كتاب ومقالات

«عايش أتنفس»...

وفاء الرشيد

ليلة البارحة كنت أتابع أحد برامج التلفزيون ولفت نظري لقاء مع شاب سعودي يسأله المذيع عن طبيعة عمله وكيف يقضي يومه؟ ليأتي الجواب الذي أستوقفني بأن عمله هو «التنفس»! كيف يعني «التنفس»، «أبد مريح كل يوم أقوم أتنفس لين أنام آخر الليل»، «هذا شغلي أتنفس وأنام هذي وظيفتي»، وأنفجر بعدها بضحكة مدوية وبعيون حزينة! هزني المشهد لشاب في عز قوته وشبابه بلا حلم وبلا أقل تقدير للذات ولكنه كان صادقاً وحقيقياً وسط كم من الزيف! وبنفس الوقت كان كلامه إضراباً عن الحياة! وما الذي يجعل شاباً صادقاً في عز شبابه يضرب عن الحياة؟

يقدر المختصون النفسيون بالعالم أنه بحلول 2030 سيكون مرض الاكتئاب هو المرض الأول من حيث الشيوع والأعباء على الحكومات، مرض مدمر يضرب فيه المريض عن الحياة فيتوقف كل شيء في عصر وفرة في المواد ووفرة في الوسائل! فهل نحن من جنى على هذا الجيل بإملائنا عليهم معايير تعجيزية لحياة أحبطتهم وأصابتهم بالتبلد... أصابتهم بغربة ذات سوء معشر. هل كبرنا العناوين عليهم وفرغناها من المحتوى؟ هل جعلنا تحقيق الذات عملاً تعجيزياً لا يجيده إلا المحترفون؟ وهل فعلاً نحن كاملون مكملون؟. يقول أوسكار وايلد الكاتب الإنجليزي الذي حمل الكثير من الشبهات في حياته الشخصية بأن «وجه الرجل هو سيرة حياته»... تكلم عن زمانه في هذه السطور... فهكذا كان العظماء وقتها، سيماهم على وجوههم، بعكس الوجوه التي تعيش بيننا اليوم، تلبس ألف قناع وقناع بلا سيرة أو حياة... فهمونا أن قناع الملتحي يعني أنه فاضل، وبأن قناع حامل الدكتوراة يعني أنه مثقف، وأن قناع الليبرالية يعني أنه رجل يحترم زوجته ويؤمن بحريتها، وبأن قناع من يتكلم عن الأخلاق يعني أنه رجل فضيلة وموقف، كذب... نعم كذبوا هم علينا، بلا تعميم، ولكن هم كذبوا... أعرف دكتوراً يحمل شهادة الدكتوراة أميّاً، لم يقرأ كتاباً منذ 30 عاماً، ويدرّس طلابه ملزمة كتبت منذ 20 عاماً لم يجدد فيها سطراً، يجترها عليهم في كل فصل دراسي! وأعرف ذاك الآخر الذي يدعي الحضارة والرقي وهو عديم الأخلاق بين جماعته وسط الظلام.

لا تكتئب يا صديقي يا ابن وطني ولا تحبط «ولا يهمونك هم وأقنعتهم»... ستكبر الأحلام وستنضج، وستتعلم بأنهم جعلوا بالحياة الكثير من التعظيم بالرغم من بساطتها ليكبروا منجزهم، وبأنهم كذبوا عليك مراراً عندما عقّدوا أحلامك...

عودوا الى أنفسكم وعيشوا بأصالة وبلا تفضيلات للغير ولا رضا ومراءى لهم... عيشوا وفق قناعاتكم وهديكم وما ترتاحون إليه، وليسخر من يسخر فهم ليسوا كاملين وإن زعموا... فالوفاء والإنسانية اليوم أصبحا مدعاة للسخرية.. والعطاء والصدق أصبحا مدعاة للشك والتخوين... هم كذلك لا يقدرون الصدق وأنت كنت يا صديقي صادقاً في وصفك لحالك... «عايش أتنفس»...

سطور كتبتها للبعض بلا تعميم...

* كاتبة سعودية