خطيب الحرم المكي: لا يصح افتخار المرء بماله أو بمكانته أو بجماله أو بشيء من الدنيا
أكد أن الإفلاس الحقيقي أن يلقى العبد ربه يوم القيامة مفلساً من الحسنات
الجمعة / 24 / صفر / 1440 هـ الجمعة 02 نوفمبر 2018 14:59
«عكاظ» (مكة المكرمة)
أوضح إمام وخطيب المسجد الحرام الدكتور فيصل بن جميل غزاوي في خطبة صلاة الجمعة أن من الأمور المهمة التي جاء بها الشرع القويم تصحيحَ التصورات والمفاهيم، وتخليصَها من رواسب الاعتقادات الجاهلية البائدة، والأباطيلَ السائدة، وتصويبَها لتصبح متوافقة مع الدين المبين وملائمة لهدي المؤمنين, وعند النظر والتأمل في نصوص الوحيين نجدهما حافلين بتناول هذه القضية في مجالات شتى وصور مختلفة.
فتعالوا عباد الله نقف مع جملة من الأمثلة الشاهدة لذلك والدالة على تميز منهج دين الإسلام في بيان حقائق الأشياء، ففي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
كان الناس يتفاخرون بالأنساب ومآثر الآباء والأجداد، فجاء الشرع بالمفهوم الصحيح للكرامة، فالتفاضل إنما يحصل بالتقوى، (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فكلما كان الإنسان محققاً للتقوى كان ذلك كمالاً في حقه، وهو الكريم حقا وعندما سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم لله)، فالفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره.
وفي بيان نبوي آخر يقرر صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بقوله: (الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى) أَيِ: الشَّرَفُ بَيْنَ النَّاسِ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ التَّقْوَى، فانظروا الفرق بين المفهوم عند أهل الدنيا وحقيقتِه عند الله.
إن أهل التقوى والإيمان والصلاح هم أولياء النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من ذي رحمه أم لا، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أَولى النّاسِ بي المتّقُونَ مَن كانُوا وحَيثُ كانُوا) وقال صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ إِنَّ آلَ أَبِي فُلاَنٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إنَّمَا وَليِّيَ الله وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) والمعنى إنما وليي من كان صالحاً وإن بعد نسبه مني، وليس وليي من كان غير صالح وإن كان نسبه قريباً مني، فأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم لم تنفعه قرابته به قال تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى نارا ذات لهب).
وعليه فلا يصح أن يفتخر المرء بماله ولا بمكانته ولا بجماله ولا بشيء من أعراض الدنيا أبدا، فمحل الاعتبار (القلب - والعمل) فمتى صلح القلب واستقام العبد على الشريعة وزَكى بالإخلاص لله ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم صلحت الأعمال وزكت، ومتى فسد القلب بالرياء والسمعة والشرك فسدت الأعمال، فالأعمال بالنيات.
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ترسيخ مفهوم التفاضل بين الناس وأنه ليس بصورهم ولا أجسادهم، وأكد هذه الحقيقةَ الإيمانية من خلال مشاهد حية ماثلةٍ أمامهم، فمن ذلك ماجاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يحتزُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكًا من الأراك، فكانت الريح تكْفؤُه، وكان في ساقيه دقَّة، فضحك القومُ من دِقَّة سَاقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يضحككم؟) قالوا: من دقة ساقيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحد).
فأهل الاستكبار على الله يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن في الآخرة بمعذبين؛ لأن الله لو لم يكن راضيا ما نحن عليه من الملة والعمل لم يعطنا الأموال والأولاد، ولم يبسط لنا في الرزق، ولم يؤثرنا بما آثرنا على غيرنا إلا لفضلنا، وغابت عنهم الحقيقة أن الله يبسط الرزق في الدنيا لمن يشاء من خلقه، ويضيق على من يشاء، لا لمحبة فيمن يبسط له ذلك ولا زلفة له استحق بها منه، ولا لبغض منه لمن ضيق عليه ذلك ولا مقت، ولكنه يفعل ذلك محنة لعباده وابتلاء، وأكثر الناس لا يعلمون أن الله يفعل ذلك اختبارا لعباده، فلو كان البسط دليلَ الإكرام والرضا لاختَص به المطيع، وكذا لو كان التضييق دليلَ الإهانة والسَّخَط لاختَص به العاصي، بل قد يعطي الله العبد من الدنيا استدراجا له وإملاءً.
الْعَرَضُ هُوَ مَتَاعُ الدُّنْيَا، وحقيقة الغنى غنى النفس وهو من استغنى بما أوتي وقَنَع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني.
ومما يتصل بهذا المعنى أن الإفلاس الحقيقي المهلك هو أن يلقى العبد ربه يوم القيامة مفلسا من الحسنات ليس عنده منها شيء، يبين لنا هذه الحقيقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول لأصحابه: (أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).
معاشر المسلمين: لقد أرشدت جملة من الآيات والأحاديث إلى حقيقةٍ جوهرية تتعلق بالمال من حيث البقاءُ والفناء قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ...)، الشيء الذي يقدمه المرء وينفقه في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته هو الذى يبقى، أما ما عداه من مَطْعَم أو مشرب أو ملبس ونحو ذلك من شؤون الدنيا فإنه يفنى.
إن اعتقاد المسلم بهذه الحقيقة، ويقينَه بأن ما يخرجه من ماله في أوجه البر وسد حاجة الفقيرابتغاء مرضاة الله هو المال الباقي على وجه الحقيقة، فهذا سيدفعه بلا شك إلى البذل والعطاء والإنفاق والبعد عن البخل والشح والإمساك.
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا فقَالَ صلى الله عليه وسلم مصححا وموجها: (بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا) والمعنى أن ما تُصدق به فهو الباقي، وما أُكل فهو الفاني، فهنا يأتي التصحيح النبوي للمفهوم الخاطئ السائد الذي يعتبر ما بقي من المال هو الذي لم يتم إنفاقه وبقي في حوزة صاحبه، في الوقت الذي يُظن فيه أن المال الذي تُصدق به واستقر في يد المحتاج هو مال ذاهب وفان ومفقود.
وهذا الحديث جاء موافقا لمدلول الآية السابقة (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) ويُعدُّ أنموذجًا عمليًّا وتطبيقًا واقعيا لمعناها، بل قد جعل الله تعالى عدم الإنفاق في سبيله من التهلكة فقال عز وجل: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قال القرطبي رحمه الله: «المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل ليس عندي ما أنفقه».
ومن المعاني التي ذكرها بعض العلماء في الآية: (لا تمسكوا أموالكم فيرثْها منكم غيرُكم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم).
ومما يتبع هذا المعنى كذلك تعقيبه صلى الله عليه وسلم عندما سأل أصحابه: (مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ) قَالوا:الَّذِى لاَ يُولَدُ لَهُ، قَالَ: ( لَيْسَ ذَاكَ بِالرَّقُوبِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِى لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا).
فالمفهوم الذي تناوله النبي صلى الله عليه وسلم بالتصحيح هنا هو معنى الرّقُوب إذ كان السائد بين الناس عموما أن الرّقُوب فيهم من ابتلي بموت الذرية فلا يكاد يعيش له ولد أوهي المرأة التي لا يبقى لها ولد، فعَمد صلى الله عليه وسلم إلى تغيير ذلك التصور وأوقف أصحابه على حقيقة «الرّقُوب» مؤكدا أنه ذلك الذي لم يكن له نصيب من الأجر الكبير والثواب العظيم الذي يحظى به الصابرُ المحتسبُ الأجرَ في موت أحد أولاده وفقدان فِلْذةِ كبده.
إخوة الإسلام: ومن المفاهيم التي جاء الشارع بتصحيحها مفهوم الشدة والقوة قال: (ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) يعني: ليس الإنسان الشديد هو الذي يصرع الناس، وإنما الشديد حقيقة والمفهوم الصحيح للقوة هو من يملك نفسه عند الغضب، فقد يكون الإنسان قويَّ البدن يغلب الرجال لكنه إذا غضب خرج عن طوره وفقد سيطرته على نفسه، قال ابن رجب رحمه الله: وينشأ من الغَضَب كثير من الأفعال المحرمة، كالقتل والضربِ، وأنواعِ الظلم والعُدوان، وكثير من الأقوال المحرَّمة.
فالقوة الحقيقية للمؤمن عندما يملك نفسه عند الغضب بحلمه وأناته في ساعة يكثر فيها العجلة والاندفاع، وينفث فيها الشيطان في نفس الغاضب نارَ سمومه.
عباد الله: ومن الخصال التي شاب مفهومَها الخللُ عند بعض الناس «الحياء» فهو شعبة من شعب الإيمان ومحمود على كل حال كما قال صلى الله عليه وسلم (الحَيَاء خيرٌ كلُّه)، بل زجر صلى الله عليه وسلم من دعا غيره إلى التخفف منه إذ مرَّ على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنَّك لتستحيي حتى كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإنَّ الحياء مِن الإيمان) أي اتركه على هذا الخلق السَّني.
وبين عليه الصلاة والسلام كيف يحقق العباد هذا الخلق وكيف يكتسبونه عن طريق التزكية والترقي في مراتب الإيمان والإحسان فقال: (استحيوا مِن الله حقَّ الحياء قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه قال: ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظَ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء).
ويدخل في حفظ الرأس وما وعى: حفظُ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، ويتضمن حفظ البطن وما حوى: حفظَ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، وحفظَ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب.
وننبه هنا إلى مسألة مهمة وهي أن كل ما أدى إلى ترك الحقوق والتساهل فيها فهو عجز ومهانة، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك السؤال عن مسائل العلم والسكوت عن بيان الحق هو من الضعف والخور وليس من الحياء وإن ادعاه الناس ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين).
فتزداد أهمية الدعوة إلى تصحيح المفاهيم والتصورات الخاطئة في هذا العصر، حيث طغت فيه المفاهيم المادية على المعنوية، وقُدمت فيه الاعتبارات الدنيوية على الأخروية نتيجةً لقلة الفقه في الدين وضعف التحصين، واقتضت الحاجة إلى تضافر الجهود في سبيل علاج ما رسخ في أذهان كثير من الناس وتشبعت به نفوسهم من عوائد باطلة وموروثات بالية، وتوعيتِهم بما يجب أن يكونوا عليه من اعتقادات صحيحة وأفكارٍ سديدة ومسالكَ رشيدة؛ فتصبحَ منطلقاتُهم ومعاييرُهم وأحكامهم وَفق ميزان الشرع متجردةً عن الأهواء والنزعات الجاهلية.
عباد الله: ومن دلائل نبوءته صلى الله عليه وسلم إخباره عما سيكون في آخر الزمان من تغير المفاهيم واختلال المبادئ قال: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة» قالوا: «من الرويبضة يا رسول الله؟» قال: «التافه يتكلم في أمر العامة».
ومن الأمثلة التي تدل على أن الشارع الحكيم ينقل الناس من معنى معهود متعارف عليه إلى معنى آخر ينبغي أن يكون محلَّ الاهتمام ويؤخذَ بعين الاعتبار ما يرشد إليه قوله تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) أي: ليس العمى الذي يعتد به عمى العين والبصر وإنما العمى حقَّ العمى عمى القلب والبصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر وقال تعالى: (وَمَن كَانَ فِى هَٰذه أَعْمَىٰ فَهُوَ فِى ٱلْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب فلم يؤمن فهو في يوم القيامة أشدُّ عمى عن سلوك طريق الجنة، وأضل طريقًا عن الهداية والرشاد.
ومن أمثلة المفاهيم المصححة ما جاء عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (لاعَدْوَى وَلاطِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ ؟ قَالَ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ ..(قوله لاعدوى) على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تُعدي بطبعها وتنتقل بذاتها فجاء الشرع بإبطال هذا المعتقد وبين أن العدوى إذا انتقلت كان ذلك بقَدَر الله، لا بتأثير المرض ذاتِه.
والتطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم وهو مذموم كله لا يخرج من ذلك شيء والمؤمن شأنه أن يتفاءل لا أن يتشاءم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحَليمي رحمه الله: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
ومن الأمثلة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته لا يتم ركوعها ولاسجودها ولا خشوعها) فبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقيقة السرقة، بأن يصلي العبد ولكنه لا يطمئن في صلاته فيخلَّ بالركوع والسجود، ولا يحصلَ له الخشوع الذي هو روح الصلاة، فيخرجَ من صلاته وجوارحُه لم تتأثر.
ومن الأمثلة كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) فإنه لا يترك دعاءَ الله ومسألتَه إلا أعجزُ الناس إذ لا مشقة فيه ولا كلفة وهو عبادة محبوبة لله تعالى.
إن هذا التقرير النبوي الجامع هو عكس ما يعتقده بعضُ الجهالِ المستكبرين، أن الدعاء هو سلاح الضعفاء أو حيلة العاجز والمهزوم أو أنه سلبية وضعف يلجأ إليها الكسالى الذين لا يبذلون وسعهم لبلوغ أمانيهم.
إنَّ شأن الدعاء عظيم فقد صح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس شيء أكرمَ على الله من الدعاء) ومعنى الحديث أَيْ ليس شيء أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ لأن فيه إظهارَ الفقرِ وَالْعجزِ وَالتذللِ والاعتراف بقوة اللَّه وَقدرته، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يسأل الله يغضب عليه) قال الطيبي: رحمه الله «وذلك لأن الله يحب أن يُسأل من فضله، فمن لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه لا محالة».
أيها الإخوة في الله: وللبخل معان أخرى حري أن يلتفت إليها منها ما تضمنه قوله صلى الله عليه وسلم: (وأبخل الناس من بخل بالسلام) لأنه بخل بأسهل الأقوال وما لا ضرر عليه فيه أصلاً.
ومن أعظم معاني البخل ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (البخيل الذي من ذكرتُ عنده فلم يصل علي) فالبخيل الكامل في بخله من إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان هو فيه، فلم يبادر فيصلي عليه، صلى الله عليه وسلم؛ فهذا هو البخيل على الحقيقة وهل تجد أحدا أبخل من هذا؟.
فلا تبخلوا عباد الله على أنفسكم وبادروا بالصلاة على النبي كلما ذكر صلى الله عليه وسلم بل أكثروا من الصلاة عليه فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاة) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ؛ فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا).
فتعالوا عباد الله نقف مع جملة من الأمثلة الشاهدة لذلك والدالة على تميز منهج دين الإسلام في بيان حقائق الأشياء، ففي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
كان الناس يتفاخرون بالأنساب ومآثر الآباء والأجداد، فجاء الشرع بالمفهوم الصحيح للكرامة، فالتفاضل إنما يحصل بالتقوى، (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فكلما كان الإنسان محققاً للتقوى كان ذلك كمالاً في حقه، وهو الكريم حقا وعندما سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم لله)، فالفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره.
وفي بيان نبوي آخر يقرر صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بقوله: (الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى) أَيِ: الشَّرَفُ بَيْنَ النَّاسِ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ التَّقْوَى، فانظروا الفرق بين المفهوم عند أهل الدنيا وحقيقتِه عند الله.
إن أهل التقوى والإيمان والصلاح هم أولياء النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من ذي رحمه أم لا، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أَولى النّاسِ بي المتّقُونَ مَن كانُوا وحَيثُ كانُوا) وقال صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ إِنَّ آلَ أَبِي فُلاَنٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إنَّمَا وَليِّيَ الله وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) والمعنى إنما وليي من كان صالحاً وإن بعد نسبه مني، وليس وليي من كان غير صالح وإن كان نسبه قريباً مني، فأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم لم تنفعه قرابته به قال تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى نارا ذات لهب).
وعليه فلا يصح أن يفتخر المرء بماله ولا بمكانته ولا بجماله ولا بشيء من أعراض الدنيا أبدا، فمحل الاعتبار (القلب - والعمل) فمتى صلح القلب واستقام العبد على الشريعة وزَكى بالإخلاص لله ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم صلحت الأعمال وزكت، ومتى فسد القلب بالرياء والسمعة والشرك فسدت الأعمال، فالأعمال بالنيات.
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ترسيخ مفهوم التفاضل بين الناس وأنه ليس بصورهم ولا أجسادهم، وأكد هذه الحقيقةَ الإيمانية من خلال مشاهد حية ماثلةٍ أمامهم، فمن ذلك ماجاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يحتزُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكًا من الأراك، فكانت الريح تكْفؤُه، وكان في ساقيه دقَّة، فضحك القومُ من دِقَّة سَاقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يضحككم؟) قالوا: من دقة ساقيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحد).
فأهل الاستكبار على الله يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن في الآخرة بمعذبين؛ لأن الله لو لم يكن راضيا ما نحن عليه من الملة والعمل لم يعطنا الأموال والأولاد، ولم يبسط لنا في الرزق، ولم يؤثرنا بما آثرنا على غيرنا إلا لفضلنا، وغابت عنهم الحقيقة أن الله يبسط الرزق في الدنيا لمن يشاء من خلقه، ويضيق على من يشاء، لا لمحبة فيمن يبسط له ذلك ولا زلفة له استحق بها منه، ولا لبغض منه لمن ضيق عليه ذلك ولا مقت، ولكنه يفعل ذلك محنة لعباده وابتلاء، وأكثر الناس لا يعلمون أن الله يفعل ذلك اختبارا لعباده، فلو كان البسط دليلَ الإكرام والرضا لاختَص به المطيع، وكذا لو كان التضييق دليلَ الإهانة والسَّخَط لاختَص به العاصي، بل قد يعطي الله العبد من الدنيا استدراجا له وإملاءً.
الْعَرَضُ هُوَ مَتَاعُ الدُّنْيَا، وحقيقة الغنى غنى النفس وهو من استغنى بما أوتي وقَنَع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني.
ومما يتصل بهذا المعنى أن الإفلاس الحقيقي المهلك هو أن يلقى العبد ربه يوم القيامة مفلسا من الحسنات ليس عنده منها شيء، يبين لنا هذه الحقيقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول لأصحابه: (أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).
معاشر المسلمين: لقد أرشدت جملة من الآيات والأحاديث إلى حقيقةٍ جوهرية تتعلق بالمال من حيث البقاءُ والفناء قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ...)، الشيء الذي يقدمه المرء وينفقه في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته هو الذى يبقى، أما ما عداه من مَطْعَم أو مشرب أو ملبس ونحو ذلك من شؤون الدنيا فإنه يفنى.
إن اعتقاد المسلم بهذه الحقيقة، ويقينَه بأن ما يخرجه من ماله في أوجه البر وسد حاجة الفقيرابتغاء مرضاة الله هو المال الباقي على وجه الحقيقة، فهذا سيدفعه بلا شك إلى البذل والعطاء والإنفاق والبعد عن البخل والشح والإمساك.
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا فقَالَ صلى الله عليه وسلم مصححا وموجها: (بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا) والمعنى أن ما تُصدق به فهو الباقي، وما أُكل فهو الفاني، فهنا يأتي التصحيح النبوي للمفهوم الخاطئ السائد الذي يعتبر ما بقي من المال هو الذي لم يتم إنفاقه وبقي في حوزة صاحبه، في الوقت الذي يُظن فيه أن المال الذي تُصدق به واستقر في يد المحتاج هو مال ذاهب وفان ومفقود.
وهذا الحديث جاء موافقا لمدلول الآية السابقة (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) ويُعدُّ أنموذجًا عمليًّا وتطبيقًا واقعيا لمعناها، بل قد جعل الله تعالى عدم الإنفاق في سبيله من التهلكة فقال عز وجل: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قال القرطبي رحمه الله: «المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل ليس عندي ما أنفقه».
ومن المعاني التي ذكرها بعض العلماء في الآية: (لا تمسكوا أموالكم فيرثْها منكم غيرُكم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم).
ومما يتبع هذا المعنى كذلك تعقيبه صلى الله عليه وسلم عندما سأل أصحابه: (مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ) قَالوا:الَّذِى لاَ يُولَدُ لَهُ، قَالَ: ( لَيْسَ ذَاكَ بِالرَّقُوبِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِى لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا).
فالمفهوم الذي تناوله النبي صلى الله عليه وسلم بالتصحيح هنا هو معنى الرّقُوب إذ كان السائد بين الناس عموما أن الرّقُوب فيهم من ابتلي بموت الذرية فلا يكاد يعيش له ولد أوهي المرأة التي لا يبقى لها ولد، فعَمد صلى الله عليه وسلم إلى تغيير ذلك التصور وأوقف أصحابه على حقيقة «الرّقُوب» مؤكدا أنه ذلك الذي لم يكن له نصيب من الأجر الكبير والثواب العظيم الذي يحظى به الصابرُ المحتسبُ الأجرَ في موت أحد أولاده وفقدان فِلْذةِ كبده.
إخوة الإسلام: ومن المفاهيم التي جاء الشارع بتصحيحها مفهوم الشدة والقوة قال: (ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) يعني: ليس الإنسان الشديد هو الذي يصرع الناس، وإنما الشديد حقيقة والمفهوم الصحيح للقوة هو من يملك نفسه عند الغضب، فقد يكون الإنسان قويَّ البدن يغلب الرجال لكنه إذا غضب خرج عن طوره وفقد سيطرته على نفسه، قال ابن رجب رحمه الله: وينشأ من الغَضَب كثير من الأفعال المحرمة، كالقتل والضربِ، وأنواعِ الظلم والعُدوان، وكثير من الأقوال المحرَّمة.
فالقوة الحقيقية للمؤمن عندما يملك نفسه عند الغضب بحلمه وأناته في ساعة يكثر فيها العجلة والاندفاع، وينفث فيها الشيطان في نفس الغاضب نارَ سمومه.
عباد الله: ومن الخصال التي شاب مفهومَها الخللُ عند بعض الناس «الحياء» فهو شعبة من شعب الإيمان ومحمود على كل حال كما قال صلى الله عليه وسلم (الحَيَاء خيرٌ كلُّه)، بل زجر صلى الله عليه وسلم من دعا غيره إلى التخفف منه إذ مرَّ على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنَّك لتستحيي حتى كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإنَّ الحياء مِن الإيمان) أي اتركه على هذا الخلق السَّني.
وبين عليه الصلاة والسلام كيف يحقق العباد هذا الخلق وكيف يكتسبونه عن طريق التزكية والترقي في مراتب الإيمان والإحسان فقال: (استحيوا مِن الله حقَّ الحياء قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه قال: ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظَ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء).
ويدخل في حفظ الرأس وما وعى: حفظُ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، ويتضمن حفظ البطن وما حوى: حفظَ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، وحفظَ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب.
وننبه هنا إلى مسألة مهمة وهي أن كل ما أدى إلى ترك الحقوق والتساهل فيها فهو عجز ومهانة، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك السؤال عن مسائل العلم والسكوت عن بيان الحق هو من الضعف والخور وليس من الحياء وإن ادعاه الناس ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين).
فتزداد أهمية الدعوة إلى تصحيح المفاهيم والتصورات الخاطئة في هذا العصر، حيث طغت فيه المفاهيم المادية على المعنوية، وقُدمت فيه الاعتبارات الدنيوية على الأخروية نتيجةً لقلة الفقه في الدين وضعف التحصين، واقتضت الحاجة إلى تضافر الجهود في سبيل علاج ما رسخ في أذهان كثير من الناس وتشبعت به نفوسهم من عوائد باطلة وموروثات بالية، وتوعيتِهم بما يجب أن يكونوا عليه من اعتقادات صحيحة وأفكارٍ سديدة ومسالكَ رشيدة؛ فتصبحَ منطلقاتُهم ومعاييرُهم وأحكامهم وَفق ميزان الشرع متجردةً عن الأهواء والنزعات الجاهلية.
عباد الله: ومن دلائل نبوءته صلى الله عليه وسلم إخباره عما سيكون في آخر الزمان من تغير المفاهيم واختلال المبادئ قال: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة» قالوا: «من الرويبضة يا رسول الله؟» قال: «التافه يتكلم في أمر العامة».
ومن الأمثلة التي تدل على أن الشارع الحكيم ينقل الناس من معنى معهود متعارف عليه إلى معنى آخر ينبغي أن يكون محلَّ الاهتمام ويؤخذَ بعين الاعتبار ما يرشد إليه قوله تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) أي: ليس العمى الذي يعتد به عمى العين والبصر وإنما العمى حقَّ العمى عمى القلب والبصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر وقال تعالى: (وَمَن كَانَ فِى هَٰذه أَعْمَىٰ فَهُوَ فِى ٱلْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب فلم يؤمن فهو في يوم القيامة أشدُّ عمى عن سلوك طريق الجنة، وأضل طريقًا عن الهداية والرشاد.
ومن أمثلة المفاهيم المصححة ما جاء عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (لاعَدْوَى وَلاطِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ ؟ قَالَ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ ..(قوله لاعدوى) على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تُعدي بطبعها وتنتقل بذاتها فجاء الشرع بإبطال هذا المعتقد وبين أن العدوى إذا انتقلت كان ذلك بقَدَر الله، لا بتأثير المرض ذاتِه.
والتطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم وهو مذموم كله لا يخرج من ذلك شيء والمؤمن شأنه أن يتفاءل لا أن يتشاءم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحَليمي رحمه الله: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
ومن الأمثلة أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته لا يتم ركوعها ولاسجودها ولا خشوعها) فبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقيقة السرقة، بأن يصلي العبد ولكنه لا يطمئن في صلاته فيخلَّ بالركوع والسجود، ولا يحصلَ له الخشوع الذي هو روح الصلاة، فيخرجَ من صلاته وجوارحُه لم تتأثر.
ومن الأمثلة كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) فإنه لا يترك دعاءَ الله ومسألتَه إلا أعجزُ الناس إذ لا مشقة فيه ولا كلفة وهو عبادة محبوبة لله تعالى.
إن هذا التقرير النبوي الجامع هو عكس ما يعتقده بعضُ الجهالِ المستكبرين، أن الدعاء هو سلاح الضعفاء أو حيلة العاجز والمهزوم أو أنه سلبية وضعف يلجأ إليها الكسالى الذين لا يبذلون وسعهم لبلوغ أمانيهم.
إنَّ شأن الدعاء عظيم فقد صح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس شيء أكرمَ على الله من الدعاء) ومعنى الحديث أَيْ ليس شيء أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ لأن فيه إظهارَ الفقرِ وَالْعجزِ وَالتذللِ والاعتراف بقوة اللَّه وَقدرته، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يسأل الله يغضب عليه) قال الطيبي: رحمه الله «وذلك لأن الله يحب أن يُسأل من فضله، فمن لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه لا محالة».
أيها الإخوة في الله: وللبخل معان أخرى حري أن يلتفت إليها منها ما تضمنه قوله صلى الله عليه وسلم: (وأبخل الناس من بخل بالسلام) لأنه بخل بأسهل الأقوال وما لا ضرر عليه فيه أصلاً.
ومن أعظم معاني البخل ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (البخيل الذي من ذكرتُ عنده فلم يصل علي) فالبخيل الكامل في بخله من إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان هو فيه، فلم يبادر فيصلي عليه، صلى الله عليه وسلم؛ فهذا هو البخيل على الحقيقة وهل تجد أحدا أبخل من هذا؟.
فلا تبخلوا عباد الله على أنفسكم وبادروا بالصلاة على النبي كلما ذكر صلى الله عليه وسلم بل أكثروا من الصلاة عليه فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاة) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ؛ فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا).