أبو سليمان .. قمة في الأصالة والتميز الدبلوماسي
الأحد / 05 / جمادى الآخرة / 1440 هـ الاحد 10 فبراير 2019 02:58
قراءة: د. عبدالله المدني *
قال عنه الملك فهد «لو كان بإمكاننا رد القدر عنه لقدمنا كل ما نملك»، ووصفه الملك عبدالله بن عبدالعزيز بـ«ركن من أركان الدولة، حازها بيمينه وجهده»، ومدحه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بقوله «إنه من المروءة والمكارم وحبه للدولة وحرصه على الواجب وخدمة المواطن في درجة لا يُـبارى ولا يُـجارى»، وأثنى على مناقبه وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل بقوله «مثّـل بلاده خير تمثيل وجاء أداؤه قمة في الأصالة والتميز، وأتمنى على الجيل الجديد من دبلوماسيينا أن ينهلوا من سيرته».
ذلكم هو المرحوم «الشيخ محمد الحمد الشبيلي»، الذي مثل بلاده في مواقع مختلفة قنصلا وسفيرا ومستشارا ووكيلا لوزارة الخارجية، فكان شامة بين دبلوماسيي المملكة العربية السعودية في الخلق الرفيع، والنزاهة، والكياسة، والتواضع، والكرم والإحسان، ونموذجا للرجل المؤمن بدينه والمتمسك بالمبادئ الإنسانية.
ولادته وطفولته ولد الشبيلي، المعروف عند العموم بكنيته «أبوسليمان»، في عام 1330 للهجرة، المصادف للعام 1910 ميلادي، بمدينة عنيزة في القصيم بوسط نجد، ابنا بكرا لوالده الشيخ حمد محمد الناصر السليمان العبدالله الشبيلي، المنحدر من عائلة الشبيلي المعروفة بتجارتها وأملاكها وأسفارها. والشبيلي لقب معناه في اللهجة النجدية الدارجة «لجام الخيل»، طبقا لما ذكره صديقنا الإعلامي السعودي البارز الدكتور عبدالرحمن الصالح الشبيلي في كتابه «أبوسليمان» (مكتبة العبيكان/ الرياض/1994/ الطبعة الأولى)، والذي سنستند إليه في اقتباس واستعراض سيرة الرجل مرجعاً رئيسياً.
أما والدته فهي منيرة السليمان الشبيلي (ابنة عم والده)، وقد توفيت بعد أيام قليلة من ميلاده، فتكفلت برعايته خالاته الثلاث: نورة وحصة وموضي (الأخيرة تزوجها والده لاحقا). وطبقا لأخيه عبدالله الحمد الشبيلي فإن أبا سليمان عاش طفولة هادئة، كان خلالها محاطا برعاية والده وخالاته وأقاربه، خصوصا أنه كان طفلا وسيم المظهر ويتصف بخفة الدم ودماثة الخلق.
نشأته وتعليمه التحق أبوسليمان، كغيره من أطفال زمنه، بالكتاتيب التقليدية لتعلم القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، وقواعد اللغة، وأمور الدين، حيث تتلمذ على يد الشيخين «عبدالرحمن القرزعي» و«صالح بن دامغ»، كما صحب والده إلى حلقات الدرس التي كان يديرها آنذاك الشيخان «عثمان الصالح القاضي» و«عبدالرحمن الناصر السعدي». وهكذا نشأ نشأة قويمة في عنيزة، واكتسب خصال الانفتاح على الآخر والقدرة على التماهي لاحقا بسهولة مع مظاهر الحياة في المجتمعات التي انتقل اليها.
ولأن والده كان يتردد على مدينتي البصرة والزبير العراقيتين لأغراض التجارة وتفقد أملاكه هناك التي كونها جده لأبيه وجده لأمه، فقد ذهب أبوسليمان إلى العراق وعاش في البصرة والزبير فترة طويلة، حيث حضر المجالس، واستمع لما يدور فيها من نقاشات، وتعرف على ضيوفها من وجهاء السعودية والكويت والعراق، وهو ما أثر على تكوينه الشخصي لجهة الإلمام بآداب المجالس والنقاش وسمات الكرم والخلق الرفيع وكيفية البذل والعطاء في سبل الخير.
كانت رحلة أبي سليمان الأولى إلى البصرة، في سن العاشرة تقريبا، بصحبة والده وابن عمه «محمد عبدالرحمن الشبيلي»، المتقارب معه في العمر. وفي حين التحق الأخير بمدرسة النجاة الشهيرة في الزبير، فإن أبا سليمان التحق بمدرسة الرجاء العالي التي كانت تُـسمى «مدرسة الأمريكان»، وكانت تحتوي عل المرحلتين المتوسطة والثانوية.
تزوج أبوسليمان في عام 1933 من زوجته الوحيدة «موضي بنت إبراهيم السليمان» التي أنجبت له ولده الوحيد سليمان قبل أن تتوفى بعد ولادة سليمان بفترة قصيرة، فقضى صاحبنا بقية حياته عازبا عفيفا، يرفض كل محاولات أقاربه للاقتران بسيدة أخرى. ولأبي سليمان 5 إخوة هم: عبدالله وعبدالرحمن وسليمان، وأختان.
مسيرته العملية المنعطف الأولي الأبرز في حياة أبي سليمان كان في عام 1930، أثناء مروره بالرياض مع والده في طريقهما من البصرة إلى عنيزة، حيث صدر أمر من الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- بتعيينه في وظيفة كتابية بالديوان الملكي، الذي كان وقتها بمثابة الجامعة التي تخرج الدبلوماسيين والمستشارين والمبعوثين وأمراء المناطق في بدايات تأسيس الدولة السعودية الثالثة، فتعلم أبوسليمان من عمله هذا الكثير من شؤون الدولة السياسية والإدارية والاجتماعية قبل تأسيس الأجهزة الوزارية المختلفة. كما اكتسب من عمله في الديوان خبرات مميزة حول أمور البادية ومعرفة القبائل وأفخاذها وأنسابها، ناهيك عن الأمور الخاصة بعلاقات المملكة مع الدول المجاورة.
يشير السجل الوظيفي لأبي سليمان إلى أنه بعد 12 سنة من العمل بالديوان الملكي صدر قرار بنقله إلى البصرة لشغل وظيفة نائب للقنصل السعودي في البصرة آنذاك «فخري شيخ الأرض»، حيث كانت السعودية قد افتتحت قنصلية كبيرة في البصرة لرعاية شؤون مواطنيها الكثر في جنوب العراق. وحينما نقل فخري شيخ الأرض إلى وظيفة أخرى حل أبوسليمان مكانه قنصلا عاما في يناير 1949. وفي يونيو 1957 تم نقله إلى ديوان وزارة الخارجية بجدة في وظيفة مستشار، علما أنه خلال الفترة 1949 - 1957 كثيرا ما انتدب إلى بغداد للعمل قائماً للأعمال أثناء تمتع سفراء المملكة بالعراق بإجازاتهم السنوية ولاسيما زمن السفير المرحوم عبدالله الخيال.
وفي يونيو عام 1957 صدر أمر ملكي بنقله من البصرة إلى ديوان وزارة الخارجية بوظيفة مستشار. وسرعان ما انتُـدب في سبتمبر 1957 إلى جدة للعمل وكيلا لوزارة الخارجية التي كان يحمل حقيبتها آنذاك ولي العهد الأمير فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله. وبعد نحو شهرين من ذلك تمت ترقيته إلى وظيفة وزير مفوض من الدرجة الأولى وعُـين في الوقت نفسه سفيرا لدى جمهورية باكستان الإسلامية بموجب أمر ملكي مؤرخ في 14 نوفمبر 1957. ثم نقل إلى نيودلهي سفيرا لبلاده لدى جمهورية الهند بتاريخ 29 مايو 1964، حيث بقي هناك لمدة 3 سنوات، ليعود بعدها إلى البلد الذي درس فيه وعرف أهله عن كثب وهو العراق شاغلا منصب السفير بدءاً من عام 1967 وحتى عام 1971.
وفي عام 1972 تم تعيينه سفيراً للمملكة لدى أفغانستان التي عمل بها لمدة 6 سنوات، انتهت باستدعائه بُعيد قيام النظام الشيوعي في كابول، قبل أن يُحال إلى التقاعد بموجب نظام الخدمة المدنية. غير أنّ الحكومة السعودية لم تجد بُـداً من الاستعانة بخبرته الدبلوماسية الطويلة ومناقبه المميزة وعلاقاته المتشعبة، فتعاقدت معه ليمثلها سفيرا لدى الاتحاد الماليزي لمدة 10 سنوات بدءاً من سنة 1978 وحتى سنة 1988، وهي السنة التي انتقل فيها إلى جوار ربه بعد مشوار من الخدمة دام نحو 60 عاما متواصلا.
يذكر هنا أنّ الرجل اختير، أثناء خدمته الدبلوماسية في باكستان، ليمسك حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية في الحكومة، التي شكلها آنذاك ولي العهد الأمير فيصل بن عبدالعزيز في مارس 1962 خلال عهد الملك سعود رحمه الله، لكنه اعتذر عن قبول التوزير والتمس من ولاة الأمر أن يبقى في عمله الدبلوماسي، فكان له ذلك، حيث اختير بدلا منه الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل لتولي حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية. وهذا يذكرنا بحادثة مشابهة وقعت في سنة 1955 حينما تم ترشيحه للعمل رئيساً للمراسم الملكية ورئيساً لديوان ولي العهد، فاعتذر مفضلا مواصلة عمله الدبلوماسي في العراق.
خلال عمله في كل الأقطار آنفة الذكر، حرص أبوسليمان أن يجوب أراضيها من أقصاها إلى أقصاها سائحا ومكتشفا ومتلمسا حاجات الناس وعاقدا الصداقات مع الوجهاء والمسؤولين، حيث كان محبا للأسفار والتجوال وعاشقا للتعرف على ثقافات الشعوب وعاداتها وأحوالها. وهكذا ترك الرجل أينما حل ذكريات لا تُـنسى وعلامات بارزة سجلها تاريخه الناصع في البذل والعطاء والإحسان.
حوادث في مسيرته وفي سيرة أبي سليمان حوادث كثيرة، كادت أن تقضي عليه لولا عناية الله ورعايته، فعلى سبيل المثال تعرض لحادثة سيارة مُروعة في مصيف بحمدون اللبناني سنة 1956، تسببت في حدوث ارتجاج في مخه وكسور في كتفه وأضلاعه، وظل فاقدا للوعي مدة أسبوعين، وحينما أفاق تنازل عن حقه الخاص والتمس من السلطات اللبنانية أن تتنازل عن حقها العام رأفة بالمتسبب في الحادثة. وفي حدود العام 1953 أخبره أحد أطباء القلب المشهورين أن لديه متاعب في القلب وأنه لن يعيش طويلا، فسارع إلى السفر للعلاج في الولايات المتحدة، فأثبتت الفحوصات التي أجراها هناك خلو قلبه من أي متاعب، فعاش سليما طيلة السنوات العشرين التالية.
وقبيل تسلمه عمله الدبلوماسي في أفغانستان في عام 1972 كان في رحلة برية في منطقة النعيرية فأصيب بلدغة ثعبان تسببت له في مضاعفات خطيرة، فبقي ملازما سريره لمدة طويلة في الكويت بمنزل قريبه الشيخ عبدالرحمن المنصور الزامل. وفي مطلع عام 1973 تعرض لحادثة سقوط في حمام منزله في كابول فتسببت هذه الحادثة في إصابته بكدمات ورضوض وكسور تعالج منها لمدة طويلة في المستشفيات البريطانية، أجريت له خلالها أكثر من عملية جراحية.
وفور عودته من رحلة العلاج هذه إلى كابول تعرض لنوبتين قلبيتين، أخفاهما عن ذويه ككل الحوادث السابقة كيلا يقلقهم. وخلال رحلة سياحية في اليابان تعرض لكسر في يده على أثر سقوطه بسبب الثلج فتحمل الآلام الناجمة عن الحادثة طويلا دون مراجعة الأطباء. وفي ليلة الوفاة المفاجئة للملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله في سنة 1982 تعرض لحادثة سيارة في منطقة الروضة شرقي الرياض، حيث كان في زيارة للمملكة، وقد تسببت الحادثة في إصابته برضوض وكسر في أحد الأضلاع، وعلى الرغم من آلامه أصر على المشاركة في جنازة الملك ومراسم تشييعه.
وحينما كان في ماليزيا سنة 1987 زادت معاناته من ارتفاع ضغط الدم. تلك المعاناة التي بدأت معه منذ أن كان سفيرا في بغداد، خصوصا أنه كان -رحمه الله- كثير المجاملة لضيوفه وزواره، وشديد الحرص على تلبية الدعوات وحضور المناسبات الرسمية بكل ما يتخللها من مآدب وبروتوكولات مرهقة، الأمر الذي تسبب في زيادة وزنه وتفاقم متاعبه الصحية وصولا إلى إصابته بجلطة أثناء أحد الاستقبالات الرسمية.
وكعادته، لم يكترث بالأمر، وآثر مواصلة خدمة بلده على العودة إلى الرياض للعلاج، إلى أن أقنعه ولده سليمان بضرورة تلقي العلاج في المستشفى العسكري بالرياض. وقد بقي في هذا المشفى فترة طويلة تخللها علاج في ألمانيا والنمسا على نفقة الدولة، ثم واصل العلاج في مستشفى الحرس الوطني السعودي بالرياض تحت إشراف طبي رفيع إلى أن فارق الحياة في فجر يوم الخميس الموافق 27 أكتوبر1988 كما أسلفنا.
خصاله وسجاياه حظي أبوسليمان طوال سنوات خدمته برعاية الملك عبدالعزيز ومن بعده أنجاله الكرام من ملوك وأمراء. كما ارتبط بهم بعلاقات ود ومحبة واحترام ووفاء، وكذا مع سائر قادة الدول التي عمل بها وساستها ووزرائها وأعيانها، وهو ما تجلى في حصوله على العديد من الأوسمة والنياشين وشهادات التكريم، تقديرا لجهوده في خدمة وطنه دبلوماسيا، كما تجلى في إطلاق اسمه على أحد شوارع منطقة الروابي الواقعة شرق الرياض وإطلاق اسمه على أحد شوارع مسقط رأسه في عنيزة.
عـُرف الراحل بكرمه الحاتمي، رغم أنه لم يستفد قط ماديا من وجوده في الخارج لممارسة تجارة أو عقد صفقة مدرة للأموال، بل كان ينفق على أوجه البر والإحسان من مخصصاته الشخصية والرسمية أو مما كان يُحول إليه من أموال من قبل معارفه الراغبين في الإحسان، من أمثال الشيخ محمد المنصور الزامل في عنيزة، وعبدالله إبراهيم السبيعي وعبدالله الحمد القبلان وعبدالرحمن المنصور الزامل وصالح العبدلي في الكويت، ومحمد المرشد الزغيبي في القاهرة، وعبدالرحمن العثمان في جدة، ومحمد العريفي في بيروت، وأحمد القاضي في الهند، وحسن العطاس في سنغافورة، وعبدالعزيز الديحان في الفلبين.
الذين عرفوه أو عملوا معه من كثب تطرقوا إلى الكثير من سجاياه وخصاله ومواهبه. فقد عُـرف رحمه الله بأنه كان قريبا من الجميع بغض النظر عن مراكزهم ووظائفهم، يخدمهم بإخلاص ويزيل العقبات من أمامهم كلما وجد إلى ذلك سبيلا. كما عُـرف بطول البال وعدم التقيد بالوقت عند استقبال الناس وعند زياراتهم إلا إذا كان مرتبطا بمواعيد مسبقة. كان ينام قليلا ويعمل طويلا، ويتحدث مع الآخرين بهدوء فلا يرفع صوته وينصت باهتمام ولا تفارق الابتسامة محياه. وكان في ملبسه ومأكله وحياته أنيقا صاحب ذوق رفيع، كارها للتدخين عاشقا للأطياب والبخور، مفضلا السفر بالسيارة على الطائرة. علاوة على كل هذا، كان «من المتحدثين والرواة المقتدرين على صياغة الرواية والحديث وإخراجه بأسلوب مميز يميل إلى السلاسة في العرض مع قوة التعبير دون انقطاع أو تلعثم لأن ذاكرته كانت قوية ومختزنة بالكثير من القصص والحكايات والمواقف».
إن أبا سليمان كان، في المحصلة النهائية، ظاهرة إنسانية فريدة وسحابة معطاءة تبعث على الطمأنينة والصفاء والمحبة والوفاء، بل كان كتابا مفتوحا في بساطة وتواضع نادرين، فضلا عن أنه كان دبلوماسيا ناجحا ومتفوقا على كافة أقرانه؛ لأنه جمع ما بين الكفاءة والخلق الرفيع والخبرات المتراكمة والمؤهلات الذهنية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية.
ومن الطرائف التي ذكرت، أن رئيس وزراء العراق الراحل «نوري باشا السعيد» كان من بين الذين جاؤوا في عام 1957 إلى مطار بغداد، في انتظار وصول طائرة الملك سعود، ليكون في استقباله مع ملك العراق الشاب فيصل الثاني وولي عهده الأمير عبدالإله -رحمهما الله-، وكان من بين المستقبلين أيضا جمع كبير من السعوديين المقيمين في العراق، ولاسيما في البصرة والزبير، ممن حضروا بزيهم العربي المميز، فتعجب نوري باشا لكثرتهم، فاقترب من أبي سليمان وهمس قائلاً: «شيخ محمد.. لو لم أكن متأكداً من وجودي في العراق، لقلت إنني في السعودية»!
وأخيرا، فإن لشاعر البحرين الراحل عبدالرحمن رفيع قصيدة كتبها تحت عنوان «تحية للكريم الغائب»، وذلك في عام 1982 حينما زار كوالالمبور ولم يجد أبا سليمان بها. من أبيات القصيدة:
بدون أبي سليمان تــراءت «كوالا» الحسن ناقصة الجمال
وكنا قبل قد زرنا «كـوالا» فكانت كالمضيء من اللآلـي
فلما أنْ مضى منها الشبيلي غدتْ قفرا حزين اللون خـــــال
لسوف تردد الركبان عنـــه أحاديثا قربن من الخيـــــــــــال.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
ذلكم هو المرحوم «الشيخ محمد الحمد الشبيلي»، الذي مثل بلاده في مواقع مختلفة قنصلا وسفيرا ومستشارا ووكيلا لوزارة الخارجية، فكان شامة بين دبلوماسيي المملكة العربية السعودية في الخلق الرفيع، والنزاهة، والكياسة، والتواضع، والكرم والإحسان، ونموذجا للرجل المؤمن بدينه والمتمسك بالمبادئ الإنسانية.
ولادته وطفولته ولد الشبيلي، المعروف عند العموم بكنيته «أبوسليمان»، في عام 1330 للهجرة، المصادف للعام 1910 ميلادي، بمدينة عنيزة في القصيم بوسط نجد، ابنا بكرا لوالده الشيخ حمد محمد الناصر السليمان العبدالله الشبيلي، المنحدر من عائلة الشبيلي المعروفة بتجارتها وأملاكها وأسفارها. والشبيلي لقب معناه في اللهجة النجدية الدارجة «لجام الخيل»، طبقا لما ذكره صديقنا الإعلامي السعودي البارز الدكتور عبدالرحمن الصالح الشبيلي في كتابه «أبوسليمان» (مكتبة العبيكان/ الرياض/1994/ الطبعة الأولى)، والذي سنستند إليه في اقتباس واستعراض سيرة الرجل مرجعاً رئيسياً.
أما والدته فهي منيرة السليمان الشبيلي (ابنة عم والده)، وقد توفيت بعد أيام قليلة من ميلاده، فتكفلت برعايته خالاته الثلاث: نورة وحصة وموضي (الأخيرة تزوجها والده لاحقا). وطبقا لأخيه عبدالله الحمد الشبيلي فإن أبا سليمان عاش طفولة هادئة، كان خلالها محاطا برعاية والده وخالاته وأقاربه، خصوصا أنه كان طفلا وسيم المظهر ويتصف بخفة الدم ودماثة الخلق.
نشأته وتعليمه التحق أبوسليمان، كغيره من أطفال زمنه، بالكتاتيب التقليدية لتعلم القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، وقواعد اللغة، وأمور الدين، حيث تتلمذ على يد الشيخين «عبدالرحمن القرزعي» و«صالح بن دامغ»، كما صحب والده إلى حلقات الدرس التي كان يديرها آنذاك الشيخان «عثمان الصالح القاضي» و«عبدالرحمن الناصر السعدي». وهكذا نشأ نشأة قويمة في عنيزة، واكتسب خصال الانفتاح على الآخر والقدرة على التماهي لاحقا بسهولة مع مظاهر الحياة في المجتمعات التي انتقل اليها.
ولأن والده كان يتردد على مدينتي البصرة والزبير العراقيتين لأغراض التجارة وتفقد أملاكه هناك التي كونها جده لأبيه وجده لأمه، فقد ذهب أبوسليمان إلى العراق وعاش في البصرة والزبير فترة طويلة، حيث حضر المجالس، واستمع لما يدور فيها من نقاشات، وتعرف على ضيوفها من وجهاء السعودية والكويت والعراق، وهو ما أثر على تكوينه الشخصي لجهة الإلمام بآداب المجالس والنقاش وسمات الكرم والخلق الرفيع وكيفية البذل والعطاء في سبل الخير.
كانت رحلة أبي سليمان الأولى إلى البصرة، في سن العاشرة تقريبا، بصحبة والده وابن عمه «محمد عبدالرحمن الشبيلي»، المتقارب معه في العمر. وفي حين التحق الأخير بمدرسة النجاة الشهيرة في الزبير، فإن أبا سليمان التحق بمدرسة الرجاء العالي التي كانت تُـسمى «مدرسة الأمريكان»، وكانت تحتوي عل المرحلتين المتوسطة والثانوية.
تزوج أبوسليمان في عام 1933 من زوجته الوحيدة «موضي بنت إبراهيم السليمان» التي أنجبت له ولده الوحيد سليمان قبل أن تتوفى بعد ولادة سليمان بفترة قصيرة، فقضى صاحبنا بقية حياته عازبا عفيفا، يرفض كل محاولات أقاربه للاقتران بسيدة أخرى. ولأبي سليمان 5 إخوة هم: عبدالله وعبدالرحمن وسليمان، وأختان.
مسيرته العملية المنعطف الأولي الأبرز في حياة أبي سليمان كان في عام 1930، أثناء مروره بالرياض مع والده في طريقهما من البصرة إلى عنيزة، حيث صدر أمر من الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- بتعيينه في وظيفة كتابية بالديوان الملكي، الذي كان وقتها بمثابة الجامعة التي تخرج الدبلوماسيين والمستشارين والمبعوثين وأمراء المناطق في بدايات تأسيس الدولة السعودية الثالثة، فتعلم أبوسليمان من عمله هذا الكثير من شؤون الدولة السياسية والإدارية والاجتماعية قبل تأسيس الأجهزة الوزارية المختلفة. كما اكتسب من عمله في الديوان خبرات مميزة حول أمور البادية ومعرفة القبائل وأفخاذها وأنسابها، ناهيك عن الأمور الخاصة بعلاقات المملكة مع الدول المجاورة.
يشير السجل الوظيفي لأبي سليمان إلى أنه بعد 12 سنة من العمل بالديوان الملكي صدر قرار بنقله إلى البصرة لشغل وظيفة نائب للقنصل السعودي في البصرة آنذاك «فخري شيخ الأرض»، حيث كانت السعودية قد افتتحت قنصلية كبيرة في البصرة لرعاية شؤون مواطنيها الكثر في جنوب العراق. وحينما نقل فخري شيخ الأرض إلى وظيفة أخرى حل أبوسليمان مكانه قنصلا عاما في يناير 1949. وفي يونيو 1957 تم نقله إلى ديوان وزارة الخارجية بجدة في وظيفة مستشار، علما أنه خلال الفترة 1949 - 1957 كثيرا ما انتدب إلى بغداد للعمل قائماً للأعمال أثناء تمتع سفراء المملكة بالعراق بإجازاتهم السنوية ولاسيما زمن السفير المرحوم عبدالله الخيال.
وفي يونيو عام 1957 صدر أمر ملكي بنقله من البصرة إلى ديوان وزارة الخارجية بوظيفة مستشار. وسرعان ما انتُـدب في سبتمبر 1957 إلى جدة للعمل وكيلا لوزارة الخارجية التي كان يحمل حقيبتها آنذاك ولي العهد الأمير فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله. وبعد نحو شهرين من ذلك تمت ترقيته إلى وظيفة وزير مفوض من الدرجة الأولى وعُـين في الوقت نفسه سفيرا لدى جمهورية باكستان الإسلامية بموجب أمر ملكي مؤرخ في 14 نوفمبر 1957. ثم نقل إلى نيودلهي سفيرا لبلاده لدى جمهورية الهند بتاريخ 29 مايو 1964، حيث بقي هناك لمدة 3 سنوات، ليعود بعدها إلى البلد الذي درس فيه وعرف أهله عن كثب وهو العراق شاغلا منصب السفير بدءاً من عام 1967 وحتى عام 1971.
وفي عام 1972 تم تعيينه سفيراً للمملكة لدى أفغانستان التي عمل بها لمدة 6 سنوات، انتهت باستدعائه بُعيد قيام النظام الشيوعي في كابول، قبل أن يُحال إلى التقاعد بموجب نظام الخدمة المدنية. غير أنّ الحكومة السعودية لم تجد بُـداً من الاستعانة بخبرته الدبلوماسية الطويلة ومناقبه المميزة وعلاقاته المتشعبة، فتعاقدت معه ليمثلها سفيرا لدى الاتحاد الماليزي لمدة 10 سنوات بدءاً من سنة 1978 وحتى سنة 1988، وهي السنة التي انتقل فيها إلى جوار ربه بعد مشوار من الخدمة دام نحو 60 عاما متواصلا.
يذكر هنا أنّ الرجل اختير، أثناء خدمته الدبلوماسية في باكستان، ليمسك حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية في الحكومة، التي شكلها آنذاك ولي العهد الأمير فيصل بن عبدالعزيز في مارس 1962 خلال عهد الملك سعود رحمه الله، لكنه اعتذر عن قبول التوزير والتمس من ولاة الأمر أن يبقى في عمله الدبلوماسي، فكان له ذلك، حيث اختير بدلا منه الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل لتولي حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية. وهذا يذكرنا بحادثة مشابهة وقعت في سنة 1955 حينما تم ترشيحه للعمل رئيساً للمراسم الملكية ورئيساً لديوان ولي العهد، فاعتذر مفضلا مواصلة عمله الدبلوماسي في العراق.
خلال عمله في كل الأقطار آنفة الذكر، حرص أبوسليمان أن يجوب أراضيها من أقصاها إلى أقصاها سائحا ومكتشفا ومتلمسا حاجات الناس وعاقدا الصداقات مع الوجهاء والمسؤولين، حيث كان محبا للأسفار والتجوال وعاشقا للتعرف على ثقافات الشعوب وعاداتها وأحوالها. وهكذا ترك الرجل أينما حل ذكريات لا تُـنسى وعلامات بارزة سجلها تاريخه الناصع في البذل والعطاء والإحسان.
حوادث في مسيرته وفي سيرة أبي سليمان حوادث كثيرة، كادت أن تقضي عليه لولا عناية الله ورعايته، فعلى سبيل المثال تعرض لحادثة سيارة مُروعة في مصيف بحمدون اللبناني سنة 1956، تسببت في حدوث ارتجاج في مخه وكسور في كتفه وأضلاعه، وظل فاقدا للوعي مدة أسبوعين، وحينما أفاق تنازل عن حقه الخاص والتمس من السلطات اللبنانية أن تتنازل عن حقها العام رأفة بالمتسبب في الحادثة. وفي حدود العام 1953 أخبره أحد أطباء القلب المشهورين أن لديه متاعب في القلب وأنه لن يعيش طويلا، فسارع إلى السفر للعلاج في الولايات المتحدة، فأثبتت الفحوصات التي أجراها هناك خلو قلبه من أي متاعب، فعاش سليما طيلة السنوات العشرين التالية.
وقبيل تسلمه عمله الدبلوماسي في أفغانستان في عام 1972 كان في رحلة برية في منطقة النعيرية فأصيب بلدغة ثعبان تسببت له في مضاعفات خطيرة، فبقي ملازما سريره لمدة طويلة في الكويت بمنزل قريبه الشيخ عبدالرحمن المنصور الزامل. وفي مطلع عام 1973 تعرض لحادثة سقوط في حمام منزله في كابول فتسببت هذه الحادثة في إصابته بكدمات ورضوض وكسور تعالج منها لمدة طويلة في المستشفيات البريطانية، أجريت له خلالها أكثر من عملية جراحية.
وفور عودته من رحلة العلاج هذه إلى كابول تعرض لنوبتين قلبيتين، أخفاهما عن ذويه ككل الحوادث السابقة كيلا يقلقهم. وخلال رحلة سياحية في اليابان تعرض لكسر في يده على أثر سقوطه بسبب الثلج فتحمل الآلام الناجمة عن الحادثة طويلا دون مراجعة الأطباء. وفي ليلة الوفاة المفاجئة للملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله في سنة 1982 تعرض لحادثة سيارة في منطقة الروضة شرقي الرياض، حيث كان في زيارة للمملكة، وقد تسببت الحادثة في إصابته برضوض وكسر في أحد الأضلاع، وعلى الرغم من آلامه أصر على المشاركة في جنازة الملك ومراسم تشييعه.
وحينما كان في ماليزيا سنة 1987 زادت معاناته من ارتفاع ضغط الدم. تلك المعاناة التي بدأت معه منذ أن كان سفيرا في بغداد، خصوصا أنه كان -رحمه الله- كثير المجاملة لضيوفه وزواره، وشديد الحرص على تلبية الدعوات وحضور المناسبات الرسمية بكل ما يتخللها من مآدب وبروتوكولات مرهقة، الأمر الذي تسبب في زيادة وزنه وتفاقم متاعبه الصحية وصولا إلى إصابته بجلطة أثناء أحد الاستقبالات الرسمية.
وكعادته، لم يكترث بالأمر، وآثر مواصلة خدمة بلده على العودة إلى الرياض للعلاج، إلى أن أقنعه ولده سليمان بضرورة تلقي العلاج في المستشفى العسكري بالرياض. وقد بقي في هذا المشفى فترة طويلة تخللها علاج في ألمانيا والنمسا على نفقة الدولة، ثم واصل العلاج في مستشفى الحرس الوطني السعودي بالرياض تحت إشراف طبي رفيع إلى أن فارق الحياة في فجر يوم الخميس الموافق 27 أكتوبر1988 كما أسلفنا.
خصاله وسجاياه حظي أبوسليمان طوال سنوات خدمته برعاية الملك عبدالعزيز ومن بعده أنجاله الكرام من ملوك وأمراء. كما ارتبط بهم بعلاقات ود ومحبة واحترام ووفاء، وكذا مع سائر قادة الدول التي عمل بها وساستها ووزرائها وأعيانها، وهو ما تجلى في حصوله على العديد من الأوسمة والنياشين وشهادات التكريم، تقديرا لجهوده في خدمة وطنه دبلوماسيا، كما تجلى في إطلاق اسمه على أحد شوارع منطقة الروابي الواقعة شرق الرياض وإطلاق اسمه على أحد شوارع مسقط رأسه في عنيزة.
عـُرف الراحل بكرمه الحاتمي، رغم أنه لم يستفد قط ماديا من وجوده في الخارج لممارسة تجارة أو عقد صفقة مدرة للأموال، بل كان ينفق على أوجه البر والإحسان من مخصصاته الشخصية والرسمية أو مما كان يُحول إليه من أموال من قبل معارفه الراغبين في الإحسان، من أمثال الشيخ محمد المنصور الزامل في عنيزة، وعبدالله إبراهيم السبيعي وعبدالله الحمد القبلان وعبدالرحمن المنصور الزامل وصالح العبدلي في الكويت، ومحمد المرشد الزغيبي في القاهرة، وعبدالرحمن العثمان في جدة، ومحمد العريفي في بيروت، وأحمد القاضي في الهند، وحسن العطاس في سنغافورة، وعبدالعزيز الديحان في الفلبين.
الذين عرفوه أو عملوا معه من كثب تطرقوا إلى الكثير من سجاياه وخصاله ومواهبه. فقد عُـرف رحمه الله بأنه كان قريبا من الجميع بغض النظر عن مراكزهم ووظائفهم، يخدمهم بإخلاص ويزيل العقبات من أمامهم كلما وجد إلى ذلك سبيلا. كما عُـرف بطول البال وعدم التقيد بالوقت عند استقبال الناس وعند زياراتهم إلا إذا كان مرتبطا بمواعيد مسبقة. كان ينام قليلا ويعمل طويلا، ويتحدث مع الآخرين بهدوء فلا يرفع صوته وينصت باهتمام ولا تفارق الابتسامة محياه. وكان في ملبسه ومأكله وحياته أنيقا صاحب ذوق رفيع، كارها للتدخين عاشقا للأطياب والبخور، مفضلا السفر بالسيارة على الطائرة. علاوة على كل هذا، كان «من المتحدثين والرواة المقتدرين على صياغة الرواية والحديث وإخراجه بأسلوب مميز يميل إلى السلاسة في العرض مع قوة التعبير دون انقطاع أو تلعثم لأن ذاكرته كانت قوية ومختزنة بالكثير من القصص والحكايات والمواقف».
إن أبا سليمان كان، في المحصلة النهائية، ظاهرة إنسانية فريدة وسحابة معطاءة تبعث على الطمأنينة والصفاء والمحبة والوفاء، بل كان كتابا مفتوحا في بساطة وتواضع نادرين، فضلا عن أنه كان دبلوماسيا ناجحا ومتفوقا على كافة أقرانه؛ لأنه جمع ما بين الكفاءة والخلق الرفيع والخبرات المتراكمة والمؤهلات الذهنية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية.
ومن الطرائف التي ذكرت، أن رئيس وزراء العراق الراحل «نوري باشا السعيد» كان من بين الذين جاؤوا في عام 1957 إلى مطار بغداد، في انتظار وصول طائرة الملك سعود، ليكون في استقباله مع ملك العراق الشاب فيصل الثاني وولي عهده الأمير عبدالإله -رحمهما الله-، وكان من بين المستقبلين أيضا جمع كبير من السعوديين المقيمين في العراق، ولاسيما في البصرة والزبير، ممن حضروا بزيهم العربي المميز، فتعجب نوري باشا لكثرتهم، فاقترب من أبي سليمان وهمس قائلاً: «شيخ محمد.. لو لم أكن متأكداً من وجودي في العراق، لقلت إنني في السعودية»!
وأخيرا، فإن لشاعر البحرين الراحل عبدالرحمن رفيع قصيدة كتبها تحت عنوان «تحية للكريم الغائب»، وذلك في عام 1982 حينما زار كوالالمبور ولم يجد أبا سليمان بها. من أبيات القصيدة:
بدون أبي سليمان تــراءت «كوالا» الحسن ناقصة الجمال
وكنا قبل قد زرنا «كـوالا» فكانت كالمضيء من اللآلـي
فلما أنْ مضى منها الشبيلي غدتْ قفرا حزين اللون خـــــال
لسوف تردد الركبان عنـــه أحاديثا قربن من الخيـــــــــــال.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين