كتاب ومقالات

«احنا اللي مرضى»

عين الصواب

أحمد عجب

كعادة كل مريض حين يزوره مجموعة من الزوار، يبدأ في (دق العلم) من الساعة التي اشتكى فيها الألم، حتى الساعة التي كتب له الدكتور خروج وقرر له فترة نقاهة يريح فيها جسده المنهك إلى أن يستعيد عافيته، هكذا كنت أعيد وأزيد في علمي حيال الأزمة الصحية التي مررت بها، حتى زارني شيخ حكيم استمع إلي بكل جوارحه، وما أن فرغت من قصتي المكررة، حتى جاءني رده الشافي ليريح قلبي المجهد ويربت عليه!؟

بدأ الألم يا شيخ فجأة وأنا بالعمل، والزملاء الذين كنت أحسبهم مشغولين بأمانيهم وطموحهم، تركوا كل شيء بأيديهم وحملوني على أعناقهم لأقرب مشفى وطوقوني برعايتهم، لقد نسوا همومهم والتزاماتهم وتفرغوا كليا لمرافقتي، حتى حضر أشقائي وأكملوا المهمة وهم يشدون على يدي ويخدمونني بعيونهم. حتى المستشفى الحكومي الذي لم يسلم من نقدي كبقية المرافق الأخرى حين كنت معافى، تعامل مع حالتي الطارئة بكل مهنية، وأخذني بالأحضان واستضافني بضعة أيام، لقد لمست عن قرب مدى الإمكانيات العظيمة التي يتمتع بها، سواء الفريق الاستشاري أو الأجهزة الطبية المتقدمة أو كادر التمريض المتمرس الذي سهر على راحتي ليل نهار دون ملل ولا كلل.

أما زوجتي الغالية (بنت البلد) التي كنت أمدح بدلا عنها بالمجالس اهتمام وتدليل تلك الزوجة المغربية أو المصرية أو الشامية بزوجها، فقد حفتني بدموعها وروعة مشاعرها، فأخذت تصنع أصناف الطعام الصحي، وتحضر الدواء بمواعيده، وتأخذ بيدي من وإلى السرير، وتروشني إذا لزم الأمر، وتستمتع بنقمتي وملازمتي للبيت، وتمسح على جبيني وتقبله وتدعو لي بطولة العمر (على غير العادة)!؟

ليس هذا فقط يا شيخ (هنا قدم جلسته وأبدى اهتماما أكثر) بل حتى الجيران الذين كنا نقول عنهم لا يعرفون بعضهم، توافدوا إلى منزلي وهم يعرضون خدمات أبنائهم وسائقيهم ويتحدثون بكل ألم عن عارضي الصحي الذي نما لعلمهم، وحتى الرجال والسيدات الذين سبق أن قدمت لهم الآراء القانونية باتوا يتصلون في كل حين ليسألوا ويطمئنوا، وقس على ذلك أصدقاء الطفولة الذين حسبناهم نسونا منذ عقود، والأقارب والمعارف الذين توقعنا بأن مشاغل الدنيا أخذتهم منا، منهم من تواصل معي عبر الجوال، ومنهم من زارني محملا بالورود والهدايا والشوكلاه الثمينة.

هنا هز الشيخ الحكيم فنجان قهوته، وقام ملوحا بالوداع وهو يطلق زفراته، فقلت له مناشدا؛ لا تنسانا من دعائك، فالتفت إلي بعد أن وصل للباب وقال لي مبتسما؛ بل أنت لا تنسانا من دعائك يا شيخ عجب، طلعنا (احنا اللي مرضى) وليس أنت، لقد أنهكتنا حمى الأنانية، وجلد الذات، والقالة، ونكران الجميل، وقطيعة الرحم، حتى استحالت حياتنا مرضا مزمنا لا يرجى شفاؤه، وليس أمامنا إلا التعايش معه، ألقاك على خير، وربنا يشفينا!