعمال هي استكشاف منهجي عن الفرص والتغيير أكثر من كونه سمة أو شخصية، ومن ثمّ فهي ترتبط بالابتكار بشكل كبير في علاقة تبادلية جلية؛ فبدون ظهور ابتكارات تقنية أو اجتماعية ستنتهي ريادة الأعمال إلى طريق مسدود، كذلك بدون ريادة أعمال سيبقى الابتكار مجرد أفكار في الهواء أو تنظير بشري سرعان ما يطويها النسيان.
أدركت أغلب -إن لم يكن كل- الدول أن ريادة الأعمال هي المصدر الرئيسي لتوليد الوظائف/فرص العمل ونموها ومحركا أساسيا في النمو الاقتصادي وعاملا حاسما للتنمية المستدامة، وبالتالي سعت وتسعى العديد من الدول ومؤسسات التعليم العالي في بناء نسختها الخاصة من وادي السيليكون. لكن الأمر أكبر من كونه مجرد منح مساحة كبيرة أو تأسيس معهد لريادة الأعمال أو إنشاء واد للتقنية أو استقطاب مجموعة من الباحثين المميزين أو حتى مجرد خليط «غير متناغم» بينها. الأمر يستدعي إنشاء نظام بيئي وتأسيس ثقافة راسخة لريادة الأعمال، فكما يُقال لا يعمل المبادرون في فراغ.
من المعلوم تاريخياً أن أمريكا قامت على ثلاثة أشياء؛ أولاً البحث العلمي، يليه تحويل هذه البحوث إلى ابتكارات بالمرحلة الثانية، ثم ثالثاً ترجمة هذه الابتكارات إلى أنشطة تجارية. هذه التجربة الطويلة تمخضت عن قانون Bayh-Dole «بيه-دول» الذي أصدره الكونجرس عام 1980 والذي أعطى للجامعات والمؤسسات غيرالربحية وغيرها من الشركات الصغيرة القدرة على الحصول على براءات اختراع للمشروعات المُموّلة اتحادياً وأجبر الجامعات تحديداً على بذل أقصى الجهود لضمان تسويق الأبحاث التي تمولها الحكومة بطريقة تحقق أقصى فائدة للجمهور. كان هذا القانون نقطة مفصلية في مسيرة الابتكارات بحيث إن مجلة الإيكونيميست المرموقة أطلقت عليه اسم «إوزَّة الابتكارالذهبية».
لم يعد دور مؤسسات التعليم العالي المرموقة مقتصراً فقط على التعليم والتدريب والتأهيل في مجال ريادة الأعمال، بل تعداه إلى تأسيس أنظمة بيئية وشراكات حقيقية مع أصحاب المصلحة ومواصلة الضغط ومكافأة الابتكار وتطبيقه كهدف تعليمي جوهري وكرافد استثماري أساسي. وعند الرجوع إلى ستانفورد، فإن من المهم النظر إليها على أنها ليست مجرد حرم جامعي بل كمجتمع مبني على علاقة وثيقة وناجحة بين الجامعة والحكومة والصناعة. في تقرير صدر حديثاً عن مؤسسة كوفمان الريادية؛ تقرير يعتبره العديد بمثابة خريطة طريق لكيفية إنشاء نظام بيئي في المنظمات التعليمية مشابه لما هو موجود في وادي السيليكون-ستانفورد. يؤكد التقرير على وجود ستة عناصر أساسية في بناء هذه النظم البيئية وتعزيز ريادة الأعمال وهي: ثقافة تقبُّل المخاطر وتحمُّلها، وجود طلاب موهوبين متعددي التخصصات (أو ما يُطلق عليه الطالب T)، وفرة رأس المال الاستثماري، الاتصال والتعاون الوثيق مع الصناعة، الدعم الحكومي في تمويل الأبحاث المتطورة، وأخيراً مجتمع محليّ يُساهم في تطوير الجيل القادم من رواد الأعمال.
وبعيداً عن ستانفورد والجامعات الغربية العملاقة ذات التجارب الناجحة في ريادة الأعمال، نجد أن الصين تُمثل تجربة حية وحيوية؛ بل يُقال إن تجربة الصين في هذا المجال قد تعدى من مجرد استنساخ وادي السيليكون إلى القلق من تجاوزه (قلق أصحاب الوادي بالطبع). لكن من المؤكد أن تجربة الصين في الحفاظ على هذا الزخم المتعلق بتعزيز الروح الريادية والثقافة الإبداعية ورسملة الأبحاث المتقدمة والمُمارسات التعليمية الابتكارية على الرغم من كونها بالأساس اقتصادا مُخطَّطا مركزيا تستحق مقالا منفصلا.
يقول روجر بايسون مؤسس الكلية الرائدة التي تحمل اسمه -والحاصلة على المركز الأول في تخصص ريادة الأعمال لمدة خمس وعشرين سنة متتالية بحسب تقرير News الأمريكية- في عبارة مُلهمة: علمتني الخبرة أن هناك سببًا واحدًا رئيسيًا وراء نجاح بعض الأشخاص وفشل البعض الآخر. الاختلاف ليس في المعرفة بل في الفعل. الشخص الناجح ليس متفوقًا في القدرة بقدر ما هو متفوق في الفعل. إذا أردنا اختزال النجاح في معادلة، فإنه يتألّف من: القيام بما تعرف أنه يجب عليك القيام به.
* كاتب سعودي
لا خلاف على أن العالم يزداد تعقيداً وبالتالي أصبحت مشاكله أكثر تعقيداً وحجماً وتأثيراً، ويتزامن مع ذلك وجود أصوات كثيرة تُشدِّد على ضرورة تحويل هذه التحديات المجتمعية والعالمية من خلال الابتكار وريادة الأعمال إلى فرص وحلول قابلة للتطبيق والتوسع اقتصاديا. لهذا يمكن القول إن ريادة الأعمال هي استكشاف منهجي عن الفرص والتغيير أكثر من كونه سمة أو شخصية، ومن ثمّ فهي ترتبط بالابتكار بشكل كبير في علاقة تبادلية جلية؛ فبدون ظهور ابتكارات تقنية أو اجتماعية ستنتهي ريادة الأعمال إلى طريق مسدود، كذلك بدون ريادة أعمال سيبقى الابتكار مجرد أفكار في الهواء أو تنظير بشري سرعان ما يطويها النسيان.
أدركت أغلب -إن لم يكن كل- الدول أن ريادة الأعمال هي المصدر الرئيسي لتوليد الوظائف/فرص العمل ونموها ومحركا أساسيا في النمو الاقتصادي وعاملا حاسما للتنمية المستدامة، وبالتالي سعت وتسعى العديد من الدول ومؤسسات التعليم العالي في بناء نسختها الخاصة من وادي السيليكون. لكن الأمر أكبر من كونه مجرد منح مساحة كبيرة أو تأسيس معهد لريادة الأعمال أو إنشاء واد للتقنية أو استقطاب مجموعة من الباحثين المميزين أو حتى مجرد خليط «غير متناغم» بينها. الأمر يستدعي إنشاء نظام بيئي وتأسيس ثقافة راسخة لريادة الأعمال، فكما يُقال لا يعمل المبادرون في فراغ.
من المعلوم تاريخياً أن أمريكا قامت على ثلاثة أشياء؛ أولاً البحث العلمي، يليه تحويل هذه البحوث إلى ابتكارات بالمرحلة الثانية، ثم ثالثاً ترجمة هذه الابتكارات إلى أنشطة تجارية. هذه التجربة الطويلة تمخضت عن قانون Bayh-Dole «بيه-دول» الذي أصدره الكونجرس عام 1980 والذي أعطى للجامعات والمؤسسات غيرالربحية وغيرها من الشركات الصغيرة القدرة على الحصول على براءات اختراع للمشروعات المُموّلة اتحادياً وأجبر الجامعات تحديداً على بذل أقصى الجهود لضمان تسويق الأبحاث التي تمولها الحكومة بطريقة تحقق أقصى فائدة للجمهور. كان هذا القانون نقطة مفصلية في مسيرة الابتكارات بحيث إن مجلة الإيكونيميست المرموقة أطلقت عليه اسم «إوزَّة الابتكارالذهبية».
لم يعد دور مؤسسات التعليم العالي المرموقة مقتصراً فقط على التعليم والتدريب والتأهيل في مجال ريادة الأعمال، بل تعداه إلى تأسيس أنظمة بيئية وشراكات حقيقية مع أصحاب المصلحة ومواصلة الضغط ومكافأة الابتكار وتطبيقه كهدف تعليمي جوهري وكرافد استثماري أساسي. وعند الرجوع إلى ستانفورد، فإن من المهم النظر إليها على أنها ليست مجرد حرم جامعي بل كمجتمع مبني على علاقة وثيقة وناجحة بين الجامعة والحكومة والصناعة. في تقرير صدر حديثاً عن مؤسسة كوفمان الريادية؛ تقرير يعتبره العديد بمثابة خريطة طريق لكيفية إنشاء نظام بيئي في المنظمات التعليمية مشابه لما هو موجود في وادي السيليكون-ستانفورد. يؤكد التقرير على وجود ستة عناصر أساسية في بناء هذه النظم البيئية وتعزيز ريادة الأعمال وهي: ثقافة تقبُّل المخاطر وتحمُّلها، وجود طلاب موهوبين متعددي التخصصات (أو ما يُطلق عليه الطالب T)، وفرة رأس المال الاستثماري، الاتصال والتعاون الوثيق مع الصناعة، الدعم الحكومي في تمويل الأبحاث المتطورة، وأخيراً مجتمع محليّ يُساهم في تطوير الجيل القادم من رواد الأعمال.
وبعيداً عن ستانفورد والجامعات الغربية العملاقة ذات التجارب الناجحة في ريادة الأعمال، نجد أن الصين تُمثل تجربة حية وحيوية؛ بل يُقال إن تجربة الصين في هذا المجال قد تعدى من مجرد استنساخ وادي السيليكون إلى القلق من تجاوزه (قلق أصحاب الوادي بالطبع). لكن من المؤكد أن تجربة الصين في الحفاظ على هذا الزخم المتعلق بتعزيز الروح الريادية والثقافة الإبداعية ورسملة الأبحاث المتقدمة والمُمارسات التعليمية الابتكارية على الرغم من كونها بالأساس اقتصادا مُخطَّطا مركزيا تستحق مقالا منفصلا.
يقول روجر بايسون مؤسس الكلية الرائدة التي تحمل اسمه -والحاصلة على المركز الأول في تخصص ريادة الأعمال لمدة خمس وعشرين سنة متتالية بحسب تقرير News الأمريكية- في عبارة مُلهمة: علمتني الخبرة أن هناك سببًا واحدًا رئيسيًا وراء نجاح بعض الأشخاص وفشل البعض الآخر. الاختلاف ليس في المعرفة بل في الفعل. الشخص الناجح ليس متفوقًا في القدرة بقدر ما هو متفوق في الفعل. إذا أردنا اختزال النجاح في معادلة، فإنه يتألّف من: القيام بما تعرف أنه يجب عليك القيام به.
* كاتب سعودي