العليلي.. مؤسس أول إذاعة شعبية إماراتية.. عمل وأقام بالدمام
الأحد / 17 / رجب / 1440 هـ الاحد 24 مارس 2019 02:19
قراءة: د. عبدالله المدني *
اختار المعتمد البريطاني في الشارقة «إذاعة صوت ساحل عمان» اسما رسميا للمحطة الإذاعية على غرار «قوة كشافة ساحل عمان». وتقول صحيفة الخليج في تقرير صحفي (14/2/2016) إن هذه الإذاعة صارت لاحقا تحت إشراف مكتب التطوير المنبثق من مجلس حكام الإمارات المتصالحة الذي كان قد تأسس سنة 1952. هذا علما أن إذاعة صوت الساحل ظلت تبث برامجها الترفيهية والتثقيفية منذ بدء إرسالها وحتى مطلع السبعينات الذي شهد تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث اشترتها دبي وغيرت اسمها إلى «إذاعة دبي» وأطلقتها بحلة جديدة على نفس الذبذبة.
لكن الإمارات عرفت بالتزامن تقريبا ظهور أول إذاعة شعبية غير رسمية كانت تبث من إمارة عجمان، هنا نتجاوز ما ذكره صديقنا الكاتب الإماراتي علي عبيد الهاملي في عمود له بصحيفة البيان (20/11/2017) من أن أول إذاعة شعبية في الإمارات تأسست في عام 1958 على يد شاب كان يهوى الإلكترونيات اسمه صقر ماجد المري، وكان اسمها «إذاعة دبي من الشندغة»، وسبب تجاوزنا لهذه الإذاعة هو أنها لم تستمر طويلا ناهيك عن أنها كانت تبث لمدة ساعة واحدة كل يوم.. فما هي قصة إذاعة عجمان؟ ومن يا ترى وقف خلف فكرتها وتأسيسها متحديا ومقاوما كل العقبات والعراقيل وقلة الحيلة في الزمن الصعب؟
الإجابة نجدها في مقالة بجريدة الاتحاد الظبيانية بتاريخ 6/4/2005 بقلم موزة خميس، وتحقيق آخر في الجريدة نفسها بتاريخ 17/3/2013، وتقرير ثالث في صحيفة البيان (29/10/2015) من إعداد «برديس فرسان خليفة». علما أن مقالتي الاتحاد استندتا إلى ما قاله ابن مؤسس المحطة وهو «عبدالله راشد عبدالله بن حمضة العليلي» عن جهود وسيرة والده. فيما استند تقرير البيان إلى ما ذكره شريك بن حمضة وقريبه «سالم عبيد سيف العليلي».
بعد إذاعة صوت ساحل عمان التي ظهرت، كما قلنا، في إمارة الشارقة، ظهر في إمارة عجمان في الفترة ما بين عامي 1961-1965 ما يمكن أن نطلق عليه أول محطة إذاعة شعبية، وكانت بجهود فردية من قبل «راشد عبدالله بن حمضة العليلي»، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى قبل نهاية فبراير 2013.
والعليلي هم من آل علي المقيمين بصورة رئيسية في إمارتي رأس الخيمة والشارقة مع وجود نفر منهم يقيمون في إمارة أم القيوين ويعملون في المهن الزراعية والبحرية.
وفي هذا السياق، كتبت موزة خميس قائلة إن لقب «بن حمضة» التصق بوالد صاحبنا، الذي كان يعمل في إصلاح السفن ويقيم مع أسرته بالقرب من مسجد البدو في الفريج الشرقي لإمارة عجمان، بسبب اشتغال أجداده في تجارة الليمون، فكانوا بمجرد وصولهم إلى أماكن البيع ينادون «لومي حامض» وذلك تمييزا عن «اللومي الحلو».
لم يحظ بن حمضة العليلي بمرافقة أو معايشة والده طويلا؛ لأن يد المنون اختطفت الأب قبل أن يكمل الابن الحادية عشرة من عمره، فنشأ يتيما في كنف والدته. كما أن الأقدار اختطفت بعد وقت قصير من رحيل والده شقيقه الأكبر سنا فصار عبء إعالة أمه وشقيقاته ملقى بالكامل على كاهله.
في هذه الفترة الصعبة من حياته، كان همه الوحيد هو كيفية كسب العيش عن طريق العثور على وظيفة أو مهنة تبعد عنه الفاقة والسؤال، ونظرا لقسوة الحياة وانعدام الفرص الوظيفية آنذاك في الإمارات، اقتدى صاحبنا وقتها بما كان يفعله مواطنوه وهو السفر إلى دول الخليج المجاورة من أجل الكد والعمل.
وعليه كانت وجهة الرجل هي المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية لأسباب كثيرة، منها: قربها النسبي من بلاده، وتشابه العادات والتقاليد واللهجة الدارجة والمناخ، ووجود جالية كبيرة من أبناء الإمارات في المنطقة الشرقية ممن قد يأخذون بيده ويخففون عنه وطأة الغربة.
وهكذا ألقى الرجل برحاله في مدينة الدمام في الخمسينات من القرن العشرين يوم كانت الدمام في بواكير نهضتها. حل العليلي في الدمام وهو صبي يافع في الرابعة عشرة من عمره، وسرعان ما حصل على وظيفة براتب 300 ريال في الشهر (كان المبلغ كبيرا بمقاييس ذلك الزمن ومستوياته المعيشية) لدى أحد أبناء عجمان ممن كانوا قد سبقوه إلى السعودية. كان الأخير يمتلك متجرا لبيع الدراجات الهوائية وأجهزة المذياع والتلفزيون، وكانت لديه ورشة ملحقة لتصليح هذه السلع الحديثة. وبعد فترة وجيزة قضاها في ذلك المتجر بائعاً، انتقل للعمل في الورشة الملحقة التي كان يعمل بها مهندس هندي من مومباي. وهناك أتيح للعليلي أن يتعلم الكثير عن عمل الأجهزة الإلكترونية وكيفية إصلاحها.
وكاد الرجل أن يبقى سنوات أخرى طويلة في عمله فوق السنوات الخمس التي عاشها في الدمام، غير أنه صادف ذات يوم أحد مواطنيه القادمين من عجمان فعرف منه أنّ والدته في شوق وحنين إليه وتخاف أنْ ترحل دون أن تكحل عينيها برؤيته، فحزن كثيرا وعاتب نفسه طويلا، ولم تشرق شمس اليوم التالي إلا وصاحبنا يقرر العودة إلى عجمان لملاقاة والدته وشقيقاته.
وبعد شهرين من المكوث معهم، عاد إلى مقر عمله بالدمام لكنه لم يمكث فيها هذه المرة سوى عام واحد، عاد على أثره إلى عجمان لكي يستقر فيها نهائيا، خصوصا أنّ سبل التواصل مع أهله ووسائل السفر إليهم في زيارات سريعة لم تكن ميسرة كحالها اليوم.
بعد عودته إلى عجمان في نهايات الخمسينات، قام العليلي بتنفيذ مشروع خاص يقتات عليه، حيث افتتح محلا لإصلاح الساعات وأجهزة الراديو. وعلى الرغم من أن السواد الأعظم من الناس آنذاك لم يكن بمقدورهم امتلاك أجهزة مذياع خاصة بهم، ولم تكن مستويات دخولهم تتيح لهم اقتناء الساعات، إلا أن العليلي كان راضيا وقانعا بدخله لأن القلة الممتلكة لمثل هذه الكماليات كانت تقبل على إصلاحها لديه كونه «المُصلّـح» الوحيد آنذاك. يقول ابنه عبدالله حول هذا الموضوع إن والده كان يتقاضى ما بين 20 - 30 روبية لقاء إصلاح الساعات وأجهزة المذياع، وأنه «كان يراعي ظروف البعض الآخر فلا يتقاضى أكثر من 15 روبية».
في هذه الأثناء، كانت هناك فكرة قد اختمرت في رأسه وحلم بتنفيذها في وطنه منذ أن كان في الدمام، دون أن يدري مآلاتها وما ستحققه له من شهرة مدوية. لم تكن تلك الفكرة سوى إطلاق بث إذاعي من عجمان عبر استغلال ما تعلمه من أمور فنية أثناء عمله في الورشة الإلكترونية بالدمام، خصوصا أنه كان في سنوات غربته في السعودية مستمعا دائما لبث المحطات الإذاعية العربية، وكان يتساءل: لماذا لا تكون في عجمان محطة إذاعية مشابهة لما هو موجود في البحرين والكويت مثلا، ترفه عن المواطنين وتمحي أميتهم وتنشر في أوساطهم الخير والمعارف المفيدة.
لم يكن العليلي بعد عودته إلى وطنه متذمرا من انعدام الفرص الوظيفية فحسب وإنما كان أيضا مستاء من ضعف إمكاناته للبدء في مشروعه الإذاعي. غير أنه التقى بقريب له يدعى «سالم عبيد سيف العليلي» واتفقا على أن يتعاونا معا على تنفيذ المشروع، خصوصا أن سالم العليلي كان طالبا آنذاك، ويمتلك ثقافة واسعة في الكثير من الأمور، ويصلح ليكون مذيعا ومقدما للبرامج. أجاب سالم عبيد على سؤال «كيف كانت بداية المسيرة الإعلامية؟» في حواره مع «برديس فارس خليفة» (مصدر سابق) فقال: «في ذلك الوقت لم يكن يوجد شيء اسمه إعلام، ولم يعرف مفهومه إلا بعض التجار والمثقفين والمسافرين، وحتى نحن لم نكن نعرفه، وكنا نسمع إذاعة صوت العرب من القاهرة وإذاعة دلهي وإذاعة من إيران، وعندما تأثرنا بالإذاعات أردنا أن تكون لنا إذاعة خاصة، وكان قريبي من إمارة عجمان «راشد عبدالله بن علي بن حمضة» يعمل في السعودية في مجال التلفزيون والإضاءة والأسلاك وبعض الأجهزة الفنية، وكانت عنده فكرة عنها دوّنها في باله وحفظها، وعندما عاد التقينا، وكان متضايقاً لعدم توافر عمل في ذلك الوقت، وكنت أدرس في المدرسة وعندي ثقافة في الكثير من الأمور، وعرض علي فكرة الإذاعة فبدأنا، رغم عدم توافر الكهرباء والحياة البدائية».
وهكذا راح الرجلان يعملان على مدى شهرين متواصلين مستخدمين أدوات متواضعة مثل راديو قديم وغرامفون وسماعات خشبية بدائية ومجموعة من الأسلاك وبطارية جافة شبيهة ببطاريات السيارات كانا يعيدان شحنها بالطاقة الشمسية والغاز كلما توقفت عن العمل علاوة على هوائي (أريل) بطول 30 مترا تم رفعه وتثبيته بالحبال.
وبعد أن انتهيا من كل شيء بسرية تامة، وأعدا العدة لإطلاق البث من داخل غرفة نوم راشد العليلي، ذهب الأخير في ظهيرة أحد الأيام من عام 1961 إلى مقهى «عبدالله الغملاسي الشعبي» حيث كان شباب ورجالات عجمان يجتمعون للحديث وشرب القهوة والشاي والاستماع إلى الراديو، وقام بتثبيت مؤشر المذياع على تردد إذاعته، وهي تبث بعض المنوعات الغنائية، ليفاجئ الحضور بصوت زميله سالم العليلي وهو يعلن «لا نزال نواصل بث هذه المنوعات من إذاعة عجمان».
للوهلة الأولى، اعتقد جمهور المقهى أن البث هو بث إذاعة الشارقة وأن مذيعها «خلفان المر» أخطأ في القراءة فاستبدل الشارقة بعجمان، لكن راشد راح يشرح لهم أنّ البث هو فعلا من عجمان، بل من منزله، لأنه هو صاحب فكرة الإذاعة. ولأن الأغلبية من جمهور المقهى ظلوا غير مصدقين، فقد قادهم الرجل بنفسه إلى منزله ليقطعوا الشك باليقين.
كانت فرحة أبناء عجمان مواطنيها وشيوخها عظيمة بهذا الإنجاز، لكن موقف الإنجليز كان مغلفا بالشكوك والهواجس في بادئ الأمر، كيلا نقول إنه كان معاديا للإذاعة الوليدة وصاحبها العليلي، بدليل أنّ إذاعتهم المنطلقة من قاعدتهم العسكرية في الشارقة انزعجت من الحدث واستنكرت عدم إبلاغها مسبقا ببث إذاعة عجمان. والدليل الآخر هو ما حصل عندما زار الشيخ حميد بن راشد النعيمي حاكم عجمان السابق -رحمه الله- إذاعة العليلي في منزله. فعلى حين أشاد الحاكم بجهود مواطنه وقدم له الدعم والتشجيع كان مرافقه الضابط الإنجليزي متذمرا وقلقا من احتمال وجود أجهزة إرسال سرية في حوزة العليلي يستخدمها في الاتصال بالجماعات المناوئة للإنجليز في المنطقة، أو يستغلها في التجسس على الإشارات الخاصة بالجيش البريطاني. يقول ابن العليلي (عبدالله) إن الإنجليز فتشوا منزل والده تفتيشا دقيقا وقلبوا حوائجه في غرفة نومه، وفتشوا حتى تحت سريره.
على أنه بعد مضي فترة من الزمن وبعدما تمّ التأكد من أن العليلي ورفيقه لا يخفيان شيئا، زارهما مدير إذاعة صوت الساحل مع كبير مذيعيها إبراهيم الحديدي فاستغربا من ضعف إمكاناتهما وبساطتها فاقترحا على راشد العليلي أن يذهب للدراسة في الخارج لصقل مواهبه بطريقة علمية، لكن الأخير لم يوافق مفضلا البقاء بجانب إذاعته التي كانت تبث لمدة 3 ساعات يوميا وتقدم القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمنوعات الغنائية والقصائد النبطية والأهازيج البحرية وخلافها.
قلنا إن إذاعة عجمان الشعبية استمرت تعمل حتى سنة 1965 حينما واجهت بعض المصاعب المالية التي لم تكن إمكانات العليلي المتواضعة قادرة على مواجهتها، فتوقفت، علما أن صاحبها أنفق عليها الكثير من ماله ووقته، ناهيك عن أن بعض المواطنين ساهموا في دعمها من خلال تزويدها بالمواد التسجيلية، أو من خلال القيام بحملة لجمع التبرعات لها على نحو ما فعلته مواطنة متحمسة تدعى «مطيرة» بمساعدة الطالب في مدرسة الراشدية آنذاك «سالم راشد بن تريس القمزي». وبعد أن أغلق راشد إذاعته ظلت أجهزتها مهملة في بيته إلى أن تم نقلها لعرضها في متحف عجمان.
وخلال السنوات الأربع من عمر هذه الوسيلة الإعلامية المبكرة كان «سالم عبيد سيف العليلي»، الذي بدأ في إجراء تجارب البث الأولى، هو المذيع الذي يفتتح البث اليومي ويقدم برنامج «ما يطلبه المستمعون» وفقرة المنوعات الغنائية. وكان الفلسطيني جودت عايش البرغوثي، وهو من قدامى معلمي مدرسة الراشدية منذ تأسيسها سنة 1958، يقدم البرامج الأدبية والتوجيهات التربوية وأخبار الحاكم. وكانت القصائد الشعرية من إلقاء الشاعر حمد خليفة بوشهاب، بينما رواية الشعر الشعبي كانت من نصيب عمران بن سلطان بن مرداس. أما المواعظ والبرامج الدينية فكان يقدمها الشيخ محمد التندي. ومن المساهمين أيضا الفنان عيد الفرج الذي كان يقدم الأناشيد الحماسية حينما كان طالبا.
علاوة على ما سبق كانت الإذاعة تبث أسبوعيا خطبة الجمعة التي كان يلقيها إمام جامع عجمان الضرير ومعلم القرآن المطوع خلفان بن حميد بن عيسى، حيث كان راشد بن حمضة يسجل الخطبة ظهرا ويذيعها مساء. كما كانت الإذاعة تقرأ رسائل المستمعين واقتراحاتهم التي كانت تصل إلى مقر الإذاعة في بيت العليلي باليد وقرع الباب، وكانت تقدم أيضا برنامجاً للتكافل الاجتماعي؛ مثل المنازل التي تحترق، لأن البيوت كانت تصنع من جريد النخيل، أو أخبار البحر، كغرق سفينة لأحد المواطنين، فكان المستمعون يبادرون بالمساعدة والتبرع.
لكن ما ذا حدث لراشد العليلي بعد أن أغلق إذاعته؟
تزوج من إحدى مواطناته، وراح يبحث عن عمل. ولأنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة فلم يعثر سوى على وظيفة «مراسل» بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فقبل بها وأمضى فيها 23 عاما من عمره إلى أن تقاعد. وبعد تقاعده افتتح محلا لبيع الملابس الرجالية، كان يجتمع فيه مع أصدقائه القدامى للدردشة واجترار ذكريات الماضي. واستمر على هذه الحال إلى أن انتقل رحمه الله إلى جوار ربه.
أخبرنا المؤرخ الإماراتي الصديق الدكتور عبدالله الطابور، في مقال له بجريدة الخليج الإماراتية (24/8/2011) ما مفاده أن الإنجليز -في مسعى منهم لمنع المساعدات العربية عن إمارات الساحل المتصالح، وقطع تواصل أبنائها مع الإذاعات العربية- بادروا إلى افتتاح محطة للبث الإذاعي كانت هي المحطة الرسمية الأولى في تاريخ الإمارات. هذه الإذاعة بدأت البث في عام 1962 انطلاقا من «المرقاب» بالقاعدة البريطانية في الشارقة التي كانت تُـعرف عند العامة باسم «المحطة»، التي تأسست في البدء مهبطاً للطيران الملكي البريطاني في عام 1932، علما أن أول جهاز راديو دخل الإمارات أحضره المدير الإنجليزي لمحطة مطار الشارقة (السيد جيمس) سنة 1934، وحينذاك دعا الأخير كلا من عبداللطيف السركال وابنه ناصر للاستماع للجهاز العجيب في استراحة المطار بحضور «خان صاحب حسين» الملقب بعماد الدولة البريطانية (انظر كتاب «الإمارات في ذاكرة أبنائها» للباحث عبدالله عبدالرحمن/ ندوة الثقافة والعلوم/ دبي/1998).
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
لكن الإمارات عرفت بالتزامن تقريبا ظهور أول إذاعة شعبية غير رسمية كانت تبث من إمارة عجمان، هنا نتجاوز ما ذكره صديقنا الكاتب الإماراتي علي عبيد الهاملي في عمود له بصحيفة البيان (20/11/2017) من أن أول إذاعة شعبية في الإمارات تأسست في عام 1958 على يد شاب كان يهوى الإلكترونيات اسمه صقر ماجد المري، وكان اسمها «إذاعة دبي من الشندغة»، وسبب تجاوزنا لهذه الإذاعة هو أنها لم تستمر طويلا ناهيك عن أنها كانت تبث لمدة ساعة واحدة كل يوم.. فما هي قصة إذاعة عجمان؟ ومن يا ترى وقف خلف فكرتها وتأسيسها متحديا ومقاوما كل العقبات والعراقيل وقلة الحيلة في الزمن الصعب؟
الإجابة نجدها في مقالة بجريدة الاتحاد الظبيانية بتاريخ 6/4/2005 بقلم موزة خميس، وتحقيق آخر في الجريدة نفسها بتاريخ 17/3/2013، وتقرير ثالث في صحيفة البيان (29/10/2015) من إعداد «برديس فرسان خليفة». علما أن مقالتي الاتحاد استندتا إلى ما قاله ابن مؤسس المحطة وهو «عبدالله راشد عبدالله بن حمضة العليلي» عن جهود وسيرة والده. فيما استند تقرير البيان إلى ما ذكره شريك بن حمضة وقريبه «سالم عبيد سيف العليلي».
بعد إذاعة صوت ساحل عمان التي ظهرت، كما قلنا، في إمارة الشارقة، ظهر في إمارة عجمان في الفترة ما بين عامي 1961-1965 ما يمكن أن نطلق عليه أول محطة إذاعة شعبية، وكانت بجهود فردية من قبل «راشد عبدالله بن حمضة العليلي»، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى قبل نهاية فبراير 2013.
والعليلي هم من آل علي المقيمين بصورة رئيسية في إمارتي رأس الخيمة والشارقة مع وجود نفر منهم يقيمون في إمارة أم القيوين ويعملون في المهن الزراعية والبحرية.
وفي هذا السياق، كتبت موزة خميس قائلة إن لقب «بن حمضة» التصق بوالد صاحبنا، الذي كان يعمل في إصلاح السفن ويقيم مع أسرته بالقرب من مسجد البدو في الفريج الشرقي لإمارة عجمان، بسبب اشتغال أجداده في تجارة الليمون، فكانوا بمجرد وصولهم إلى أماكن البيع ينادون «لومي حامض» وذلك تمييزا عن «اللومي الحلو».
لم يحظ بن حمضة العليلي بمرافقة أو معايشة والده طويلا؛ لأن يد المنون اختطفت الأب قبل أن يكمل الابن الحادية عشرة من عمره، فنشأ يتيما في كنف والدته. كما أن الأقدار اختطفت بعد وقت قصير من رحيل والده شقيقه الأكبر سنا فصار عبء إعالة أمه وشقيقاته ملقى بالكامل على كاهله.
في هذه الفترة الصعبة من حياته، كان همه الوحيد هو كيفية كسب العيش عن طريق العثور على وظيفة أو مهنة تبعد عنه الفاقة والسؤال، ونظرا لقسوة الحياة وانعدام الفرص الوظيفية آنذاك في الإمارات، اقتدى صاحبنا وقتها بما كان يفعله مواطنوه وهو السفر إلى دول الخليج المجاورة من أجل الكد والعمل.
وعليه كانت وجهة الرجل هي المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية لأسباب كثيرة، منها: قربها النسبي من بلاده، وتشابه العادات والتقاليد واللهجة الدارجة والمناخ، ووجود جالية كبيرة من أبناء الإمارات في المنطقة الشرقية ممن قد يأخذون بيده ويخففون عنه وطأة الغربة.
وهكذا ألقى الرجل برحاله في مدينة الدمام في الخمسينات من القرن العشرين يوم كانت الدمام في بواكير نهضتها. حل العليلي في الدمام وهو صبي يافع في الرابعة عشرة من عمره، وسرعان ما حصل على وظيفة براتب 300 ريال في الشهر (كان المبلغ كبيرا بمقاييس ذلك الزمن ومستوياته المعيشية) لدى أحد أبناء عجمان ممن كانوا قد سبقوه إلى السعودية. كان الأخير يمتلك متجرا لبيع الدراجات الهوائية وأجهزة المذياع والتلفزيون، وكانت لديه ورشة ملحقة لتصليح هذه السلع الحديثة. وبعد فترة وجيزة قضاها في ذلك المتجر بائعاً، انتقل للعمل في الورشة الملحقة التي كان يعمل بها مهندس هندي من مومباي. وهناك أتيح للعليلي أن يتعلم الكثير عن عمل الأجهزة الإلكترونية وكيفية إصلاحها.
وكاد الرجل أن يبقى سنوات أخرى طويلة في عمله فوق السنوات الخمس التي عاشها في الدمام، غير أنه صادف ذات يوم أحد مواطنيه القادمين من عجمان فعرف منه أنّ والدته في شوق وحنين إليه وتخاف أنْ ترحل دون أن تكحل عينيها برؤيته، فحزن كثيرا وعاتب نفسه طويلا، ولم تشرق شمس اليوم التالي إلا وصاحبنا يقرر العودة إلى عجمان لملاقاة والدته وشقيقاته.
وبعد شهرين من المكوث معهم، عاد إلى مقر عمله بالدمام لكنه لم يمكث فيها هذه المرة سوى عام واحد، عاد على أثره إلى عجمان لكي يستقر فيها نهائيا، خصوصا أنّ سبل التواصل مع أهله ووسائل السفر إليهم في زيارات سريعة لم تكن ميسرة كحالها اليوم.
بعد عودته إلى عجمان في نهايات الخمسينات، قام العليلي بتنفيذ مشروع خاص يقتات عليه، حيث افتتح محلا لإصلاح الساعات وأجهزة الراديو. وعلى الرغم من أن السواد الأعظم من الناس آنذاك لم يكن بمقدورهم امتلاك أجهزة مذياع خاصة بهم، ولم تكن مستويات دخولهم تتيح لهم اقتناء الساعات، إلا أن العليلي كان راضيا وقانعا بدخله لأن القلة الممتلكة لمثل هذه الكماليات كانت تقبل على إصلاحها لديه كونه «المُصلّـح» الوحيد آنذاك. يقول ابنه عبدالله حول هذا الموضوع إن والده كان يتقاضى ما بين 20 - 30 روبية لقاء إصلاح الساعات وأجهزة المذياع، وأنه «كان يراعي ظروف البعض الآخر فلا يتقاضى أكثر من 15 روبية».
في هذه الأثناء، كانت هناك فكرة قد اختمرت في رأسه وحلم بتنفيذها في وطنه منذ أن كان في الدمام، دون أن يدري مآلاتها وما ستحققه له من شهرة مدوية. لم تكن تلك الفكرة سوى إطلاق بث إذاعي من عجمان عبر استغلال ما تعلمه من أمور فنية أثناء عمله في الورشة الإلكترونية بالدمام، خصوصا أنه كان في سنوات غربته في السعودية مستمعا دائما لبث المحطات الإذاعية العربية، وكان يتساءل: لماذا لا تكون في عجمان محطة إذاعية مشابهة لما هو موجود في البحرين والكويت مثلا، ترفه عن المواطنين وتمحي أميتهم وتنشر في أوساطهم الخير والمعارف المفيدة.
لم يكن العليلي بعد عودته إلى وطنه متذمرا من انعدام الفرص الوظيفية فحسب وإنما كان أيضا مستاء من ضعف إمكاناته للبدء في مشروعه الإذاعي. غير أنه التقى بقريب له يدعى «سالم عبيد سيف العليلي» واتفقا على أن يتعاونا معا على تنفيذ المشروع، خصوصا أن سالم العليلي كان طالبا آنذاك، ويمتلك ثقافة واسعة في الكثير من الأمور، ويصلح ليكون مذيعا ومقدما للبرامج. أجاب سالم عبيد على سؤال «كيف كانت بداية المسيرة الإعلامية؟» في حواره مع «برديس فارس خليفة» (مصدر سابق) فقال: «في ذلك الوقت لم يكن يوجد شيء اسمه إعلام، ولم يعرف مفهومه إلا بعض التجار والمثقفين والمسافرين، وحتى نحن لم نكن نعرفه، وكنا نسمع إذاعة صوت العرب من القاهرة وإذاعة دلهي وإذاعة من إيران، وعندما تأثرنا بالإذاعات أردنا أن تكون لنا إذاعة خاصة، وكان قريبي من إمارة عجمان «راشد عبدالله بن علي بن حمضة» يعمل في السعودية في مجال التلفزيون والإضاءة والأسلاك وبعض الأجهزة الفنية، وكانت عنده فكرة عنها دوّنها في باله وحفظها، وعندما عاد التقينا، وكان متضايقاً لعدم توافر عمل في ذلك الوقت، وكنت أدرس في المدرسة وعندي ثقافة في الكثير من الأمور، وعرض علي فكرة الإذاعة فبدأنا، رغم عدم توافر الكهرباء والحياة البدائية».
وهكذا راح الرجلان يعملان على مدى شهرين متواصلين مستخدمين أدوات متواضعة مثل راديو قديم وغرامفون وسماعات خشبية بدائية ومجموعة من الأسلاك وبطارية جافة شبيهة ببطاريات السيارات كانا يعيدان شحنها بالطاقة الشمسية والغاز كلما توقفت عن العمل علاوة على هوائي (أريل) بطول 30 مترا تم رفعه وتثبيته بالحبال.
وبعد أن انتهيا من كل شيء بسرية تامة، وأعدا العدة لإطلاق البث من داخل غرفة نوم راشد العليلي، ذهب الأخير في ظهيرة أحد الأيام من عام 1961 إلى مقهى «عبدالله الغملاسي الشعبي» حيث كان شباب ورجالات عجمان يجتمعون للحديث وشرب القهوة والشاي والاستماع إلى الراديو، وقام بتثبيت مؤشر المذياع على تردد إذاعته، وهي تبث بعض المنوعات الغنائية، ليفاجئ الحضور بصوت زميله سالم العليلي وهو يعلن «لا نزال نواصل بث هذه المنوعات من إذاعة عجمان».
للوهلة الأولى، اعتقد جمهور المقهى أن البث هو بث إذاعة الشارقة وأن مذيعها «خلفان المر» أخطأ في القراءة فاستبدل الشارقة بعجمان، لكن راشد راح يشرح لهم أنّ البث هو فعلا من عجمان، بل من منزله، لأنه هو صاحب فكرة الإذاعة. ولأن الأغلبية من جمهور المقهى ظلوا غير مصدقين، فقد قادهم الرجل بنفسه إلى منزله ليقطعوا الشك باليقين.
كانت فرحة أبناء عجمان مواطنيها وشيوخها عظيمة بهذا الإنجاز، لكن موقف الإنجليز كان مغلفا بالشكوك والهواجس في بادئ الأمر، كيلا نقول إنه كان معاديا للإذاعة الوليدة وصاحبها العليلي، بدليل أنّ إذاعتهم المنطلقة من قاعدتهم العسكرية في الشارقة انزعجت من الحدث واستنكرت عدم إبلاغها مسبقا ببث إذاعة عجمان. والدليل الآخر هو ما حصل عندما زار الشيخ حميد بن راشد النعيمي حاكم عجمان السابق -رحمه الله- إذاعة العليلي في منزله. فعلى حين أشاد الحاكم بجهود مواطنه وقدم له الدعم والتشجيع كان مرافقه الضابط الإنجليزي متذمرا وقلقا من احتمال وجود أجهزة إرسال سرية في حوزة العليلي يستخدمها في الاتصال بالجماعات المناوئة للإنجليز في المنطقة، أو يستغلها في التجسس على الإشارات الخاصة بالجيش البريطاني. يقول ابن العليلي (عبدالله) إن الإنجليز فتشوا منزل والده تفتيشا دقيقا وقلبوا حوائجه في غرفة نومه، وفتشوا حتى تحت سريره.
على أنه بعد مضي فترة من الزمن وبعدما تمّ التأكد من أن العليلي ورفيقه لا يخفيان شيئا، زارهما مدير إذاعة صوت الساحل مع كبير مذيعيها إبراهيم الحديدي فاستغربا من ضعف إمكاناتهما وبساطتها فاقترحا على راشد العليلي أن يذهب للدراسة في الخارج لصقل مواهبه بطريقة علمية، لكن الأخير لم يوافق مفضلا البقاء بجانب إذاعته التي كانت تبث لمدة 3 ساعات يوميا وتقدم القرآن الكريم والأحاديث النبوية والمنوعات الغنائية والقصائد النبطية والأهازيج البحرية وخلافها.
قلنا إن إذاعة عجمان الشعبية استمرت تعمل حتى سنة 1965 حينما واجهت بعض المصاعب المالية التي لم تكن إمكانات العليلي المتواضعة قادرة على مواجهتها، فتوقفت، علما أن صاحبها أنفق عليها الكثير من ماله ووقته، ناهيك عن أن بعض المواطنين ساهموا في دعمها من خلال تزويدها بالمواد التسجيلية، أو من خلال القيام بحملة لجمع التبرعات لها على نحو ما فعلته مواطنة متحمسة تدعى «مطيرة» بمساعدة الطالب في مدرسة الراشدية آنذاك «سالم راشد بن تريس القمزي». وبعد أن أغلق راشد إذاعته ظلت أجهزتها مهملة في بيته إلى أن تم نقلها لعرضها في متحف عجمان.
وخلال السنوات الأربع من عمر هذه الوسيلة الإعلامية المبكرة كان «سالم عبيد سيف العليلي»، الذي بدأ في إجراء تجارب البث الأولى، هو المذيع الذي يفتتح البث اليومي ويقدم برنامج «ما يطلبه المستمعون» وفقرة المنوعات الغنائية. وكان الفلسطيني جودت عايش البرغوثي، وهو من قدامى معلمي مدرسة الراشدية منذ تأسيسها سنة 1958، يقدم البرامج الأدبية والتوجيهات التربوية وأخبار الحاكم. وكانت القصائد الشعرية من إلقاء الشاعر حمد خليفة بوشهاب، بينما رواية الشعر الشعبي كانت من نصيب عمران بن سلطان بن مرداس. أما المواعظ والبرامج الدينية فكان يقدمها الشيخ محمد التندي. ومن المساهمين أيضا الفنان عيد الفرج الذي كان يقدم الأناشيد الحماسية حينما كان طالبا.
علاوة على ما سبق كانت الإذاعة تبث أسبوعيا خطبة الجمعة التي كان يلقيها إمام جامع عجمان الضرير ومعلم القرآن المطوع خلفان بن حميد بن عيسى، حيث كان راشد بن حمضة يسجل الخطبة ظهرا ويذيعها مساء. كما كانت الإذاعة تقرأ رسائل المستمعين واقتراحاتهم التي كانت تصل إلى مقر الإذاعة في بيت العليلي باليد وقرع الباب، وكانت تقدم أيضا برنامجاً للتكافل الاجتماعي؛ مثل المنازل التي تحترق، لأن البيوت كانت تصنع من جريد النخيل، أو أخبار البحر، كغرق سفينة لأحد المواطنين، فكان المستمعون يبادرون بالمساعدة والتبرع.
لكن ما ذا حدث لراشد العليلي بعد أن أغلق إذاعته؟
تزوج من إحدى مواطناته، وراح يبحث عن عمل. ولأنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة فلم يعثر سوى على وظيفة «مراسل» بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فقبل بها وأمضى فيها 23 عاما من عمره إلى أن تقاعد. وبعد تقاعده افتتح محلا لبيع الملابس الرجالية، كان يجتمع فيه مع أصدقائه القدامى للدردشة واجترار ذكريات الماضي. واستمر على هذه الحال إلى أن انتقل رحمه الله إلى جوار ربه.
أخبرنا المؤرخ الإماراتي الصديق الدكتور عبدالله الطابور، في مقال له بجريدة الخليج الإماراتية (24/8/2011) ما مفاده أن الإنجليز -في مسعى منهم لمنع المساعدات العربية عن إمارات الساحل المتصالح، وقطع تواصل أبنائها مع الإذاعات العربية- بادروا إلى افتتاح محطة للبث الإذاعي كانت هي المحطة الرسمية الأولى في تاريخ الإمارات. هذه الإذاعة بدأت البث في عام 1962 انطلاقا من «المرقاب» بالقاعدة البريطانية في الشارقة التي كانت تُـعرف عند العامة باسم «المحطة»، التي تأسست في البدء مهبطاً للطيران الملكي البريطاني في عام 1932، علما أن أول جهاز راديو دخل الإمارات أحضره المدير الإنجليزي لمحطة مطار الشارقة (السيد جيمس) سنة 1934، وحينذاك دعا الأخير كلا من عبداللطيف السركال وابنه ناصر للاستماع للجهاز العجيب في استراحة المطار بحضور «خان صاحب حسين» الملقب بعماد الدولة البريطانية (انظر كتاب «الإمارات في ذاكرة أبنائها» للباحث عبدالله عبدالرحمن/ ندوة الثقافة والعلوم/ دبي/1998).
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين