كتاب ومقالات

الوجه الآخر للتقشف!

محمد مفتي

تصلني في الآونة الأخيرة العديد من الرسائل التسويقية والعروض الترويجية على هاتفي الخلوي، تتضمن الإعلان عن بعض السلع الاستهلاكية وغير الاستهلاكية، وكنتيجة لتواترها على هاتفي لفتت انتباهي وبدأت في تفقدها ببعض الاهتمام بمرور الوقت، ولكن مع تفحصها انتابني شعور بأن الكثير من تلك العروض مبالغ فيه، إلى الدرجة التي وصلت فيها نسب الخصومات والتخفيضات إلى ما يقرب من 50 %، قررت تتبع الأمر واستقصائه لأعرف مدى صحة هذه الخصومات من عدمها، فاتصلت بممثلي بعض الشركات التي أرسلت لي إعلانها وسألتها عن حقيقة الخصومات المعلنة في الرسائل التي وصلتني، فأجابوني بأنها حقيقية وصحيحة بالفعل.

ما أثار استغرابي واندهاشي نقطتين رئيسيتين: «الأولى» أن بعضاً من هذه المنتجات ليست سلعاً استهلاكية توشك صلاحيتها على الانتهاء، كونها متعلقة بمنتجات يسعى أصحابها للتخلص منها لتقليل الخسائر المتوقعة من عدم بيعها، كما أن المنشآت التي تقوم بتوفيرها ليست على وشك التصفية أو الإفلاس، «الثانية» هو كيفية حدوث مثل هذا الانخفاض الكبير في الأسعار عن ذي قبل، على الرغم من فرض ضريبة القيمة المضافة وارتفاع أسعار الوقود والعديد من الخدمات الأخرى كالكهرباء، مع العلم بأنه من المؤكد أن التجار بعد معدلات الخفض الهائلة التي تصل إلى 50 % كما سبق وذكرت، لا يمكن -بل ومن المستحيل- أن يقبلوا بالخسارة من الأساس، ومن المؤكد أنهم يحققون هامشاً مرضياً من الربح، وبما يمكنهم أيضاً من البقاء في السوق على الرغم من شدة المنافسة مع الكيانات التجارية الأخرى.

التفسير الوحيد لهذه الظاهرة التي تحمل الكثير من التناقض، هو أنه خلال فترة الطفرة قام الكثير من التجار باستغلال الأوضاع المتيسرة وارتفاع القوة الشرائية للعديد من الفئات، الأمر الذي دفعهم لرفع الأسعار على نحو مبالغ فيه، وربما ساعدهم على ذلك ضعف الرقابة الصارمة على الأسعار، وأيضاً وجود شريحة واسعة من المواطنين لا تبالي البتة بأسعار السلع والخدمات مهما ارتفعت بشدة، الأمر الذي شكل دافعاً قوياً أسهم في استمراء التجار لتسعير المنتجات على نحو يبعد كثيراً عن تكلفتها الحقيقة.

يخطئ البعض عندما يرى في ظاهرة الانكماش الاقتصادي كل العيوب فحسب، فهناك وجه آخر لترشيد النفقات، وهو وجه إيجابي يتمثل في العديد من الظواهر، لعل أهمها هو ظهور القيمة العادلة لكل سلعة أو خدمة، بما يسهم في استدامة واستقرار الأوضاع الاقتصادية الداخلية بالمملكة في المقام الأول والأخير، ولعلنا أصبحنا نلاحظ أن الكثير من المحال التجارية غدت تتلهف على استقبال الزبائن نتيجة الركود في عمليات البيع، وهو الأمر الذي اختلف كثيراً عن ذي قبل، عندما كان هؤلاء يقابلون العملاء فيما سبق بأنفة دون اهتمام كبير بالحفاظ عليهم.

من المؤكد أن الظواهر الإيجابية الصحية لأي وضع جديد تبدأ في الظهور التدريجي، ولا تظهر جميعها كدفعة واحدة، وحتى الآن رغم اكتساح ظاهرة التخفيضات في السوق السعودي إلا أن هناك بعض السلع التي لا يزال موردوها يكابرون ويقاومون تخفيض سعرها، ولعل السبب وراء ذلك هو ازدياد الطلب عليها (مثل بعض السلع الغذائية كالدواجن ومنتجاتها على سبيل المثال)، ولكن لكل دورة اقتصادية أحكامها، واستمرار وتيرة الخفض وترشيد الإنفاق من شأنه أن يطول جميع السلع والمنتجات والخدمات، ولكن على نحو متفاوت بطبيعة الحال، وخلال فترات زمنية مختلفة.

القطاعات الاقتصادية التي تأثرت بالانخفاض عديدة وبعضها شديد الأهمية، ومن أهم تلك القطاعات الحيوية السوق العقاري؛ حيث لمسنا مؤخراً انخفاض سعر بعض الأراضي، وانخفاض أسعار إيجارات بعض العقارات، وانخفاض أسعار مواد البناء أيضاً، وهو الأمر الذي سيسهم بالتدريج في حل مشكلة ارتفاع الإيجارات والمساكن ويحقق وفرة فيها تعود بالخير والنفع على الجميع، وهو الأمر الذي يعني أن قدراً معقولاً من الانكماش وترشيد النفقات يعني استقراراً وثباتاً أكثر للسوق، وهو ما يسهم في النهاية في أن تعود القيم العادلة للمنتجات والخدمات لوضعها الطبيعي، تمهيداً لبدء دورة اقتصادية جديدة قائمة على مصروفات رشيدة وأسعار مقبولة من الجميع.

* كاتب سعودي

mohammed@dr-mufti.com