كتاب ومقالات

الموج العالي يحْمَرُّ في بحر مكة

علي حسن التواتي

يختتم اليوم على سواحل مدينة جدة السعودية ولأول مرة في التاريخ الحديث أول تمرين عسكري بحري مختلط لدول البحر الأحمر العربية. ويأتي هذا التمرين المختلط الكبير المسمى (الموج الأحمر ١) بعد أقل من شهر على الاتفاق المبدئي لوزراء خارجية الدول العربية المطلة على البحر الأحمر في الرياض على العمل على تأسيس «كيان البحر الأحمر» ما قد يشير إلى أن الكيان المنشود مهما كان شكله سيولد بأسنان قوية، وأن التمارين العسكرية ستتوالى لتعزيز هذه القوة. ويعزز هذا التوجه تزايد أهمية التعاون في مواجهة مصادر التهديد المتعاظمة على مختلف الصعد وفي مقدمتها التهديدات العسكرية، والأمنية والاقتصادية، خاصة في ضوء إعادة الانتشار للأساطيل الأمريكية وتحريك معظم قواها الضاربة بما فيها قوة الأسطول الأمريكي الخامس بعيداً عن المنطقة، وتزاحم قوى بحرية لدول كبرى وصاعده في بحر العرب وخليج عدن حيث المدخل الجنوبي للبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب.

ومثلما سجّل التاريخ للمملكة نجاحها في بلورة الجهود لحماية بيئة البحر الأحمر التي ابتدأت منذ عام ١٩٥٢م لتتوج بمعاهدة جدة الموحدة عام ١٩٨٢م وما تبعها من بروتوكولات وما ترتب عليها من قيام الهيئة الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، سيسجل لها أيضاً حرصها على أمن البحر الأحمر وسلامة الدول المطلة عليه والملاحة فيه. ونأمل أن تتوج هذه الجهود قريبا بمعاهدة شبيهة ومكملة للاتفاقية البيئية بالإعلان عن كيان تعاوني إقليمي يشكل وعاء أوسع للتعاون. والجهود السعودية على هذا الصعيد قديمة أيضاً بل أقدم من البيئية وتعود للأربعينات من القرن الماضي حينما اتفقت السعودية مع مصر على ترتيبات أمنية ثنائية أعيرت بموجبها جزر سعودية في مدخل خليج العقبة لمصر لإيقاف التغول الإسرائيلي في التمدد جنوبي أم الرشراش (إيلات) على الساحل الغربي لخليج العقبة. كما ظهر التعاون السعودي/‏ المصري/‏ اليمني جلياً في حرب ٦ أكتوبر ١٩٧٣م عند فرض الحصار الإستراتيجي على إسرائيل حتى باب المندب والذي تم رفعه بانتفاء الحاجة إليه بتوقيع معاهدة «كامب ديفيد» للسلام بين مصر وإسرائيل، فانتفت الحاجة بالتالي لإعارة الجزر السعودية لمصر ولتتحول قريبا إلى معبر للسلام والتواصل بين شعوب المنطقة خاصة في ضوء اعتماد إستراتيجية تنموية عابرة للحدود ضمن مشروعات «نيوم» التي يؤمّل أن تنشئ أنماطاً تنموية وممارسات سياسية جديدة تعززها المصالح وترتيبات الأمن الجماعي المشتركة.

ولعل الإشارة هنا لقدم الجهود السعودية وتواصلها مهمة للغاية حتى لا يظن أحد بأن الاهتمام ببيئة وأمن وسلامة البحر الأحمر مسألة طارئة أو مدفوعة بظروف وقتية ما تلبث أن تزول. فقيادة المملكة تعرف منذ البداية بأننا نعيش على أرض أشبه ما تكون بسفينة يحيط بها الماء من ثلاث جهات ولا تنفتح على اليابسة إلا من جهة الشمال بثلاث إطلالات بحرية ورد تفصيلها بشكل بديع بكتيب هيئة المساحة الجيولوجية (المملكة العربية السعودية.. حقائق ورقام) ومنها أن المملكة تنحصـر بـن الخليـج العـربي مــن الشــرق، وخليــج العقبــة والبحــر الأحمــر مــن الغــرب.. ويبلـغ طـول سـواحلها علـى البحـر الأحمر وخليــج العقبــة نحــو ٢٦٠٠كم، منهــا نحو ١٨٠كم علـى خليـج العقبـة. ويمثـل طـول الساحل السعودي نحـو 80% مـن السـاحل الشـرقي للبحـر الأحمـر كأطول ساحل تملكه أي دولة مطلة عليه. وبحسب معلومات الهيئة فإن خليـج العقبـة والبحـر الأحمـر يضم نحـو 1150 جزيـرة تمثّـل نحـو 89% مـن مجمـل الجـزر السـعودية. ولكن رغم أن الهيئة نشرت بعض المعلومات المساحية عن الجزر السعودية إلا أنها لم تنشر بيانات عن أطوال سواحلها وامتداداتها الإقليمية وهو ما أمل أن تقوم به قريباً أو تعلنه إن كان متوفراً لديها. ويؤكد معلومات الهيئة عن سواحل وجزر البحر الأحمر المهندس علي مراد رضا – أمد الله في عمره - صاحب شركة «جيو رضا» التي نفذت بالتعاون مع شركة عالمية مسحاً تفصيليا لملايين الأمتار الطولية على مدى ٥ سنوات فيما بين ١٩٧٩-١٩٨٥م للسواحل السعودية في البحر الأحمر لحساب المؤسسة العامة للموانئ والذي أفادني بمعلومات قيّمة عن المسح، منها إصرار الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع والطيران – يرحمه الله ــ حينها على توفير كافة معدات وتجهيزات الطباعة الفنية رغم ارتفاع تكلفتها على حساب وزارة الدفاع للحفاظ على سرية طباعة أطنان من خرائط المسح التي تغطي كل شبر من مياهنا الإقليمية في البحر الأحمر والتي لم تكن تتوفر في ذلك الوقت إلا في ٤ مواقع دولية، وذلك استشعاراً من الأمير لأهمية مثل هذا المسح ونواتجه للأمن الوطني السعودي، وما يمكن أن نعتبره شاهداً إضافيا على استشعار كبار المسؤولين السعوديين لثقل المسؤولية في كل ما يخص أمن البلاد.

أما على الصعيد الاقتصادي، فآفاق التعاون لا حدود لها خاصة بين الدول المتقابلة والمتجاورة التي تشترك في مناطق اقتصادية بحرية كالسعودية ومصر والسعودية والسودان والسعودية والأردن والسعودية واليمن، والتي يلاحظ هنا أيضاً أن العامل المشترك بينها هو (السعودية). السعودية التي أحيت مع السودان اتفاقية وقعت عام ١٩٧٤م للتنقيب عن المعادن في المياه المشتركة بالبحر الأحمر، والتي مازالت التقديرات الإجمالية الكمية والمالية تتضارب بشأنها، فقدرت بعض المصادر العالمية قيمتها الإجمالية بنحو 9 مليارات دولار، وقدرت مصادر أخرى كمياتها بنحو 47 طنا من الذهب، ومليوني طن من الزنك، و500 ألف طن من النحاس، و3 آلاف طن من المنغنيز، و3 آلاف طن من الفضة، إلى جانب معادن أخرى بقيمة إجمالية قد تصل إلى ٢٠ مليار دولار. ويبقى مشروع «نيوم» السعودي العابر لحدود مصر والأردن الذي تقدر إجمالي استثماراته بـ ٥٠٠ مليار دولار والجسر المعلق فوق خليج العقبة ومشاريع الجزر السعودية هي الفيصل في المستقبل الاقتصادي لأي كيان أو تجمع إقليمي لدول البحر الأحمر.

ولا أجد خاتمة لهذه المقالة خيرا من التأكيد على أن المملكة العربية السعودية ودول حوض البحر الأحمر التي تشاطئها عليه باستثماراتها الحالية والمستقبلية من مدن وموانئ وصناعات ومنشآت تشترك في تعليق آمال عراض على مستقبلها التنموي الذي يرتكز على التكاملية والتعاون فيما بينها. ولكن يتبقى عليها التأكيد قولاً وفعلاً منذ البداية على أن الصيغة التعاونية التي قد تتوصل إليها ليست عدائية مهما بلغت تكامليتها وقوتها تجاه أي دولة أو تكتل إقليمي أو عالمي، ولا تعاني من (الانكفاء العربي) أو أي ترسبات تاريخية سابقة، بل وعاء سلام وتعاون مفتوح يمكن أن يستوعب إريتريا ودول النسق الثاني في أفريقيا وبعض المنظمات الدوليه ذات العلاقة لتحسين ظروف الحياة والبيئة في البحر وحوله وللعابرين بسلام في مياهه.

* اقتصادي وباحث إستراتيجي سعودي

alitawati@