كتاب ومقالات

انتصار الواقعية السعودية

يحيى الامير

انتهت الأزمة الكبرى التي مرت بها المملكة؛ مواطن إعلامي سعودي يتعرض لحادثة فاجعة في قنصلية بلاده، وفجأة يجد الخصوم أنهم امتلكوا سلاحا فريدا من نوعه يمكن تصويبه للسعودية وتحديدا لولي عهدها الذي باتت كل مواقفه تمثل هاجسا مقلقا للغاية لكل قوى الشر والمؤامرات الموجهة نحو بلاده ونحو المنطقة.

فجأة أيضا وجدت كثير من القوى السياسية المتصارعة حول العالم ورقة سياسية جديدة فاتجه كل طرف لاستغلال الحادثة واستثمارها بما يصب في مصالحه.

حرب إعلامية غير مسبوقة ونموذج سيئ لتسييس القضايا الإنسانية واستخدامها ورقة للضغط والابتزاز والمناورات، لكن شيئا من ذلك لم يكن مجديا على الإطلاق والسبب في كل ذلك مستوى الواقعية السعودية في التعامل مع هذه الأزمة وغيرها من الأزمات.

أول قيمة في تلك الواقعية هي إشراك الرأي العام العالمي في كل التفاصيل والتحولات التي مر بها الحادث، ومن خلال الجهات الرسمية المخولة بذلك، انطلاقا من أن القيادة السعودية ليس لديها ما تخفيه في القضية وتتعامل معها على أنها جريمة شنيعة ويجب محاسبة المسؤولين عنها.

كانت تلك الواقعية بحد ذاتها أزمة كبرى لكل من عملوا على تسييس القضية واتخذوها حربا إعلامية مفتوحة ضد المملكة. وهكذا بدأت حالات الانفعال التي صاحبت تلك الهجمات ولم تتبق للخصوم في تلك الحرب إلا أداة واحدة؛ التشكيك في كل الروايات السعودية واستمرار الاستهداف الموجه تحديدا لولي العهد السعودي.

الأغلبية العظمى من منصات الهجوم على المملكة في قضية جمال خاشقجي لم تكن دولا، وبخلاف تركيا وقطر فقد كانت أكثر الجهات المشاركة في الهجوم عبارة عن هيئات ومنظمات ووسائل إعلام كانت موجهة ومسخرة بالكامل لهذه المعركة منذ اليوم الأول، فعلى ماذا كان الرهان بالنسبة لهم؟

كانوا يراهنون على أن تتصرف السياسة السعودية بانفعال وغضب جراء هذا الهجوم المستمر ومتعدد الأطراف، أو أن تستمر عملية الاختفاء خاصة في ظل المعلومات المضللة الأولى التي قدمها المتهمون، وبالتالي تأتي الإجابات والمعلومات من أطراف أخرى لتكشف حقيقة ما حدث، والرهان الأخير كان على أن يؤدي ذلك الهجوم الإعلامي المتواصل إلى التأثير في الشارع السعودي من خلال ضرب صورته في العالم.

وأمام تلك النشوة جاء بيان النيابة العامة الأول ليوقف لعبة التسريبات التي اتخذتها الأجهزة التركية ويجعل اللاعب الأول والأهم هو الرياض، فجاء أول بيان فعلي يكشف مصير جمال خاشقجي من الرياض لا من أنقرة ولا من واشنطن.

الواقعية السعودية تتعامل مع كل ملف وقضية في حيزها فقط، لأن محاولات توجيه الأحداث إلى زوايا أخرى من شأنه أن يحتاج إلى كثير من الحيل والألاعيب التي لا تمارسها السياسة السعودية، والتي مارستها تركيا بشكل تم فيه توزيع الأدوار بين المؤسسات الإعلامية والشخصيات الرسمية وشبه الرسمية.

في واشنطن وبينما كانت الانتخابات في أوج حرارتها مثلت هذه الحادثة فرصة كبرى لخصوم الرئيس ترمب حزبيا وإعلاميا، وذلك للتأثير في مسار الانتخابات وإضعاف موقف الرئيس من خلال استهداف أهم تحالفات واشنطن في العالم والتي تمثلها المملكة. من الأيام الأولى أعلنت واشنطن بوست مثلا أنها خصم حقيقي للمملكة في هذه القضية وتحركت صحف ووسائل إعلام أخرى بكثير من الهجوم المندفع على المملكة وولي العهد والرئيس ترمب خاصة مع المعارك المستمرة بينه وبين تلك المؤسسات الإعلامية.

كان الحادث الأليم بسبب أفراد هم الآن قيد الإجراءات النظامية، وهذا هو واقع ما حدث، لكن الخصوم أرادوا أن يكون الاتهام للقيادة السعودية وتحديدا لشخص ولي العهد لكون أولئك المتهمين يتبعون لأجهزة رسمية؛ سيناريو مقلوب لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر: مجموعة من السعوديين المتورطين في الحادث وتم السعي لإلصاق التهمة بالشارع السعودي والقيادة السعودية آنذاك.

إنما لماذا لدى السعودية كل هذه الواقعية السياسية؟ في الغالب فإن الكيانات التي تفتقر للواقعية والمصداقية هي تلك التي تحمل أخطاء في بنيتها وتخشى على شرعيتها وتتطلع لتحقيق أهداف ذات منطلقات غير واقعية، بينما لدى المملكة واحدة من أعظم قصص التأسيس وبناء الكيانات الوطنية في القرن العشرين، ولديها هدف ومشروع واحد وهو الأمن والتنمية والمستقبل بكل ما يستلزمه ذلك من علاقات دولية وخطوات داخلية وإقليمية.

الواقعية في السياسة قوة حقيقية، لا تستطيع كل الكيانات اتخاذها نهجا فعليا إلا تلك التي تنطلق من تأسيس واقعي وتتطلع لمستقبل وأهداف واقعية وتلك هي السعودية وكل الكيانات الكبرى والمستقرة في المنطقة.

* كاتب سعودي