كتاب ومقالات

صندوق النقد الدولي ونصائحه لدولنا الخليجية... هل من جديد ؟

محمد سالم سرور الصبان

جاءت مداخلة «كريستين لا جارد»، مديرة صندوق النقد الدولي في منتدى المالية العامة للدول العربية الذي سبق مؤتمر القمة العالمية للحكومات ــ عُقدَ في دبي بداية هذا الأسبوع ــ، حول طبيعة التحديات التي يعاني منها الاقتصاد الخليجي لتعكس توصيفا واقعيا، مُبتعدة عن إعطاء وصفات مثيرة للجدل كما تعودت في زياراتها الماضية. وكلنا يذكر نصيحتها لحكومتنا السعودية بمزيد من التقشف والاستمرار عليه. وهي نصيحة ظاهرها جميل ويتماشى مع الظروف الحالية، لكنها تحمل الكثير من عوامل الإبقاء على الركود الاقتصادي الذي عانينا منه وما زلنا، نتيجة تراجع الإنفاق الحكومي الذي كان ولا يزال المحرك الرئيسي لنمو القطاع الخاص السعودي.

ولعل العنوان الرئيسي لمداخلة «لا جارد» هذه المرة، هو تحذيرها مِنْ تفاقم نمو الدين العام الحكومي لدول الخليج، ومن عدم إمكان ضبطه، في ظل عدم تعافي الاقتصاد الخليجي، مما أسمتْه «صدمة انخفاض أسعار النفط عام (2014)». وبينت الترابط بين عدم استقرار المالية العامة واللجوء إلى مزيد من الاقتراض من السوق المحلية والدولية.

صحيح أنَّ المعاناة من الانخفاض الكبير في أسعار النفط قائمة؛ وذلك أن الأسعار قد انخفضت من أكثر من 100 دولار للبرميل إلى أقل من 50 دولارا، خلال فترة قصيرة نسبيا. وتلك الأسعار، ــ ومع تراوحها هذه الأيام حول الـ60 دولارا للبرميل - إلا أنها ما زالت أقل بكثير مما كانت عليه في فترة ما قبل (2014). وقد تزامنَ ذلك مع بدء إعادة هيكلة الدول الخليجية، وعلى رأسها المملكة، لاقتصادها بعد إدراكنا الأخطار الجسيمة الناتجة عن اعتمادنا على مصدر وحيد خاضع للتقلبات العالمية، وهو النفط.

وبدأنا سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية في ظل رؤية واضحة، (2030)، وهي الرؤية التي لم تكن لدينا رفاهية القيام بها بالتدرُّج، أو الأخذ ببعضها وترك الآخر؛ لأنّنا قد تأخرنا كثيرا عن تطبيقها. وجاءتْ خطوات العمل بها عديدة، منها قيام الحكومة السعودية بتعديل أسعار الوقود، وفرض ضريبة القيمة المضافة، وفرض رسوم على الأراضي البيضاء، وتطبيق الحوكمة على الأداء الحكومي، وترشيد الإنفاق، إلى جانب حملة محاربة الفساد، إضافةً إلى غيرها من الإصلاحات الأساسية للاقتصاد السعودي، مع الأخذ باستكمال التجهيزات الأساسية، والتركيز على تطوير القطاعات الاقتصادية المختلفة، وخاصةً تلك التي تعتمد على المزايا النسبية التي نمتلكها.

ونتيجة لتلك الخطوات انخفض الإنفاق الحكومي، وزادت حصيلة الإيرادات الضريبية، وانخفضت القوة الشرائية لدى الأفراد، في الوقت الذي زادت أسعار الكهرباء والوقود والسلع عموما مع فرض ضريبة القيمة المضافة. قابل ذلك، ومع توسع الحكومة في البدء بتطبيق برامج رؤية (2030)، زيادة عجز الميزانية؛ الأمر الذي أدَّى تدريجيا إلى الاقتراض وتنامي الدين العام لمواجهة أوجه الإنفاق الجديدة التي لا تدر عائدات فورية، بل لا بُدَّ من مُرورها بمرحلة انتقالية، ومِنْ مواجهتها عدم تعافي أسعار النفط؛ لتحقيق مستويات نقطة التعادل بالنسبة للميزانية السعودية.

أدى كل ذلك – كما ذكرنا – إلى تنامي الدين العام، فقفزَ من (44.3) مليار ريال في (2014)، ــ وهو ما مثل نسبة 1.6% من الناتج المحلي ــ، ليصل إلى (555) مليار ريال بنهاية العام الماضي (2018)، وتصل نسبته إلى (21%) من الناتج المحلي، وسيصل إلى (678) مليار ريال بنهاية العام الحالي. وتلك قفزات سنوية كبيرة بكل المقاييس، في ظل المليارات التي تدفع سنويا كفوائد عن هذه القروض.

وعلى الرغم من الهدف الذي وضعته الحكومة، ــ وهو أنْ لا تزيد نسبة الدين العام عن (30%) من الناتج المحلي بحلول (2020) ــ، فإنَّ إغراء وسهولة الحصول على ما تريد، وخاصة من الخارج، يدفعان إلى اللجوء إلى هذا المصدر لتمويل عجز الميزانية. صحيح أنّ الدين العام للمملكة وجميع دول الخليج ما زال الأقل عالميا، نسبة إلى الناتج المحلي الخليجي، لكنَّ ذلك لا ينبغي أنْ يُجعلَ معيارا للتوسع غير المدروس في التزود بهذا المصدر.

وحتى تسييل الاحتياطيات النقدية المودعة خارجيا، كان ولا يزال في أضيق الحدود؛ لأنَّها بمثابة غطاء أمانٍ للريال السعودي. وتلك الاحتياطيات، وإنْ فقدت (30%) من حجمها لتكمل من تغطية عجز الميزانية، إلا أنها ما زالت في حدود الـ(450) بليون دولار، مُودعٌ أغلبُها على هيئة أصول شبه سائلة تدرُّ عائدات محدودة.

وإذا كانت هذه النقطة المتعلقة بالدين العام الخليجي، هي الأبرز والأهمُّ في كلمة مديرة صندوق النقد الدولي، فإنَّ بقية النقاط التي ذكرتها ما هي إلَّا تَكرارٌ لما سبقَ أنْ صرحت به مرارا، في جميع زياراتها الإقليمية، وهي نقاطٌ معلومةٌ تماما، وتطبيقها في دولنا الخليجية قد بدأ منذ فترة، وإنْ كانَ لا يزال يعاني من بعض التحديات. فالسيدة لاجارد تذكر، على سبيل المثال، مسألة القضاء على الفساد، والحوكمة المشددة للأداء في الأجهزة الحكومية، والشفافية وهي نقاط معلومة جميعها لدولنا، وقد بدأتْ في تطبيقها بنسب متفاوتة من النجاح. فالقضاء على الفساد ــ ووجوده يمثل عقبة رئيسية أمام التنمية الاقتصادية ــ قد بدأ مرحلة مهمة ومستمرة في المملكة، أمَّا الحوكمة فماضون في تنفيذها، وإنْ لم تكن هنالك تقارير توضحه أو دلائل بعد على كفاءته (أعني التنفيذ). وهنالك الكثير من الشفافية في الأداء الحكومي لكنْ لا يزال يواجه بعض القصور، وستتغلب عليه الحكومة تدريجيا.

وختاما، فتخوفات مديرة صندوق النقد الدولي هذه المرة أقرب إلى أنْ تعكس طبيعة التحديات التي تواجه دولنا الخليجية، وإنْ كانَ التكرار صفة ملازمة لها. كما أنَّ السعودية قد حقَّقتْ تقدما ملموسا في كثير من الإصلاحات الاقتصادية، ويتبقى أيضا الكثير ممَّا سيتحقق، خلال الفترة القادمة بإذن الله.

* المستشار الاقتصادي والنفطي الدولي

sabbanms@