كتاب ومقالات

بابا الفاتيكان في الخليج

يحيى الامير

ترى أي الكيانات اليوم في المنطقة لديها القدرة على إحداث تحولات ومواقف حضارية نوعية تسهم في تعزيز السلم وبناء وتحفيز قيم الإنسانية بين الثقافات وأتباع الملل المختلفة، خاصة أن مثل هذه المبادرات وهذه المواقف مرت بلحظات توقف طويلة.

على مدى عقد كامل من الزمن توقفت المبادرات الحضارية في المنطقة وذلك بسبب انشغال عواصمها بالتحديات الأمنية وبناء الاستقرار والحفاظ عليه أمام موجة التحديات الكبرى التي عصفت بالمنطقة منذ مطلع عام 2011، فوضى في أكثر العواصم العربية وحروب أهلية تندلع في عواصم أخرى وانتشار مرعب للفكر المتشدد والخلايا الإرهابية والجماعات المسلحة وحالة نكوص كبرى في الحالة الحضارية العربية وارتفاع في منسوب خطاب الطائفية والعنف والكراهية وما رافق ذلك من تراجع كبير في الاستقرار الاقتصادي وتردٍ في الحالة المعيشية في كثير من تلك البلدان.

أمام ذلك الوضع كان على عواصم الاستقرار في المنطقة وعلى رأسها الرياض وأبوظبي أن تسخر كل إمكانياتها للحفاظ على المكون الأول من مكونات الاستقرار وهو الدولة الوطنية العربية، حيث كانت المستهدف الأكبر من كل تلك المؤامرات والمشاريع إعادة تشكيل الدولة الوطنية العربية وفق مشروع نظري باهت وخطير وغير واقعي، وكانت أولى ضحاياه الدولة العربية الكبيرة والمحورية مصر والتي ما لبثت أن تخلصت من كل تلك المرحلة واستعادت كيانها ومؤسساتها الوطنية.

كل تلك الفترات شهدت توقفا كاملا للمبادرات النوعية الحضارية وفترة انقطاع آن لها أن تعود بعدها لتواصل ما يمكن وصفه بخطوات ما بعد الاستقرار؛ خطوات من شأنها أن تؤسس لمستقبل نظيف من كل الكوامن السلبية التي يمكن أن يتم بعثها يوما ما والتي تمثل أساسا لغياب السلم والتعايش، مواقف ومبادرات من شأنها أن تعكس حجم المسؤولية الحضارية التي باتت تضطلع بها دول الاستقرار المحورية في المنطقة.

تأتي زيارة بابا الفاتيكان بوصفها واحدة من تلك المبادرات التي تقول للعالم انظروا كيف يفكر الخليج إذا ما تفرغ للبناء الحضاري وكيف يمثل السلم والتعايش والإخاء بالنسبة له مشروعا حقيقيا واقعيا، وكيف يمكن أن تمثل منطقتنا محورا جديدا في العالم للمبادرات الإنسانية القائمة على المبادئ الإنسانية العليا.

الأجانب بكل مللهم وعقائدهم يمثلون رقما مهما في معادلة التنمية في الخليج، والقيم الإنسانية العليا لا تقوم على أساس تصنيف العلاقة مع الآخرين بناء على مللهم أو طوائفهم الدينية بل على القيم الإنسانية، تلك القيم التي يديرها القانون والنظام في ظل الدولة الوطنية الحديثة.

كل الذين وقفوا ضد تلك الزيارة هم في الواقع لا يحملون فقهيا أية رؤية بديلة عن تلك التفسيرات التراثية الفقهية القادمة من القرن السابع والثامن الميلادي والتي لا تنتمي في الغالب لواقعنا الحالي وتخالف كثير منها نصوصا صريحة في القرآن العظيم وتنتمي إلى قاموس الوعظ القديم أكثر من كونها خطابا فقهيا رشيدا.

ومثلما أن عواصم الاستقرار في المنطقة قادت مشروع حماية الدولة الوطنية العربية في وجه الأخطار التي حاصرتها طيلة العقد الماضي فهي المخولة أيضا لإعادة تقديم النموذج الحضاري للخليج العربي بصفته رائداً تنموياً وحضارياً وإنسانياً كذلك.

* كاتب سعودي