وارسو: منطق الصورة!
الاثنين / 14 / جمادى الآخرة / 1440 هـ الثلاثاء 19 فبراير 2019 00:40
طلال صالح بنان
ليس مثل الصورة تدويناً للحظات والأحداث الفارقة في مسيرة حركة التاريخ. القدماء استخدموا الصورة، في تدوين الانتصارات والمواقع الفاصلة والاتفاقات والمعاهدات والإنجازات في أعمدة المعابد.. وجدران المدافن وأسقفها.. وجداريات الساحات والميادين، وواجهات الأبنية. لم يكتف القدماء، إذن: بذكر ملاحمهم وأيامهم ومآثرهم في أمهات الكتب، التي يتوقف الاهتمام بها والاطلاع عليها الخاصة المتخصصة من الناس.. وقد تسري عليها عوامل التعرية والإهمال، بل وحتى العبث والتزوير، فتضيع الحقيقة.. وتفوت عملية تسجيل الأحداث واللحظات الفارقة من التاريخ.
حديثاً، بتطور وسائل تدوين الأحداث والمناسبات، كانت هناك الصورة جاهزة لتسجيل اللحظات الفارقة في حركة التاريخ. هذه المرة يتم تسجيل اللحظة حركياً، بالجلبة التي تصاحبها.. وتعابيرَ وجوه ولغةَ جسد من يشارك فيها... وأحياناً، بالألوان الطبيعية. مَنْ مِنّا مَنْ لم يعش لحظة أحداث تاريخية فارقة، مثل: الحربين العظميين. لقد تابع العالم، على الهواء مباشرة، أحداث انهيار المعسكر الاشتراكي.. وسقوط جدار برلين.. وهبوط أول إنسان على سطح القمر. حديثاً، وفي منطقتنا: تم نقل مبادرة الرئيس السادات، على الهواء مباشرةً.. وسجلت «الكاميرا» لحظة وصول الرئيس المصري مطار اللد.. وخطابه في الكنيست.
في الأسبوع الماضي، كانت «الكاميرا» حاضرة لتسجيل لقطة غير تقليدية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، على الهواء مباشرة في مؤتمرٍ عقدته واشنطن في وارسو. لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يجلس مندوبون عرب رفيعو المستوى، مع رئيس وزراء إسرائيل على مائدة طعام واحدة، يتقاسمون رغيف الخبز معاً، كما قال نائب الرئيس الأمريكي.. ويتجاذبون أطراف الحديث.. والمجاملات «البروتوكولية»، وكأنهم أصدقاء، منذ زمنٍ بعيد!؟
صحيح لم يحضر اللقاء كل العرب، بالذات أصحاب القضية، لكن صدمة اللقاء لم تكن أقل وقعاً، من صدمة إعلان الرئيس السادات مبادرته تجاه إسرائيل، ذات ليلة في خطابٍ له بمجلس الشعب المصري، خرج فيه عن النص ليفجر صدمة المبادرة. وإن كانت لقطة حدث اجتماع وارسو الأسبوع الماضي، سبقتها مقدمات أفقدت الصدمة عنصر المفاجأة والوقع، إلا أنها بالتأكيد لحظة مميزة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كانت «الكاميرا» هناك لتسجيلها، بتفاصيلها وأطرافها وشخوصها ومغزاها.
لكن هل مجرد التقاط الصورة، يعكس منعطفاً حقيقياً لتسجيل تحول للحظة فاصلة في مسيرة التاريخ. بعبارة أخرى: هل التقاط الصورة، بكل تفاصيلها الحركية وبهرجتها، تعني في حقيقة الأمر أن هناك تطورا تاريخيا فارقا قد حدث، يفصل بين الماضي بمآسيه وعقده وتعقيداته ودمائه وتحيزاته وقضاياه، والحاضر بشخوصه ورموزه وواقعه ومعطياته وتغيير أشكال تحالفاته... وصولاً إلى تحولٍ حقيقي يفرض نفسه على الجميع، تطلعاً لمرحلة تاريخية تعكس سلاماً حقيقياً.. أو واقعاً، نتج عن منعطفٍ جذري في حركةِ التاريخ، يعكس إرادةً منتصرةً في حربٍ فاصلة.
في حقيقة الأمر، لم تعكس الصورة وضعاً مريحاً لمن هم داخل إطارها، رغم الحرص على ألا تفوت اللقطة، على الكثيرين منهم، وكأن الأمر لا يعدو، عند البعض منهم، أكثر من تسجيل حضوره اللقطة، حتى لو كان على هامش اللقطة وفي حوافها الباهتة. لعل أكثر مَنْ ركزت عليه اللقطة وأظهرته وكأنه محورها وموضوعها، هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. مع ذلك بدا نتنياهو متوتراً مرتبكاً مشوشاً، في حالة من عدم الرضا، ولنقل: الحرج والضيق مما يحدث. لعل سبب ضيق وارتباك نتنياهو حقيقة أن المؤتمر لم يكن سوى حملة لتلميعه داخليا استعداداً لانتخابات أبريل القادم في إسرائيل، ليظهر وكأنه الزعيم الإسرائيلي الوحيد الذي حقق «اختراقات» على جبهات الصراع مع العرب!؟ لذا: نتنياهو ربما كان يفكر في أولوية بقائه في منصبه.. وأكثر ما كان يقلقه تفويت لقطة قادمة، ربما يحظى بها غيره!
ربما نتنياهو كان يأمل في لقطة يُخرجها هو لا يُخرجها غيره، حتى ولو كان أكبر حليف له (العم سام). لم تميز اللقطة نتنياهو، بما يرضي غروره وصلفه وزهوه، عن مَنْ معه، رغم وجوده في بؤرة عدستها. لقد أبت عليه اللقطة أن يسجل صوته فيها، لولا وزير خارجية اليمن الذي كان جالساً على يساره، أعاره مكبر الصوت الخاص به! حتى في اللقطات الجانبية، فيما كان يتجاذب أطراف الحديث مع بعض أعضاء الوفود العربية، بَخُلَت عليه اللقطة لتسجيل اللحظة، بينما كانت كريمةً، صوتاً وصورة، مع من يتحدث إليه، كما ظهر في «كادر» حديثه مع رئيس الوفد العُماني، رغم «طمأنة» الأخير له بأن العرب قد تغيروا، ولم يعودوا ينظرون إلى الوراء!؟
سيذكر التاريخ أن مؤتمر وارسو التقط صورة مصطنعة باهتة، رغم حدة خطوط معالمها ونصاعة مزيج ألوانها، لمحاولة فاشلة للقفز على منطق التاريخ وواقع الجغرافيا. إلا أن هذه الصورة أبت إلا أن تنطق بالحقيقة، التي غابت عن من ظهر فيها.. وعلى من التقطها، وعلى من أخرج حدثها، من أن السلام إرادة لم تتبلور بعد لدى إسرائيل ومن ينصر إسرائيل ظالمة وموغلة في الظلم.
صحيح: الصورة لا تكذب، ولا تتجمَّل. لقد أظهرت قبح إسرائيل.. وبغض زعمائها ومن يدعم باطلهم، للسلام.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com
حديثاً، بتطور وسائل تدوين الأحداث والمناسبات، كانت هناك الصورة جاهزة لتسجيل اللحظات الفارقة في حركة التاريخ. هذه المرة يتم تسجيل اللحظة حركياً، بالجلبة التي تصاحبها.. وتعابيرَ وجوه ولغةَ جسد من يشارك فيها... وأحياناً، بالألوان الطبيعية. مَنْ مِنّا مَنْ لم يعش لحظة أحداث تاريخية فارقة، مثل: الحربين العظميين. لقد تابع العالم، على الهواء مباشرة، أحداث انهيار المعسكر الاشتراكي.. وسقوط جدار برلين.. وهبوط أول إنسان على سطح القمر. حديثاً، وفي منطقتنا: تم نقل مبادرة الرئيس السادات، على الهواء مباشرةً.. وسجلت «الكاميرا» لحظة وصول الرئيس المصري مطار اللد.. وخطابه في الكنيست.
في الأسبوع الماضي، كانت «الكاميرا» حاضرة لتسجيل لقطة غير تقليدية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، على الهواء مباشرة في مؤتمرٍ عقدته واشنطن في وارسو. لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يجلس مندوبون عرب رفيعو المستوى، مع رئيس وزراء إسرائيل على مائدة طعام واحدة، يتقاسمون رغيف الخبز معاً، كما قال نائب الرئيس الأمريكي.. ويتجاذبون أطراف الحديث.. والمجاملات «البروتوكولية»، وكأنهم أصدقاء، منذ زمنٍ بعيد!؟
صحيح لم يحضر اللقاء كل العرب، بالذات أصحاب القضية، لكن صدمة اللقاء لم تكن أقل وقعاً، من صدمة إعلان الرئيس السادات مبادرته تجاه إسرائيل، ذات ليلة في خطابٍ له بمجلس الشعب المصري، خرج فيه عن النص ليفجر صدمة المبادرة. وإن كانت لقطة حدث اجتماع وارسو الأسبوع الماضي، سبقتها مقدمات أفقدت الصدمة عنصر المفاجأة والوقع، إلا أنها بالتأكيد لحظة مميزة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كانت «الكاميرا» هناك لتسجيلها، بتفاصيلها وأطرافها وشخوصها ومغزاها.
لكن هل مجرد التقاط الصورة، يعكس منعطفاً حقيقياً لتسجيل تحول للحظة فاصلة في مسيرة التاريخ. بعبارة أخرى: هل التقاط الصورة، بكل تفاصيلها الحركية وبهرجتها، تعني في حقيقة الأمر أن هناك تطورا تاريخيا فارقا قد حدث، يفصل بين الماضي بمآسيه وعقده وتعقيداته ودمائه وتحيزاته وقضاياه، والحاضر بشخوصه ورموزه وواقعه ومعطياته وتغيير أشكال تحالفاته... وصولاً إلى تحولٍ حقيقي يفرض نفسه على الجميع، تطلعاً لمرحلة تاريخية تعكس سلاماً حقيقياً.. أو واقعاً، نتج عن منعطفٍ جذري في حركةِ التاريخ، يعكس إرادةً منتصرةً في حربٍ فاصلة.
في حقيقة الأمر، لم تعكس الصورة وضعاً مريحاً لمن هم داخل إطارها، رغم الحرص على ألا تفوت اللقطة، على الكثيرين منهم، وكأن الأمر لا يعدو، عند البعض منهم، أكثر من تسجيل حضوره اللقطة، حتى لو كان على هامش اللقطة وفي حوافها الباهتة. لعل أكثر مَنْ ركزت عليه اللقطة وأظهرته وكأنه محورها وموضوعها، هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. مع ذلك بدا نتنياهو متوتراً مرتبكاً مشوشاً، في حالة من عدم الرضا، ولنقل: الحرج والضيق مما يحدث. لعل سبب ضيق وارتباك نتنياهو حقيقة أن المؤتمر لم يكن سوى حملة لتلميعه داخليا استعداداً لانتخابات أبريل القادم في إسرائيل، ليظهر وكأنه الزعيم الإسرائيلي الوحيد الذي حقق «اختراقات» على جبهات الصراع مع العرب!؟ لذا: نتنياهو ربما كان يفكر في أولوية بقائه في منصبه.. وأكثر ما كان يقلقه تفويت لقطة قادمة، ربما يحظى بها غيره!
ربما نتنياهو كان يأمل في لقطة يُخرجها هو لا يُخرجها غيره، حتى ولو كان أكبر حليف له (العم سام). لم تميز اللقطة نتنياهو، بما يرضي غروره وصلفه وزهوه، عن مَنْ معه، رغم وجوده في بؤرة عدستها. لقد أبت عليه اللقطة أن يسجل صوته فيها، لولا وزير خارجية اليمن الذي كان جالساً على يساره، أعاره مكبر الصوت الخاص به! حتى في اللقطات الجانبية، فيما كان يتجاذب أطراف الحديث مع بعض أعضاء الوفود العربية، بَخُلَت عليه اللقطة لتسجيل اللحظة، بينما كانت كريمةً، صوتاً وصورة، مع من يتحدث إليه، كما ظهر في «كادر» حديثه مع رئيس الوفد العُماني، رغم «طمأنة» الأخير له بأن العرب قد تغيروا، ولم يعودوا ينظرون إلى الوراء!؟
سيذكر التاريخ أن مؤتمر وارسو التقط صورة مصطنعة باهتة، رغم حدة خطوط معالمها ونصاعة مزيج ألوانها، لمحاولة فاشلة للقفز على منطق التاريخ وواقع الجغرافيا. إلا أن هذه الصورة أبت إلا أن تنطق بالحقيقة، التي غابت عن من ظهر فيها.. وعلى من التقطها، وعلى من أخرج حدثها، من أن السلام إرادة لم تتبلور بعد لدى إسرائيل ومن ينصر إسرائيل ظالمة وموغلة في الظلم.
صحيح: الصورة لا تكذب، ولا تتجمَّل. لقد أظهرت قبح إسرائيل.. وبغض زعمائها ومن يدعم باطلهم، للسلام.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com