كتاب ومقالات

الديموقراطية..!

أسامة يماني

يقول الفيلسوف جون لوك: «الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً، وتتم مقاومتها غالباً بسبب أنها لم تصبح شائعة بعد». ولهذا يجد كل فكر جديد مقاومة عند ظهوره لخروجه عن المألوف والسائد، ولكن ما إن يشيع هذا الفكر ويصبح له مؤيدون حتى ينتشر ويجد قبولاً لدى الناس، ويُحدث حراكاً مستمراً في المجتمع، يؤدي إلى التغيير والإصلاح.

الديموقراطية هي إحدى الأفكار الكبرى التي كان لها معارضون دائماً، إلا أنها أصبحت مع مرور الزمن ذات انتشار وشيوع كبير، وأصبح لها اليوم داعون ومؤيدون كثر من أهل السياسة والفكر، كما أصبح لها مرجعيات وأدبيات ومؤسسات وآليات تطبيق خاصة بها.

إن هذه الفكرة التي ظهرت لأول مرة في بلاد اليونان، وكان يُقصد بها حكم الشعب، وأن يكون لكل مواطن رأي في الشؤون السياسية، مهما كانت الفروق الفردية والإدراكية والمعرفية بين المواطنين، أصبحت عبر تطورها التاريخي ذات سطوة وقداسة، غير أنها استخدمت في العقود الأخيرة أسوأ استخدام من قبل قوى كبرى، لتحقيق أغراض خفية وظاهرة.

ولعل ما حدث بالعراق من غزو وإسقاط للحكم وتفكيك للدولة ومؤسساتها، باسم نشر الديمقراطية ومحاربة الديكتاتورية، وما لحقه من خراب وتدمير لبنية الدولة، وتشريد لشعبها، وبعث روح العصبية والمذهبية والصراعات الطائفية، بل وتكريسها من خلال دستور مشوه، هو أعظم مثال على تحول الديمقراطية أحياناً لحصان طروادة، يمكن من خلاله تحقيق أهداف استعمارية، وتفكيك الأوطان، وإعادة تشكيل ورسم مصائر بعض الشعوب والدول، والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها.

إن العراق قد تبدد أمنه وسلمه الاجتماعي، وسرق تاريخه، ونهبت ثرواته، وضعفت سيادته على أرضه، واعتدي على ثروته المائية وأنهاره باسم الديموقراطية، التي وظفت -رغم أنها فكرة نبيلة- لأغراض عدوانية.

ومن الأمثلة الأخرى التي تدل على استخدام وتوظيف الغرب لبعض الأفكار ذات الرداء الإنساني، بهدف إحكام سيطرته على العالم، وتعظيم ثروته وتقوية اقتصاده على حساب اقتصاديات الدول الأخرى، فكرة «التغير المناخي»، التي حذر منها الخبير البترولي الدكتور محمد سالم الصبان في العديد من محاضراته ومقالاته وتغريداته.

لأن بروتوكول كيتو واتفاقية باريس اللذين يهدفان لاحتواء الاحترار العالمي، وخفض الانبعاثات الحرارية، لا تتم التفرقة فيهما بين الدول المتقدمة والدول النامية، ويلزمان الجميع باشتراطات موحدة تتكفل بتنفيذها كافة الأطراف المُوقعة. كما حمَّلت تلك الاتفاقيات الدول النامية بطريقة غير مباشرة تكاليف الدراسات الهادفة لتطوير بدائل طاقة نظيفة، وهذا ظلم كبير للدول النامية، وتقليل من مسؤوليات الدول الصناعية الكبرى التي تتحمل النصيب الأكبر في تلوث بيئة الأرض.

ونستنتج من ذلك أن القوى الكبرى تتلاعب بالأفكار التي تنتجها، والتكنولوجيات التي تؤسس عليها، والمؤسسات التي تديرها، وتوظفها لتحقيق أهدافها، في ظل غياب عقل عربي علمي قادر على نقد وتفكيك وتقييم كل ما يرد إلينا من الخارج، والتمييز بين أهدافه الظاهرة والخافية، وما يصلح لنا وما لا يصلح. وقادر في الوقت ذاته على الإبداع العلمي والإنساني، وطرح بدائل ناجحة من وحي بيئته وسياقه واحتياجاته.

ويمكن أن نجد في التجربة الصينية أكبر نموذج على الإبداع الذاتي والتحرر من أغلال النموذج الغربي؛ فقد استطاعت الصين التحول من مجتمع ريفي فلاحي فقير لا يكفي إنتاجه لتغطية احتياجاته الأولية والضرورية، لتصبح دولة تغزو منتجاتها أسواق العالم، وتحول 500 مليون صيني كانوا يعيشون تحت خط الفقر إلى 500 مليون من متوسطي الدخل والأغنياء.

وهذه التجربة الصينية أثبتت أن الفكر الخلاق قادر على إيجاد طرق بديلة للتقدم، وصنع نماذج وآليات ومؤسسات تحقق الأهداف المرجوة من الديموقراطية بدون الالتزام بنموذجها الغربي غير القابل للتطبيق في بعض المجتمعات.

ولهذا فقد خصصتُ أكثر من مقال سابق للحديث عن أهمية تحديث فكرنا وثقافتنا، وتنمية الوعي النقدي وملكة التفكير الخلاق بين شبابنا، وأهمية الحوار وتلاقح الأفكار كشرط أساسي لتقدم مجتمعنا واستقلال إرادتنا وتحقيق قوة حقيقية لبلادنا.

وأظن أن نشر هذا الوعي، وصنع مراكز تنويرية جديدة، وحراك ثقافي مثمر، تتحمل مسؤوليته وزارة الثقافة التي أناشدها من هنا بالتواصل مع المثقفين والمفكرين، لبحث كيفية تحقيق ذلك الهدف الوطني القادر على جعلهم إضافة لمجتمعاتهم، ورقماً مهماً في معادلة الحياة والتنمية والتطوير.

* مستشار قانوني

@osamayamani

yamani.osama@gmail.com