ثقافة وفن

ذاكرة الموتى

حليم الفرجي

حليم الفرجي*

سمعت حكايا كثيرة عن الموت.. بعضها مخيفة..

وأظنه الظل الأسود الذي يحل ضيفا غير مرغوب به فيخطف الأرواح الجميلة وينخر الأجساد ويجوفها من الداخل.. قال لي بائع البسكويت ذات نهار أن الموت يحضر باكرا جدا قبل استيقاظنا من النوم فهو لا يخشى الظلام ولا يندس تحت لحافه خشية البرد مثلنا..

يأتي دائما بوجه قاتم لا يضحك ويحمل معه سلاسل كثيرة ليقيد بها الأرواح الفارة من الآخرة.. كنت أتساءل دائما لماذا لا نهرب من الموت.. ألا نستطيع مبارزته والتفوق عليه!!

لماذا منذ الأزل لم ينج منه أحد!!

أنحن جبناء أم هو قوي جدا!!..

لماذا نستسلم ونمد له أيدينا ونمضي معه حيث يأخذنا دون مقاومة!!

أسئلة كثيرة كانت تدور برأسي ولا أجد لها جوابا.. أصبح بائع البسكويت صديقي منذ رحل والدي للسماء فكنت أتحين الفرص لأبقى بجانبه وأستمع لحديثه..

صديقي الجديد ظهر من الفراغ وألا شيء، لم أكن أعلم عنه شيئا سوى أن اسمه سامر ويسكن خلف التل المقابل للقرية وأنه مثلي رحل أبوه يوما ما، أخبرني أنه يبيع البسكويت وبعض الحلوى ويتنقل بين القرى القريبة ويترك خلفه أما عجوزًا ولا يعود إليها إلا قرب المساء..

لم أذهب يوما لزيارته في بيته فهو لم يتأخر عن موعده أبدا فكان يحضر صباحا لنتسكع سويا وأرافقه حين يمضي لكسب رزقه ونعود منهكي القوى قرب المساء ليودعني عند مدخل القرية فأعود للبيت بينما يمضي هو إلى حيث لا أدري.. توطدت علاقتنا يوما بعد آخر وأصبح ملازما لي كظلي معظم النهار حتى عند مرض أمي وارتفاع حرارتها كنت أفضل الجلوس على عتبة الباب وانتظار مرور صديقي عن أن أظل بجوارها لأسمع أنينها وشكواها المتكررة..

في إحدى تلك الليالي رحلت أمي دون جلبة.. رحلت حين كنت أعبر الجسور وأقفز تحت المطر وأضحك للسماء التي لاتهبنا سوى العطايا وأسابق صديقي لالتقاط الحجارة ورميها في النهر..

عند عودتي للمنزل كانت أمي تنظر للسماء أيضا ولكن ليس لشكر الله على عطاياه.. لعلها كانت تقاوم إحدى تلك السلاسل حين امتدت لتسحب روحها فتركت عينيها مفتوحتين تشيع بها روحها المختطفة..

يداها باردتان وعلى وجهها ابتسامة جميلة وكأن الموت جاءها حاملا معه علب البسكويت..

هرعت في طرقات القرية أبحث عن سامر وأنا أخفي دموعي سألت كثيرا عن بيته فلم أجد من يعرفه و يدلني على منزله.. وحين عثرت على البيت الوحيد خلف التل كنت قد فقدت الأمل..

لم أستطع تمييز صوتها المصاحب لصرير الباب القديم وحين أعدت سؤالها عن صديقي أشاحت بوجهها بعيدا ثم نظرت إلي سامر رحل منذ عام، توفي في حادثة أليمة.

اقتربت مني كثيرا لتنظر في وجهي: من أنت ولماذا تسأل عنه الآن بعد كل هذا الوقت ؟؟

لا أعلم كيف حملتني قدماي لأهرب من ذلك المكان وكيف استطعت رؤية طريقي للمنزل..

في الصباح الباكر أخذوا أمي للمقبرة كان نعشها خفيفا باردا.. وحين شارفنا على المقابر كان هناك شيخ كبير يرتدي البياض خطف النعش من بين أيدينا واختفى بين القبور مستبشرا ليوقظ الأموات لاستقبالها، بينما كان يقف صديقي سامر هناك على حافة القبر المعد لأمي وهو يحمل علب البسكويت وعلى وجهه ابتسامة وكانت المرة الأخيرة التي أراه بها..

* شاعرة وروائية وقاصة سعودية