كاوتش

طارق على فدعق

الكاوتشوك Cautchouc هو اسم "الشجرة التي تبكي" التي سميت بهذا الاسم لأنها تخرج السوائل الثقيلة باستمرار من أحشائها لتظهر وكأنها باكية وسبحان الله... الاسمان العلميان لأهم شجرتين لإخراج المطاط الطبيعي هما "فايكس الاستيكا" على وزن "فين عكس الأستيكا" و"هافيا برازيل" على وزن "بالعافيا يا برازيل".. وهذه السوائل الثقيلة الشبيهة بالدموع التي تخرجها الشجرات هي مادة المطاط.. فضلا فكر في استخدامك للمواد المطاطية اليوم.. بدءا بكفرات سيارتك، والسيور بداخل المواطير المختلفة، شاملة ثلاجتك، والكور، والخراطيم بأنواعها وأشكالها، علما بأن معظم تلك الاستعمالات خفية لا نراها.. وفى الواقع من المستحيل أن نحاول تخيل الحضارة بدون مطاط.. طورت من قبل رواد القارتين الأمريكيتين في القرن الخامس عشر.. ولكن مكتشفها العلمي هو الإنجليزي مايكل فاراداي الشهير باكتشافاته في الفيزياء.. اكتشف أنها مادة (بوليمرية) أي أنها تعيد نفسها مرة.. وتتكرر.. وتتكرر.. وتتكرر.. وهذه روح البوليمرات.. قلبها مكون من وحدة مكونة من خمسة كربونات وثمانية هيدروجينات.. ولهواة الهندسة والتصميم ستلاحظون أن نسبة قسمة الرقمين الثمانية على الخمسة هي 1,6 وهي "النسبة الذهبية" التي نجدها في هندسة التفاح، والبرتقال، وفى تصميم الأهرامات، ومبنى الأمم المتحدة، والعديد من التطبيقات العجيبة في الطبيعة والتصميم المعماري.. الشاهد في الموضوع أن هذه الوحدة المسماة "إيزوبرين" تتحد بطرق عجيبة مع إخوتها "الإيزو برينات" الأخرى لتولد تركيبة المطاط، وهي من نعم الله على البشرية لأنها تعشق الالتواء عشقا عجيبا، وتكره الماء كرها غريبا، وهي قوية جدا، ومتوفرة، ورخيصة.. مزايا رائعة لآلاف الاستخدامات المفيدة.. ومن الطرائف أنه في عام 1839 حاول "شالرز جود يير" الأمريكي في توليف نوعية من المطاط المقاوم للحرارة والبرودة الشديدتين وبخصائص ليونة ومرونة وقوة تحمل لتصلح للاستخدام كإطارات.. وبعدها انطلقت موجة استخدام المطاط.. وفى مطلع القرن العشرين تضخمت الموجة بمجيء اختراع السيارة.. ولكن لحظة.. فالموضوع لم يسخن بعد، فهنا نكتشف "مطاطية" المطاط الفلسفية فقد تفاعل هذا المنتج العجيب مع التاريخ، ثم تفاعل التاريخ معه.. احتلت القوة الأوربية مقاطعات المطاط في البرازيل وصدرّت المنتج السحري إلى العالم.. وتم زرع البذور في أفريقيا فانتفعت بلجيكا بالمطاط في الكونجو واستغلت القوة العاملة الأفريقية الغلبانة لاستخراج المطاط وتصديره إلى أوربا.. وتم تهجين وتطوير الشجرة من قبل الإنجليز وصدرت أيضا للمستعمرات الإنجليزية وأهمها سيلان (سري لانكا) والملايو (ماليزيا) ليرفع نصيب إنجلترا من انتاج المطاط للعالم.. وكأنه أداة لنقل خيرات الفقراء للأغنياء.. من الضعفاء إلى الأقوياء.. وكان المنعطف التاريخي التالي هو في مطلع الحرب العالمية الثانية حيث ظهرت أزمة كبرى للمطاط للحلفاء وخصوصا بعد احتلال القوات اليابانية للعديد من دول الشرق الأقصى الغنية بالكاوتشوك وأهمها ماليزيا.. الشاهد أن أدمغة ومعامل العالم تسابقت لإنتاج المطاط بدون اللجوء للمصادر الطبيعية.. ونجحوا في ذلك فأصبحت من الصناعات الناجحة.. كل هذا من الكاوتشوك.
وأواجه معضلة بيئية شخصية تتلخص في رغبتي في شراء كفرات جديدة لسيارتي، وأتردد بسبب هاجس التخلص من الكفرات القديمة فكل منها وزنه حوالى 15 كيلوجراما.. ويحتوي على كمية وقود لم تحترق بعد، وتقدر بحوالي ثمانية لترات.. وغالبا أن كفراتي القديمة سترمى في مردم نفايات جدة الذي سبب لي أكبر صداع لأن مشاكله كثيرة.. يوجد احتمال أن تحرق الكفرات وتتسبب في الإضافة لتلوث هواء وتربة وماء جدة، بل وتتسبب أيضا في التلوث للأجيال الحالية والمستقبلية.. وللعلم فبعض حرائق الكفرات في المرادم حول العالم تدوم لفترات طويلة جدا.. تخيل أنه في عام 1998 بدأ حريق في بلدة "ترايسي" بوادي واكيم بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة في مردم يحتوي على مجموعة كبيرة من الإطارات وتم إخماده في عام 2006.
* أمنية :
ينتج العالم حوالى عشرين مليون طن من المطاط سنويا وحوالى نصفه من المنتج الطبيعي.. وينتج أيضا أكثر من مليوني إطار يوميا.. سأكررها لتأكيد الرقم.. أكثر من مليوني كفر يوميا.. وأعتقد أنني سأحاول تأجيل التخلص من كفرات سيارتي إلى أن تخف حرائق مردم جدة لأنني أصبحت حساسا لوضع الحرائق فيه بعد زياراتي المتعددة ووقوفي على بعض الحرائق المثيرة بداخله.. أتمنى أن نعيد النظر في كمية ونوعية ووسائل التخلص من قمائمنا سواء كانت أوراقا، أو مخلفات طعام، أو كفرات، لأنها تساهم في نوعية الحياة التي سنورثها للأجيال المقبلة.. وسبحان الله فربما تبكي شجرة المطاط لأنها تدرك بطريقتها الخاصة أن البشر سيخربون البيئة بما تنتج.
والله من وراء القصد.