غرفة جدة في 75 عاماً
الأحد / 26 / جمادى الآخرة / 1440 هـ الاحد 03 مارس 2019 02:00
عبدالله صادق دحلان
يصعب عليّ أن تحتفل الغرفة التجارية الصناعية بجدة بمرور 75 عاما على إنشائها ولا أسطر عنها بعض الكلمات، فهي الغرفة الأولى من حيث تاريخ الإنشاء، حيث أنشئت بمرسوم ملكي في عام 1365هـ - 1946م بقيادة مجموعة من تجار جدة الأوائل رحمهم الله -مع حفظ الألقاب- يرأسهم معالي محمد عبدالله علي رضا وينوب عنه أحمد محمد باعشن، وعضوية محمد السليمان التركي، ومحمد عطار وأحمد أبوبكر باغفار وأحمد عبد الرحمن باعشن وإبراهيم حمد الصنيع وإبراهيم شاكر وفيصل المبارك وعمر عبد القادر باناجة ومحمد علي إسماعيل وحسن عبدالقادر قابل وسعيد محمد عبيد بن زقر.
ثم توالت الدورات وتعاقب الرؤساء والأعضاء على مجلس إدارة الغرفة، وكان أطول عهد لرئيس الغرفة هو عهد الشيخ إسماعيل أبوداوود رحمه الله، وقد كنت أمينا عاما للغرفة منذ رئاسته لمدة 18 عاما مع مجموعة من صفوة تجار جدة الأوائل ومنهم عبدالرؤوف أبوزنادة وعبدالعزيز السليمان وعبدالله سلسلة وعبداللطيف باناجة وإبراهيم كردي وعمر بادحدح ومحمود نشار وشيخ تجار الذهب الأديب أحمد فتيحي ود. هشام جمجوم وخالد زينل ومحمد الخريجي ومحمد الحمراني وعبدالعزيز حنفي ووليد الجفالي وغيرهم، وهي إحدى أهم الدورات التي تمت فيها إنجازات الغرفة الكبيرة ومنها مدينة المستودعات ومركز المعارض ومبنى الغرفة الجديد والمباني الإدارية المجاورة، وفيها تم إنشاء مركز المعلومات ومركز الأبحاث ومركز التدريب وتم إنشاء أهم اللجان المتخصصة التجارية والصناعية وغيرها.
جهود بدأها الرواد واستكملها رؤساء وأعضاء وأمناء الغرفة الذين تقلدوا المسؤولية فيما بعد.
وحيث إن جميع الصحف وجميع وسائل الإعلام غطت مناسبة الـ75 عاما الأسبوع الماضي، إلا أن من أجمل ما قرأت عن التجارة في مدينة جدة قديما، كلمات سطرها التاجر عضو مجلس إدارة الغرفة آنذاك شيخ تجار الذهب الأديب أحمد حسن فتيحي فهذا جزء مقتبس مما كتبه: «أهالي جدة كلهم يعملون ومنهم فئة التجار هذه الأعداد القليلة المعروفة تتميز بأخلاق كريمة وتعامل وتسامح، فإذا اختلفوا صمتوا حتى يهدأوا ثم تتعافى الأمور، وربما تحتاج لتدخل آخرين ليتم التوصل إلى نهاية الخلاف، بأكلة (عزومة) عند أحدهم..
هناك رجال أفاضل مهمتهم حل الخلافات بين الناس، ويرضى بهم الجميع، وأحكامهم دائما مقبولة، وتراهم يسعون لذلك بأنفسهم وأموالهم، وجوههم مشرقة وأناقتهم متميزة فالوقار والتقدير والاحترام رفيقهم.
أما الفئة الثانية فهم الموظفون، وهم أكثر أناقة من غيرهم، ومربون أفاضل أصحاب احترام وتقدير، وهم أهل (الميري) وكما يقال «وإذا لم تلحق الميري اتمردغ في ترابه».. وخلافاتهم عادة ما تكون بالرسائل المتبادلة بينهم، عتاباً أو حساباً أو عقاباً، وتكون من ضمن الأدبيات.
أما الفئة الثالثة فهم (فئة المهنيين) من النجارين والحدادين والمنجدين والصاغة وغيرهم كالدلالة والتخريج.
فالمهنة ليست عيبا أو معرة أو ازدراء، بدءاً من كنس الأزقة وتنظيف المجاري وتأجير عربات الكرو لنقل الأثاث وما إلى ذلك.
وإذا اجتمع الخلق الحسن مع المهنة فصاحبها محبوب وموثوق ويشجّع ويقولون عنه شقاوى (أي يشقى للقمة عيشه بكرامة).. أما إذا كان غير ذلك، فيقولون: «أبت الشقاوة أن تفارق أهلها».
أما البناؤون.. فإنهم ينظمون الحجر المنقبي (وهو المستعمل) ويشغل كثيرا من الأيادي العاملة لتهذيبه ووضعه في المكان الملائم له، والنجارون يقومون بعمل رواشين ونوافذ وأبواب المنازل.. وهناك مهن أخرى قد أتطرق إليها قليلا.. ومن بينها المنادي عند وصول باخرة أو حدث في المدينة يجوب الحارات الأربع للإعلان عنها..
في المسجد المصلون من جدة.. والإمام من جدة.. والخطيب من جدة..
تعيش جدة نهارها عمل وجد كل يسعى لرزقه وما يسر الله له..
فلا تنقضي صلاة الصبح وتطلع الشمس من مشرقها إلا وكانت الحركة تدب في أوصالها من الحلقة، إلى النورية، إلى الحراج، إلى المدارس، إلى الدوائر الحكومية والمكاتب التجارية والدكاكين المختلفة.. فأحدهم نجار.. وآخر حداد.. وصائغ.. ومنجد.. ومصلح للأتاريك.. وبائع مفارش.. وبقال.. وعطار.. وفوال.. ومطبق.. ومعصوب.. وتميز.. والجميع بدون استثناء عاملون.. حتى الحلاقون، فالبركة في البكور، وسبحان الله الرزاق الكريم يختص قوماً بالبيع والثقة، فالفوال (الأمير) زحمة، وأبو عوف المطبق زحمة، وحسن فتيحي الإقبال عليه أكثر حتى أنه أحيانا يقول: «جبرنا».
وبعد صلاة العشاء.. تهدأ جدة تماماً، فالكل في بيته كبيراً وصغيراً.. غنياً وفقيراً.. متعلماً وجاهلاً.. موظفاً وتاجراً..
فالغني يعطي.. والفقير عفيف.. والكلمة الطيبة دائماً من علماء المدينة وفقهائها..
العملة المستعملة هي الريال الفضة والنصف ریال والربع ریال والقروش والهلل وكان مع كثرة استعمال الريال يمسح.. ولا يقبل إلا بعد التبديل من بنك الأندوشين أو مؤسسة النقد أو الصيارفة.. مع فارق بسيط للتبديل، فالريال كان يساوي 22 قرشاً..
والمصروف المحترم لطفل المدرسة بين ست هللات أي قرش ونصف وثلاثة قروش، ومن عنده ربع ریال عليه أن يَتجبى على أصحابه إن أراد».
هذه التجارة في جدة القديمة حسب رواية أديب تجار الذهب الشيخ أحمد فتيحي.
* كاتب اقتصادي سعودي
abdullahdahlan@yahoo.com
ثم توالت الدورات وتعاقب الرؤساء والأعضاء على مجلس إدارة الغرفة، وكان أطول عهد لرئيس الغرفة هو عهد الشيخ إسماعيل أبوداوود رحمه الله، وقد كنت أمينا عاما للغرفة منذ رئاسته لمدة 18 عاما مع مجموعة من صفوة تجار جدة الأوائل ومنهم عبدالرؤوف أبوزنادة وعبدالعزيز السليمان وعبدالله سلسلة وعبداللطيف باناجة وإبراهيم كردي وعمر بادحدح ومحمود نشار وشيخ تجار الذهب الأديب أحمد فتيحي ود. هشام جمجوم وخالد زينل ومحمد الخريجي ومحمد الحمراني وعبدالعزيز حنفي ووليد الجفالي وغيرهم، وهي إحدى أهم الدورات التي تمت فيها إنجازات الغرفة الكبيرة ومنها مدينة المستودعات ومركز المعارض ومبنى الغرفة الجديد والمباني الإدارية المجاورة، وفيها تم إنشاء مركز المعلومات ومركز الأبحاث ومركز التدريب وتم إنشاء أهم اللجان المتخصصة التجارية والصناعية وغيرها.
جهود بدأها الرواد واستكملها رؤساء وأعضاء وأمناء الغرفة الذين تقلدوا المسؤولية فيما بعد.
وحيث إن جميع الصحف وجميع وسائل الإعلام غطت مناسبة الـ75 عاما الأسبوع الماضي، إلا أن من أجمل ما قرأت عن التجارة في مدينة جدة قديما، كلمات سطرها التاجر عضو مجلس إدارة الغرفة آنذاك شيخ تجار الذهب الأديب أحمد حسن فتيحي فهذا جزء مقتبس مما كتبه: «أهالي جدة كلهم يعملون ومنهم فئة التجار هذه الأعداد القليلة المعروفة تتميز بأخلاق كريمة وتعامل وتسامح، فإذا اختلفوا صمتوا حتى يهدأوا ثم تتعافى الأمور، وربما تحتاج لتدخل آخرين ليتم التوصل إلى نهاية الخلاف، بأكلة (عزومة) عند أحدهم..
هناك رجال أفاضل مهمتهم حل الخلافات بين الناس، ويرضى بهم الجميع، وأحكامهم دائما مقبولة، وتراهم يسعون لذلك بأنفسهم وأموالهم، وجوههم مشرقة وأناقتهم متميزة فالوقار والتقدير والاحترام رفيقهم.
أما الفئة الثانية فهم الموظفون، وهم أكثر أناقة من غيرهم، ومربون أفاضل أصحاب احترام وتقدير، وهم أهل (الميري) وكما يقال «وإذا لم تلحق الميري اتمردغ في ترابه».. وخلافاتهم عادة ما تكون بالرسائل المتبادلة بينهم، عتاباً أو حساباً أو عقاباً، وتكون من ضمن الأدبيات.
أما الفئة الثالثة فهم (فئة المهنيين) من النجارين والحدادين والمنجدين والصاغة وغيرهم كالدلالة والتخريج.
فالمهنة ليست عيبا أو معرة أو ازدراء، بدءاً من كنس الأزقة وتنظيف المجاري وتأجير عربات الكرو لنقل الأثاث وما إلى ذلك.
وإذا اجتمع الخلق الحسن مع المهنة فصاحبها محبوب وموثوق ويشجّع ويقولون عنه شقاوى (أي يشقى للقمة عيشه بكرامة).. أما إذا كان غير ذلك، فيقولون: «أبت الشقاوة أن تفارق أهلها».
أما البناؤون.. فإنهم ينظمون الحجر المنقبي (وهو المستعمل) ويشغل كثيرا من الأيادي العاملة لتهذيبه ووضعه في المكان الملائم له، والنجارون يقومون بعمل رواشين ونوافذ وأبواب المنازل.. وهناك مهن أخرى قد أتطرق إليها قليلا.. ومن بينها المنادي عند وصول باخرة أو حدث في المدينة يجوب الحارات الأربع للإعلان عنها..
في المسجد المصلون من جدة.. والإمام من جدة.. والخطيب من جدة..
تعيش جدة نهارها عمل وجد كل يسعى لرزقه وما يسر الله له..
فلا تنقضي صلاة الصبح وتطلع الشمس من مشرقها إلا وكانت الحركة تدب في أوصالها من الحلقة، إلى النورية، إلى الحراج، إلى المدارس، إلى الدوائر الحكومية والمكاتب التجارية والدكاكين المختلفة.. فأحدهم نجار.. وآخر حداد.. وصائغ.. ومنجد.. ومصلح للأتاريك.. وبائع مفارش.. وبقال.. وعطار.. وفوال.. ومطبق.. ومعصوب.. وتميز.. والجميع بدون استثناء عاملون.. حتى الحلاقون، فالبركة في البكور، وسبحان الله الرزاق الكريم يختص قوماً بالبيع والثقة، فالفوال (الأمير) زحمة، وأبو عوف المطبق زحمة، وحسن فتيحي الإقبال عليه أكثر حتى أنه أحيانا يقول: «جبرنا».
وبعد صلاة العشاء.. تهدأ جدة تماماً، فالكل في بيته كبيراً وصغيراً.. غنياً وفقيراً.. متعلماً وجاهلاً.. موظفاً وتاجراً..
فالغني يعطي.. والفقير عفيف.. والكلمة الطيبة دائماً من علماء المدينة وفقهائها..
العملة المستعملة هي الريال الفضة والنصف ریال والربع ریال والقروش والهلل وكان مع كثرة استعمال الريال يمسح.. ولا يقبل إلا بعد التبديل من بنك الأندوشين أو مؤسسة النقد أو الصيارفة.. مع فارق بسيط للتبديل، فالريال كان يساوي 22 قرشاً..
والمصروف المحترم لطفل المدرسة بين ست هللات أي قرش ونصف وثلاثة قروش، ومن عنده ربع ریال عليه أن يَتجبى على أصحابه إن أراد».
هذه التجارة في جدة القديمة حسب رواية أديب تجار الذهب الشيخ أحمد فتيحي.
* كاتب اقتصادي سعودي
abdullahdahlan@yahoo.com