كتاب ومقالات

الدولة: مغرموها.. ومناهضوها !

طلال صالح بنان

تمثل الدولة جوهر موضوع النظرية السياسية، منذ أن بدأت أولى أدبيات علم السياسة المكتوب، في ثقافة تجربة الإغريق القدماء.. وإن كانت تجربة الدولة تاريخياً، عرفتها الحضارات القديمة، منذ أكثر من سبعة آلاف سنة في مصر القديمة.. والعراق.. والشرق الأقصى، في الصين واليابان.

لذا يمكن أن يُقال إن إرهاصات النظرية السياسية المكتوبة، لم تكن سوى محاولة لاقتراب علمي لتفسير ظاهرة الدولة في المجتمعات الإنسانية، بعيداً عن التفسيرات الغيبية (الميتافيزيقية) لتبرير ظاهرة السلطة في المجتمعات الإنسانية. في مشوار تطور مسيرة النظرية السياسية، في ما يخص تفسير وجود الدولة وتتبع مراحل تطورها، كانت أدبيات علم السياسة تتجاذبها ميول إيجابية وأخرى سلبية، إما لتبرير واقع سياسي قائم.. أو لنقد ومناهضة أوضاع سياسية واجتماعية سائدة.

هناك من الدراسات والأدبيات ما ينظر إلى الدولة، وكأنها غاية ومنتهى ومآل مسيرة حركة التاريخ.. وأن الدولة تعتبر قمة الحراك الاجتماعي والسياسي، حيث يتمكن الفرد في كنف الدولة من إشباع حاجاته المادية والروحية.. وفي الدولة تُستأنس ظاهرة الصراع الكامن في النفس البشرية حول موارد الطبيعة المحدودة.. وينضبط سلوك الفرد ويتناغم مع حركة المجتمع في تعاون مثمر من أجل زيادة الإنتاج والوصول لأقصى درجات الرفاهية والسلام الاجتماعي.

هذه النظرة التبجيلية لتجربة الدولة، لا يخفى بُعْدها السياسي المتحيز في تبرير أوضاع سياسية بعينها.. وإن كان تتجاذب القائلين بها اتجاهات نقدية وإصلاحية، في محاولة لتحديد غاية بعينها لوجود الدولة نفسها. بصفة عامة: يمكن القول إن النظرية الإغريقية القديمة، كانت بداية الإسهامات المكتوبة لوضع نظرية سياسية تقوم حصرياً على أسس بشرية خالصة، بعيدة عن الغيبيات والأساطير. إلا أن هذا لا يمنع وجود اختلافات وخلافات، بين فلاسفة تلك الحقبة، حول الصيغة المثلى للدولة، التي تتماشى مع مسيرة حركة التاريخ وتتلاقى مع غايتها الخيرة.

بالرغم من أن أفلاطون (427 - 347 ق. م) وتلميذه أرسطو (384 - 322 ق. م) كانا من أوائل رواد الفلسفة السياسية، إلا أنهما اختلفا حول صورة الدولة المنشودة، مما انسحب على منهجيهما العلميين في دراسة الدولة. بينما اختار أفلاطون، وهو الأثيني الأصل، منهجاً نقدياً للهجوم على تجربة أثينا السياسية.. اختار أرسطو، الذي لم يكن أثينياً، منهجاً وصفياً للإشادة بديمقراطية أثينا.. وأن نظامها السياسي، كما زعم: أقرب لكون الإنسان حيواناً سياسياً.

بعد فشل نموذج دولة المدنية في الحضارة الإغريقية، أخذت تجربة الدولة تتمدد لتنشأ لدينا الإمبراطوريات، في نموذجها اليوناني والروماني. في الفترة ما بين التجربتين، ظهرت مدرسة تنظر نظرة سلبية، لتجربة الدولة، بصورة عامة. الرواقيون كانوا يفضلون العيش خارج الدولة في كنف الطبيعة والانعزال عن الناس.

هذا التجاذب في تطور النظرية السياسية، في ما يخص ظاهرة الدولة، ظل يسيطر على فلاسفة الفكر السياسي، حتى العصر الحديث. بعض هذه الإسهامات الفلسفية، إما تكون ساهمت في ظهور نماذج للدولة حديثة.. أم أنها ساهمت في تقويض نماذج للدولة قائمة... وجميعها تعكس هذه الازدواجية المتحيزة للخلفية الفكرية والأيدلوجية لفلاسفة السياسة ومفكريها، تبعاً لوجهة نظرهم في تجربة الدولة نفسها، بصفة عامة.

بداية من عصر النهضة، وبالذات القرن السابع عشر، رجعت النظرية السياسية، إلى جذورها البشرية، التي أرساها الإغريق القدماء، بعد ألف عام من سيطرة الأساطير الغيبية على الفكر والممارسة السياسية، أثناء سيطرة الفكر الكنسي في أوروبا. حاولت نظريات العقد الاجتماعي أن توجد تفسيراً لتجربة الدولة الحديثة، تقوم على شرعية إرادة الناس. إلا أن هذا التطور لم يكن يخلو من معضلة الموقف من الدولة نفسها، تتجاذبه مشاعر العشق لها والنفور منها. وأكثر ما تجلى ذلك في فكر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ( 1712 - 1778 )، الذي وإن أقر بضرورة العيش في كنف الدولة، إلا أنه كان لا يثق في مؤسساتها.

لعل أبلغ عداء للدولة، تطور في النظرية السياسية، ذلك الذي عبرت عنه النظرية الماركسية. الدولة، بالنسبة لكارل ماركس (1818 - 1883 )، لا تعدو سوى صورة بغيضة للصراع الطبقي، تغرق في دوامتها حقوق الفرد وحرياته. الحل عند ماركس: زوال الدولة (بالعنف) وبناء المجتمع الشيوعي، الذي تزول فيه حركة الصراع الطبقي.. وبالتالي: جبروت الدولة وسطوتها.

تجربة الدولة، كانت وستظل بؤرة اهتمام علماء السياسة وفلاسفتها.. ودائماً ما يكون الموقف من واقع وجودها، يتراوح بين التبجيل والحذر، بل وحتى مناهضة خيارها. هذه هي معضلة النظرية السياسية الأساسية.

* كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com