8 أعوام ودراما الخليج ومسرحها بلا غانم الصالح
الأحد / 24 / ربيع الأول / 1440 هـ الاحد 02 ديسمبر 2018 02:21
قراءة: د. عبدالله المدني *
مرّت أخيراً الذكرى الـ8 لوفاة نجم كبير من نجوم الفن في الكويت والخليج والوطن العربي دون أن نسمع أو نقرأ كلمة يتيمة عنه في وسائل الإعلام، ولكأنما لم يكن هذا الفنان/الإنسان يوما مالئ الدنيا وشاغل الناس بسبب أعماله الكوميدية والتراجيدية المتميزة في التلفزيون والمسرح، ناهيك عن خصاله ومناقبه الحميدة في تعامله مع زملائه وجمهوره.
حديثنا هنا عن الممثل الكويتي غانم صالح الغوينم الشهير بـ«غانم الصالح» الذي وافته المنية في لندن 19 أكتوبر 2010 عن عمر ناهز 67 سنة، متأثرا بمرض سرطان الرئة، والذي سجل عنه قوله ذات يوم: «الدراما الكويتية سفيرنا إلى العالم العربي، وهو أمر يشرفنا ويحمـّلنا مسؤولية إضافية نعتز بها ونفتخر، ولهذا تجدنا أكثر حرصا أمام أي إنتاج يقدم.. لقد استطاعت الدراما المحلية التلفزيونية، أن تحتل دورها ومكانها وترسخ وتؤكد صورتها في ذاكرة ووجدان المشاهد محليا وخليجيا وعربيا، وهو أمر ما كان ليتحقق لولا دعم الجهات الرسمية والخاصة على حد سواء».
ولد غانم الصالح في مارس 1943 بمنطقة «صيهد العوازم»، بالقرب من قصر السيف لعائلة تعود أصولها إلى الأحساء بالمملكة العربية السعودية، وكان عائلها بحارا أميا قبل أن يكتسب من مخالطته علماء الدين ورجالات البلد الشيء الكثير، ويتجه إلى التجارة من خلال بقالة كانت تبيع التمور والمواد التموينية.
عاش غانم وسط أسرة متوسطة الحال في حي المرقاب الشعبي، داخل بيت كبير ضم الأعمام وزوجاتهم وأولادهم، فتعلم من تلك البيئة كيفية التأقلم مع الصعوبات، وقيمة الطيبة والعشرة الحسنة المتأتية من الاختلاط والتعاون. وفي هذا السياق تحدث في حوار مع مجلة عالم اليوم (18/11/2009) فوصف طفولته بالسعيدة، مضيفا: «حتى الحياة كانت صحية أكثر من الوقت الحالي، فلم تكن لدينا ثلاجات لحفظ الطعام. كان هناك شيء اسمه (الملال) يعلق في الشجر، نضع فيه الطعام بعيدا عن القطط والفئران. أذكر أننا كنا نأكل السمك كل يوم خميس، والدجاج نربيه في البيوت، كذلك كان لدينا حوش الدبش في كل بيت، تربى فيه البقر والأغنام والدجاج، وهو حوش منعزل عن البيت بعض الشيء. أتذكر الوالدة رحمها الله حيث كانت تحلب البقر صباحا وتجهز الحليب. في فصل الصيف كنا ننام على السطح، وفي الشتاء داخل البيت. القائم على البيت هي الوالدة أما الأب فهو المسؤول عن توفير أسباب الراحة والمعيشة الطيبة. الرجال يعملون في البحر، يغيبون عن زوجاتهم 3 أو 4 أشهر، والأمهات هن من ربين الأجيال، لذا كان للمرأة دور كبير في النهضة بالأبناء في تلك الفترة».
درس غانم في مدرسة المرقاب، ثم في المباركية القديمة بالسوق الداخلي، ثم في مدرسة حولي الثانوية، لكنه ترك تعليمه بمجرد حصوله على الشهادة المتوسطة. وخلال سنوات دراسته لم يعرف عنه أنه كان طالبا شقيا أو كسولا، بل العكس أثبت للجميع أنه متميز بدليل مشاركته المكثفة في النشاط الكشفي، ناهيك عن نشاطه الإذاعي والمسرحي في المدرسة، الذي قاده إلى عمل اسكتشات واستعراضات خفيفة أثناء حفلات السمر والرحلات المدرسية.
رحلة الألف ميل
ذكر غانم في حواره مع مجلة عالم اليوم (مصدر سابق) أن رحلة الألف ميل عنده باتجاه الفن بدأت أثناء الدراسة عام 1951 ــ 1952 حينما كان يتابع الأفلام القديمة باللونين الأسود والأبيض من تلك التي كانت تـُعرض في ساحات البيوت، وهو في سن الثامنة. يقول: «كنا كأطفال نتأثر بهذه الصور، ونحب التقليد، فمثلا فيلم عنتر وعبلة (إنتاج 1948) كنا نقوم بتقليده وعمل إسكتش أو مشهد منه بين عنتر وشيبوب. هذا الانبهار، ولــّد لديّ حب هذا الشيء كصناعة، فبدأت في عام 1952 بالمسرح المدرسي، كما توليتُ الإذاعة المدرسية.. أنظم فقراتها بادئا بالقرآن الكريم ثم الأناشيد والأغاني وأصرف الطلبة إلى صفوفهم.. استرعى هذا الأمر الناظر خالد المسعود في مدرسة قتيبة فجعلني عريف المدرسة بالطابور الصباحي، وخصص لي مكتبا في مكتبه لفض مشكلات الطلبة الصغيرة، وهو ما ولــّد لديّ حبي للفن والقيادة». تقول سيرته الذاتية المنشورة، إنه بعد تركه للدراسة عمل في وزارة العدل سنة 1959 في وظيفة سكرتير بمحكمة الاستئناف، مختصا بقضايا الأحوال الشخصية والجنايات، فكان يستمع يوميا لمشكلات الزواج والطلاق والنفقة والضرر والمخدرات والقتل وغيرها من القضايا الواقعية في المجتمع، الأمر الذي أغراه بتناول هذه القضايا وعرضها فنيا. وفي عام 1960 تزوج زواجا تقليديا من إحدى قريباته التي كانت في سن الـ13 بينما كان هو في سن الـ18. وقد أثمر زواجهما 5 أبناء (صلاح، بسام، طلال، صفاء، إقبال)، ليس لأي منهم علاقة بالفن.
وصف غانم زوجته بالغيورة، مضيفا أن الكثيرين حاولوا الإيقاع بينهما لكنهم فشلوا بسبب صمودهما وعدم اهتمامهما بالشائعات، بينما قالت هي بعد وفاته في حوار مع صحيفة الرأي الكويتية (8/11/2010) إنها كانت تغير فعلا عليه في البدايات، مضيفة كان: «ريّال سيده، وحافظ بيته وعياله، وراعي صلاة ومسجد، وما عنده خرابيط».
من «العدل» إلى رئاسة التمثيليات
وحينما ظهر التلفزيون في الكويت في عام 1961، التحق غانم به مقدما لبرنامج «مشكلة وحلها»، وفي العام نفسه ساهم في تأسيس فرقة «المسرح العربي». أما في عام 1964 فقرر أن يترك وظيفته في وزارة العدل ليتفرغ كليا للتلفزيون، حيث تم تعيينه مساعدا لرئيس قسم التمثيليات الذي كان وقتها الفنان «سعد الفرج»، ثم صار رئيسا لقسم التمثيليات إلى حين تقاعده في سنة 1983. وهكذا صار الرجل في قلب الدراما، زميلا للرعيل الأول من مؤسسي الأعمال التلفزيونية. يقول غانم (بتصرف) حول هذا المنعطف المهم في حياته: «كان التلفزيون يمثل إبهارا للناس، فهو صندوق صغير يخرج منه الناس والصور، وكان المونتاج والتصوير والإمكانات مأساة. في البدايات لم نكن نعرف أنه ستكون هناك تقنيات وتكنولوجيا كاليوم. كنا نتعب جدا في التصوير. فالتمثيلية التي مدتها نصف ساعة تصور مرة واحدة، وإذا أخطأ أي شخص تعاد كلها مرة أخرى. ثم كانت هناك مشاهد أو (شوتات) تستغرق من 10 إلى 12 ساعة لتسجيل نصف ساعة، والممثل هو من يتحمل كل هذا العناء لأنه يعيد أيا كان المخطئ.. مصورا أو مخرجا. بعدها تطور الأمل قليلا، وأصبحت هناك دخلات ومونتاج إلى أن جاء العمل المريح الآن، والمونتاج يقوم بالباقي. نحن عاصرنا الأبيض والأسود وبدايات التلفزيون، وكان زملائي عبدالحسين عبدالرضا، محمد جابر، إبراهيم الصلال، علي النفيسي، جعفر المؤمن، علي البريكان، أحمد الصالح، جاسم النبهان، سعاد عبدالله، حياة الفهد، مريم الصالح، مريم الغضبان أو مريم (أ) ومريم (ب) كما كان زكي طليمات يطلق عليهما». ويتذكر غانم الرعيل الذي سبق رعيله فيأتي على ذكر محمد النشمي والدكتور صالح العجيري وعقاب الخطيب، ويصفهم برواد المسرح الارتجالي الذين قدموا مسرحا لاذعا وساخنا، وتناولوا مواضيع جريئة بعيدة عن السياسة لكنها ناقدة للوزارات المقصرة وبعض جوانب الحياة الإجتماعية دونما تجريح أو إسفاف، أي على خلاف مسرح اليوم الذي «ليس فيه نقد صريح. فقد اختلط الحابل بالنابل، وأصبح السيئ مسيطرا أكثر من الجيد. للأسف كثير من القضايا تــُرفض بحجة أنها ليست من المجتمع، بينما المجتمع مليء بالصالح والطالح. نحن لسنا مجتمعا أفلاطونيا، والدليل المخافر وصحافتنا المليئة بالمشكلات». مؤسس المسرح وجوكر الدراما الكويتية قلنا إن غانم الصالح عضو مؤسس في «المسرح العربي» الكويتي، وكانت أول مسرحية شارك فيها هي مسرحية «صقر قريش» من تأليف محمد تيمور وإخراج زكي طليمات، لتكرّ بعدها السبحة ويشارك في مجموعة من المسرحيات المحفورة في ذاكرة الجمهور الكويتي والخليجي، لعل أشهرها: «ابن جلا»، «مضحك الخليفة»، «عشت وشفت»، «اغنم زمانك»، «الكويت سنة 2000»، «حط حيلهم بينهم»، «القاضي راضي»، «طار الطير»، «مطلوب زوج حالا»، «عالم نساء ورجل»، «على جناح التبريزي وتابعه قفة»، «عائلة بوصعرورة»، «فرحة أمة»، «بيت العزوبية»، «باي باي لندن»، «برلماني حكومي»، «فرسان المناخ»، «أرض وقرض»، «بيت العزوبية»، «مضارب بني نفط»، «حرم سعادة الوزير»، «ممثل الشعب»، «البيت المسكون»، و«بيت بوصالح» (من تأليفه)، «دكتور صنهات»، «خيران رايح جاي»، ومسرحية «هلا دولي» (إنتاج مصري كويتي مشترك).
ورغم أن غانم يؤكد أن المسرح هو أبو الفنون، ويجده الأقرب إلى نفسه لأنه «يشمل المواجهة بين المتلقي والمؤدي، فإما أن يستحسنك أو العكس» حسب قوله، فإن مشاركاته في المسلسلات التلفزيونية كانت كبيرة ومؤثرة وتميزت بالإتقان والجودة لدرجة أنه لقّب بـ «جوكر الدراما الكويتية». من أهم الأعمال الدرامية التي شارك فيها: «غرباء»، «كامل الأوصاف»، «الخراز»، «إذا فات الوقت ما ينفع الصوت»، «القلب الكبير»، «الأقدار»، «الرحيل»، «خالتي قماشة»، «عائلة أبيض وأسود»، «أم البنات»، «محكمة الفريج»، «إخوان مريم»، «البيت الكبير»، «الطير والعاصفة»، «قاصد خير»، «يوميات متقاعد»، «ليلة عيد»، «أيام الفرج»، «رقية وسبيكة»، «خرج ولم يعد»، «إليكم مع التحية»، «حبابة»، «بوفلوس»، «فريج صويلح»، «بيوت من ثلج»، وغيرها.
حينما سئل غانم الصالح عن العلاقة بين الفن والسياسة كانت إجابته أنهما وجهان لعملة واحدة، وهما متداخلان حيث السياسة هي «فن المرافعة، ومفهومها يشمل المراوغة والمجادلة والمناقشة والخداع واللف والدوران والنفاق والكذب والمجاملة»، وهكذا فقد يُطلق على النائب البرلماني الناجح «فنان»، بحسب قوله.
في حوار أجرته معه مجلة سيدتي قبل وفاته ونشرته في 5/11/2010 تحدث غانم عن تجربة الإنتاج فأكد أنه ليس متخوّفا منها، بدليل خوضه هذه التجربة عام 1979 من خلال مسرحية «بيت بوصالح» وبعض الأعمال الفنية الإذاعية والتلفزيونية في الثمانينات. لكنه استدرك قائلا: «توصلت لنتيجة في النهاية مفادها أن هذه العملية تحتاج إلى التفرّغ، إضافة إلى أنني كما صرّحتُ مرارا وتكرارا لا أحب لغة الأرقام، وأفضّل أن أكون فنانا فحسب وليس تاجرا، وذلك لعشقي الشديد لجمهوري الذي تعوّد أن أقدّم له العمل المميّز». «بسنا تمثيل».. مهّدت لرحيله المر حصل فناننا على الكثير من الجوائز وشهادات التقدير من جهات رسمية وشخصية وصحفية؛ منها شهادة إعلام من محطة بي بي سي البريطانية عام 1969، ودرع من المسرح العربي عام 1980، ودرع المبدعين عام 2003، وشهادة تقدير من مهرجان القاهرة السادس، وشهادة تقدير من مهرجان الخليج التاسع للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني عام 2003، وشهادة تقدير من قناة سما دبي وتلفزيون دبي عام2008.
في حفل تأبينه في نوفمبر 2010 ألقيت قصيدة للشاعر الغنائي الكبير عبداللطيف البناي بصوت الفنان المبدع سليمان الياسين جاء فيها:
«عمر النخل ما عطش واليوم هو عطشان
والورد كله ذبل من فارق الساقي
غانم وغانم رحل عنا بلا استئذان
ولما تروح الروح بالروح وش باقي
راح الأبو والعم والفن والفنان
وإن كان باقي فن في عمره الباقي
كل شي فراقه سهل إلا أعز إنسان
مثل أخونا أخو ما كو ولا نلاقي».
قالت عنه رفيقة دربه في الأعمال المسرحية والدرامية الفنانة الرائدة حياة الفهد بتأثر شديد: «تمنيت ألا تأتي هذه اللحظة وأرثي الأخ والزميل والصديق الذي كانت صفاته الإنسانية تتخطى مواهبه الفنية وقدراته على أداء أدواره وتقمصه للشخصيات التي يجسدها سواء على المسرح أو في التلفزيون، كان ودودا وحنونا وإنسانا قبل أن يكون فنانا، كما أنه لم يبخل على من حوله بما يحتاج إليه من عون ونصيحة ورأي، وكان يضفي خلال وجوده مع جميع العاملين، معه سواء في كواليس المسرح أو في استوديو ومواقع التصوير، جوا أبويا وعائليا». وأضافت الفهد: «كان يتفقد ويسأل عن جميع العاملين من فنيين وفنانين وإداريين، وكان متعاونا مع فريق العمل المشارك فيه إلى أبعد الحدود، وكان ملتزما بمواعيد العمل، فهو أول الحاضرين وآخر المغادرين. لقد عاش بصدق، ملاكا، وعمره لم يغلط على أحد، وكان رده على من يغلط عليه: الله يسامحك. أتمنى أن تكون سيرته الحياتية ومسيرته الفنية مثلا وقدوة لجيل الشباب، لأنه كان نموذجا نادرا بين فناني جيله من الرواد». ثم كشفت حياة الفهد عن أمر لا يعلمه أحد عن الفقيد، بمن فيهم أفراد عائلته، وهو أنه كان كافلا عددا من الأيتام.
أما زميله وصديقه الفنان محمد جابر، الشهير بشخصية «العيدروسي»، فقد قال: «تاريخ غانم يشهد له، وأشكر كل الفنانين والفنانات الذين أشادوا به وبمواقفه»، مشيرا إلى أن الراحل كان حريصا على أسرته ولا يريد لأبنائه أن يعانوا ما عاناه في حياته، وقد قال الصالح له في أواخر أيامه: «بسنا تمثيل نبي نقعد»، وكأنه يريد أن يرحل.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
حديثنا هنا عن الممثل الكويتي غانم صالح الغوينم الشهير بـ«غانم الصالح» الذي وافته المنية في لندن 19 أكتوبر 2010 عن عمر ناهز 67 سنة، متأثرا بمرض سرطان الرئة، والذي سجل عنه قوله ذات يوم: «الدراما الكويتية سفيرنا إلى العالم العربي، وهو أمر يشرفنا ويحمـّلنا مسؤولية إضافية نعتز بها ونفتخر، ولهذا تجدنا أكثر حرصا أمام أي إنتاج يقدم.. لقد استطاعت الدراما المحلية التلفزيونية، أن تحتل دورها ومكانها وترسخ وتؤكد صورتها في ذاكرة ووجدان المشاهد محليا وخليجيا وعربيا، وهو أمر ما كان ليتحقق لولا دعم الجهات الرسمية والخاصة على حد سواء».
ولد غانم الصالح في مارس 1943 بمنطقة «صيهد العوازم»، بالقرب من قصر السيف لعائلة تعود أصولها إلى الأحساء بالمملكة العربية السعودية، وكان عائلها بحارا أميا قبل أن يكتسب من مخالطته علماء الدين ورجالات البلد الشيء الكثير، ويتجه إلى التجارة من خلال بقالة كانت تبيع التمور والمواد التموينية.
عاش غانم وسط أسرة متوسطة الحال في حي المرقاب الشعبي، داخل بيت كبير ضم الأعمام وزوجاتهم وأولادهم، فتعلم من تلك البيئة كيفية التأقلم مع الصعوبات، وقيمة الطيبة والعشرة الحسنة المتأتية من الاختلاط والتعاون. وفي هذا السياق تحدث في حوار مع مجلة عالم اليوم (18/11/2009) فوصف طفولته بالسعيدة، مضيفا: «حتى الحياة كانت صحية أكثر من الوقت الحالي، فلم تكن لدينا ثلاجات لحفظ الطعام. كان هناك شيء اسمه (الملال) يعلق في الشجر، نضع فيه الطعام بعيدا عن القطط والفئران. أذكر أننا كنا نأكل السمك كل يوم خميس، والدجاج نربيه في البيوت، كذلك كان لدينا حوش الدبش في كل بيت، تربى فيه البقر والأغنام والدجاج، وهو حوش منعزل عن البيت بعض الشيء. أتذكر الوالدة رحمها الله حيث كانت تحلب البقر صباحا وتجهز الحليب. في فصل الصيف كنا ننام على السطح، وفي الشتاء داخل البيت. القائم على البيت هي الوالدة أما الأب فهو المسؤول عن توفير أسباب الراحة والمعيشة الطيبة. الرجال يعملون في البحر، يغيبون عن زوجاتهم 3 أو 4 أشهر، والأمهات هن من ربين الأجيال، لذا كان للمرأة دور كبير في النهضة بالأبناء في تلك الفترة».
درس غانم في مدرسة المرقاب، ثم في المباركية القديمة بالسوق الداخلي، ثم في مدرسة حولي الثانوية، لكنه ترك تعليمه بمجرد حصوله على الشهادة المتوسطة. وخلال سنوات دراسته لم يعرف عنه أنه كان طالبا شقيا أو كسولا، بل العكس أثبت للجميع أنه متميز بدليل مشاركته المكثفة في النشاط الكشفي، ناهيك عن نشاطه الإذاعي والمسرحي في المدرسة، الذي قاده إلى عمل اسكتشات واستعراضات خفيفة أثناء حفلات السمر والرحلات المدرسية.
رحلة الألف ميل
ذكر غانم في حواره مع مجلة عالم اليوم (مصدر سابق) أن رحلة الألف ميل عنده باتجاه الفن بدأت أثناء الدراسة عام 1951 ــ 1952 حينما كان يتابع الأفلام القديمة باللونين الأسود والأبيض من تلك التي كانت تـُعرض في ساحات البيوت، وهو في سن الثامنة. يقول: «كنا كأطفال نتأثر بهذه الصور، ونحب التقليد، فمثلا فيلم عنتر وعبلة (إنتاج 1948) كنا نقوم بتقليده وعمل إسكتش أو مشهد منه بين عنتر وشيبوب. هذا الانبهار، ولــّد لديّ حب هذا الشيء كصناعة، فبدأت في عام 1952 بالمسرح المدرسي، كما توليتُ الإذاعة المدرسية.. أنظم فقراتها بادئا بالقرآن الكريم ثم الأناشيد والأغاني وأصرف الطلبة إلى صفوفهم.. استرعى هذا الأمر الناظر خالد المسعود في مدرسة قتيبة فجعلني عريف المدرسة بالطابور الصباحي، وخصص لي مكتبا في مكتبه لفض مشكلات الطلبة الصغيرة، وهو ما ولــّد لديّ حبي للفن والقيادة». تقول سيرته الذاتية المنشورة، إنه بعد تركه للدراسة عمل في وزارة العدل سنة 1959 في وظيفة سكرتير بمحكمة الاستئناف، مختصا بقضايا الأحوال الشخصية والجنايات، فكان يستمع يوميا لمشكلات الزواج والطلاق والنفقة والضرر والمخدرات والقتل وغيرها من القضايا الواقعية في المجتمع، الأمر الذي أغراه بتناول هذه القضايا وعرضها فنيا. وفي عام 1960 تزوج زواجا تقليديا من إحدى قريباته التي كانت في سن الـ13 بينما كان هو في سن الـ18. وقد أثمر زواجهما 5 أبناء (صلاح، بسام، طلال، صفاء، إقبال)، ليس لأي منهم علاقة بالفن.
وصف غانم زوجته بالغيورة، مضيفا أن الكثيرين حاولوا الإيقاع بينهما لكنهم فشلوا بسبب صمودهما وعدم اهتمامهما بالشائعات، بينما قالت هي بعد وفاته في حوار مع صحيفة الرأي الكويتية (8/11/2010) إنها كانت تغير فعلا عليه في البدايات، مضيفة كان: «ريّال سيده، وحافظ بيته وعياله، وراعي صلاة ومسجد، وما عنده خرابيط».
من «العدل» إلى رئاسة التمثيليات
وحينما ظهر التلفزيون في الكويت في عام 1961، التحق غانم به مقدما لبرنامج «مشكلة وحلها»، وفي العام نفسه ساهم في تأسيس فرقة «المسرح العربي». أما في عام 1964 فقرر أن يترك وظيفته في وزارة العدل ليتفرغ كليا للتلفزيون، حيث تم تعيينه مساعدا لرئيس قسم التمثيليات الذي كان وقتها الفنان «سعد الفرج»، ثم صار رئيسا لقسم التمثيليات إلى حين تقاعده في سنة 1983. وهكذا صار الرجل في قلب الدراما، زميلا للرعيل الأول من مؤسسي الأعمال التلفزيونية. يقول غانم (بتصرف) حول هذا المنعطف المهم في حياته: «كان التلفزيون يمثل إبهارا للناس، فهو صندوق صغير يخرج منه الناس والصور، وكان المونتاج والتصوير والإمكانات مأساة. في البدايات لم نكن نعرف أنه ستكون هناك تقنيات وتكنولوجيا كاليوم. كنا نتعب جدا في التصوير. فالتمثيلية التي مدتها نصف ساعة تصور مرة واحدة، وإذا أخطأ أي شخص تعاد كلها مرة أخرى. ثم كانت هناك مشاهد أو (شوتات) تستغرق من 10 إلى 12 ساعة لتسجيل نصف ساعة، والممثل هو من يتحمل كل هذا العناء لأنه يعيد أيا كان المخطئ.. مصورا أو مخرجا. بعدها تطور الأمل قليلا، وأصبحت هناك دخلات ومونتاج إلى أن جاء العمل المريح الآن، والمونتاج يقوم بالباقي. نحن عاصرنا الأبيض والأسود وبدايات التلفزيون، وكان زملائي عبدالحسين عبدالرضا، محمد جابر، إبراهيم الصلال، علي النفيسي، جعفر المؤمن، علي البريكان، أحمد الصالح، جاسم النبهان، سعاد عبدالله، حياة الفهد، مريم الصالح، مريم الغضبان أو مريم (أ) ومريم (ب) كما كان زكي طليمات يطلق عليهما». ويتذكر غانم الرعيل الذي سبق رعيله فيأتي على ذكر محمد النشمي والدكتور صالح العجيري وعقاب الخطيب، ويصفهم برواد المسرح الارتجالي الذين قدموا مسرحا لاذعا وساخنا، وتناولوا مواضيع جريئة بعيدة عن السياسة لكنها ناقدة للوزارات المقصرة وبعض جوانب الحياة الإجتماعية دونما تجريح أو إسفاف، أي على خلاف مسرح اليوم الذي «ليس فيه نقد صريح. فقد اختلط الحابل بالنابل، وأصبح السيئ مسيطرا أكثر من الجيد. للأسف كثير من القضايا تــُرفض بحجة أنها ليست من المجتمع، بينما المجتمع مليء بالصالح والطالح. نحن لسنا مجتمعا أفلاطونيا، والدليل المخافر وصحافتنا المليئة بالمشكلات». مؤسس المسرح وجوكر الدراما الكويتية قلنا إن غانم الصالح عضو مؤسس في «المسرح العربي» الكويتي، وكانت أول مسرحية شارك فيها هي مسرحية «صقر قريش» من تأليف محمد تيمور وإخراج زكي طليمات، لتكرّ بعدها السبحة ويشارك في مجموعة من المسرحيات المحفورة في ذاكرة الجمهور الكويتي والخليجي، لعل أشهرها: «ابن جلا»، «مضحك الخليفة»، «عشت وشفت»، «اغنم زمانك»، «الكويت سنة 2000»، «حط حيلهم بينهم»، «القاضي راضي»، «طار الطير»، «مطلوب زوج حالا»، «عالم نساء ورجل»، «على جناح التبريزي وتابعه قفة»، «عائلة بوصعرورة»، «فرحة أمة»، «بيت العزوبية»، «باي باي لندن»، «برلماني حكومي»، «فرسان المناخ»، «أرض وقرض»، «بيت العزوبية»، «مضارب بني نفط»، «حرم سعادة الوزير»، «ممثل الشعب»، «البيت المسكون»، و«بيت بوصالح» (من تأليفه)، «دكتور صنهات»، «خيران رايح جاي»، ومسرحية «هلا دولي» (إنتاج مصري كويتي مشترك).
ورغم أن غانم يؤكد أن المسرح هو أبو الفنون، ويجده الأقرب إلى نفسه لأنه «يشمل المواجهة بين المتلقي والمؤدي، فإما أن يستحسنك أو العكس» حسب قوله، فإن مشاركاته في المسلسلات التلفزيونية كانت كبيرة ومؤثرة وتميزت بالإتقان والجودة لدرجة أنه لقّب بـ «جوكر الدراما الكويتية». من أهم الأعمال الدرامية التي شارك فيها: «غرباء»، «كامل الأوصاف»، «الخراز»، «إذا فات الوقت ما ينفع الصوت»، «القلب الكبير»، «الأقدار»، «الرحيل»، «خالتي قماشة»، «عائلة أبيض وأسود»، «أم البنات»، «محكمة الفريج»، «إخوان مريم»، «البيت الكبير»، «الطير والعاصفة»، «قاصد خير»، «يوميات متقاعد»، «ليلة عيد»، «أيام الفرج»، «رقية وسبيكة»، «خرج ولم يعد»، «إليكم مع التحية»، «حبابة»، «بوفلوس»، «فريج صويلح»، «بيوت من ثلج»، وغيرها.
حينما سئل غانم الصالح عن العلاقة بين الفن والسياسة كانت إجابته أنهما وجهان لعملة واحدة، وهما متداخلان حيث السياسة هي «فن المرافعة، ومفهومها يشمل المراوغة والمجادلة والمناقشة والخداع واللف والدوران والنفاق والكذب والمجاملة»، وهكذا فقد يُطلق على النائب البرلماني الناجح «فنان»، بحسب قوله.
في حوار أجرته معه مجلة سيدتي قبل وفاته ونشرته في 5/11/2010 تحدث غانم عن تجربة الإنتاج فأكد أنه ليس متخوّفا منها، بدليل خوضه هذه التجربة عام 1979 من خلال مسرحية «بيت بوصالح» وبعض الأعمال الفنية الإذاعية والتلفزيونية في الثمانينات. لكنه استدرك قائلا: «توصلت لنتيجة في النهاية مفادها أن هذه العملية تحتاج إلى التفرّغ، إضافة إلى أنني كما صرّحتُ مرارا وتكرارا لا أحب لغة الأرقام، وأفضّل أن أكون فنانا فحسب وليس تاجرا، وذلك لعشقي الشديد لجمهوري الذي تعوّد أن أقدّم له العمل المميّز». «بسنا تمثيل».. مهّدت لرحيله المر حصل فناننا على الكثير من الجوائز وشهادات التقدير من جهات رسمية وشخصية وصحفية؛ منها شهادة إعلام من محطة بي بي سي البريطانية عام 1969، ودرع من المسرح العربي عام 1980، ودرع المبدعين عام 2003، وشهادة تقدير من مهرجان القاهرة السادس، وشهادة تقدير من مهرجان الخليج التاسع للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني عام 2003، وشهادة تقدير من قناة سما دبي وتلفزيون دبي عام2008.
في حفل تأبينه في نوفمبر 2010 ألقيت قصيدة للشاعر الغنائي الكبير عبداللطيف البناي بصوت الفنان المبدع سليمان الياسين جاء فيها:
«عمر النخل ما عطش واليوم هو عطشان
والورد كله ذبل من فارق الساقي
غانم وغانم رحل عنا بلا استئذان
ولما تروح الروح بالروح وش باقي
راح الأبو والعم والفن والفنان
وإن كان باقي فن في عمره الباقي
كل شي فراقه سهل إلا أعز إنسان
مثل أخونا أخو ما كو ولا نلاقي».
قالت عنه رفيقة دربه في الأعمال المسرحية والدرامية الفنانة الرائدة حياة الفهد بتأثر شديد: «تمنيت ألا تأتي هذه اللحظة وأرثي الأخ والزميل والصديق الذي كانت صفاته الإنسانية تتخطى مواهبه الفنية وقدراته على أداء أدواره وتقمصه للشخصيات التي يجسدها سواء على المسرح أو في التلفزيون، كان ودودا وحنونا وإنسانا قبل أن يكون فنانا، كما أنه لم يبخل على من حوله بما يحتاج إليه من عون ونصيحة ورأي، وكان يضفي خلال وجوده مع جميع العاملين، معه سواء في كواليس المسرح أو في استوديو ومواقع التصوير، جوا أبويا وعائليا». وأضافت الفهد: «كان يتفقد ويسأل عن جميع العاملين من فنيين وفنانين وإداريين، وكان متعاونا مع فريق العمل المشارك فيه إلى أبعد الحدود، وكان ملتزما بمواعيد العمل، فهو أول الحاضرين وآخر المغادرين. لقد عاش بصدق، ملاكا، وعمره لم يغلط على أحد، وكان رده على من يغلط عليه: الله يسامحك. أتمنى أن تكون سيرته الحياتية ومسيرته الفنية مثلا وقدوة لجيل الشباب، لأنه كان نموذجا نادرا بين فناني جيله من الرواد». ثم كشفت حياة الفهد عن أمر لا يعلمه أحد عن الفقيد، بمن فيهم أفراد عائلته، وهو أنه كان كافلا عددا من الأيتام.
أما زميله وصديقه الفنان محمد جابر، الشهير بشخصية «العيدروسي»، فقد قال: «تاريخ غانم يشهد له، وأشكر كل الفنانين والفنانات الذين أشادوا به وبمواقفه»، مشيرا إلى أن الراحل كان حريصا على أسرته ولا يريد لأبنائه أن يعانوا ما عاناه في حياته، وقد قال الصالح له في أواخر أيامه: «بسنا تمثيل نبي نقعد»، وكأنه يريد أن يرحل.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين