تحقيقات

«العصملي الجديد».. ما الذي يبحث عنه في إمبراطورية «الأجداد»؟

«عكاظ» تنبش الحقائق المُغيبة عن تاريخ «بني أوتمان»

تحقيق: خالد عباس طاشكندي Khalid_Tashkndi@

في مناسبات سياسية مهمة ردد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شعارات تنادي بعودة الإمبراطورية العثمانية، وكان من أشهرها الخطاب الذي ألقاه أواخر شهر سبتمبر للعام 2009 أمام الهيئة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة، وقال في خطابه: «على تل أبيب أن تعلم أنني لست زعيم دولة عادية، بل زعيم أحفاد العثمانيين»، وفي الانتخابات التركية الأخيرة ردد أردوغان مقولة: «نحن العثمانيون الجدد أحفاد العثمانيين»، وهدد الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية دعمها لحزب الـ «بي كيه كيه» الكردي، وندد بذلك التحالف في منتصف فبراير 2018، قائلاً: «إن تركيا تمتلك الصفعة العثمانية الشهيرة»، وقبل إطلاق ذلك التهديد بأيام أشار الرئيس التركي في كلمة ألقاها أثناء مشاركته في الذكرى المئوية لوفاة السلطان عبدالحميد الثاني إلى أن بلاده تمثل امتدادا للإمبراطورية العثمانية، مضيفا: «هناك من يعمل بإصرار على أن يبدأ تاريخ تركيا من 1923 - تاريخ تأسيس الجمهورية التركية- وهناك من يبذل قصارى جهده لانتزاعنا من جذورنا وقيمنا العريقة».

هذه المقولات بلا شك، ما هي إلا امتداد لما يردده حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا خلال السنوات القليلة الماضية والتي تعكس تنامي الشعارات التي تتفاخر وتذكر وتنادي بعودة العثمانية، والمضي قدما في بناء قاعدة مصالح آيديولوجية مع جماعة الإخوان وربطها بتوجه يهدف إلى إعادة إنتاج الدولة العثمانية وادعاءات «الخلافة»، وهو ما يثير التساؤلات حول مدى انعكاس هذه الشعارات على تحول حقيقي في اتجاهات سياسات الجمهورية التركية والانتقال من طابعها البراغماتي إلى بناء آيديولوجية تحمل في طياتها إستراتيجيات فعلية لتحويل بوصلة سياساتها الخارجية تجاه الشرق في ظل تقلص فرص انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وتمهيداً لإعادة العثمانية في نسخة مطورة تمزج ما بين العلمانية والإسلام الحركي، وإغراء الشارع التركي والعربي بجذورها الإسلامية عبر الحملات الدعائية الضخمة في وسائل الإعلام وعبر المسلسلات التاريخية التي حبكت سيناريوهات مضللة لتلميع صورتها وتغييب المجتمعات العربية والإسلامية والأجيال الناشئة عن ما حوى التاريخ في طياته من جوانب مظلمة وحقائق مفزعة فرض من خلالها العثمانيون الأوائل هيمنتهم على العالم العربي، وقوضت إمكاناته، واعتدت على ممتلكاته وموارده، وتسلطت عليه بالحديد والنار.. من هذا المنطلق تعيد «عكاظ» التنقيب في جذور الحقبة التاريخية للعثمانيين منذ النشأة وحتى السقوط، في محاولة لنفض الغبار عن تلك الحقبة حتى يتجلى أمام القارئ معرفة الكثير من الحقائق عن ذلك الماضي الذي يسعى أردوغان وحزبه إلى استعادته.

«العثمانية الجديدة» نظرياً

اليونانيون كانوا أول من أطلق لقب «العثمانية الجديدة» على جمهورية تركيا إبان الغزو التركي لجزيرة قبرص عام 1974 في أعقاب انقلاب عسكري، فيما يعد أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي السابق والرئيس الثاني لحزب العدالة والتنمية أحد أهم المنظرين لمصطلح «العثمانيون الجدد»، وبالرغم أن حزبه استنكر هذا التوصيف في فترات سابقة تجنباً لاتهامات معاداة العلمانية، إلا أن أوغلو أقر به ونظَّر له في أكثر من كتاب وسلسلة من المقالات، ما يبرهن على وجود توجه ما نحو إعادة إحياء العثمانية.

وقال أوغلو خلال لقاء مع نواب «العدالة والتنمية» في نوفمبر 2009 «إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية، إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد.. نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا.. نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا, والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب».

ومن أبرز مؤلفات أوغلو التي تناول من خلالها تنظيراته حول العثمانية الجديدة، كتاب «العمق الإستراتيجي: موقع تركيا العالمي» الصادر عام 2001، وأضحى مرجعاً عملياً لسياسة تركيا الخارجية في الوقت الراهن، إذ يحتوي على مناقشات عميقة حول موقع تركيا الحالي وموقعها المثالي الذي ينشده لبلاده من خلال التطلع إلى دمج الجمهورية التركية بموقع الدولة العثمانية القديم جغرافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا وحضاريا، ومن هذا المنطلق طرح خططاً نظرية وتطبيقية لإعادة التاريخ العثماني إلى تركيا، وبالرغم من المفاهيم «الناعمة» التي أوضحها أوغلو في مؤلفه حول «العثمانية الجديدة»، إلا أن محصلة الطرح تكشف بوضوح عن آيديولوجية سياسية تسوق في ظاهرها المعلن برؤى فضفاضة، وتهدف غاياتها غير المعلنة إلى نزعة سلطوية على المناطق التي كانت مسبقاً تحت الحكم العثماني.

وفي أكتوبر 2010 نشرت مجلة «شرق نامة» الصادرة عن مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية، مقالاً كتبه أحمد داوود أوغلو أو نقل عنه، وتطرق من خلاله إلى ملامح هذه «العثمانية الجديدة»، من خلال مبادئ أساسية تسهم في تحقيقها، من أهمها مبدأ التأثير في دول الجوار عبر «الأسلمة» و«العثمنة»، ونهج سياسة خارجية متعددة الأبعاد، إضافة إلى اتخاد نهج دبلوماسي جديد يستغل سقوط الآيديولوجية الاشتراكية والخطاب القومي العربي لتقوية توظيف الخطاب الإسلامي كبعد سياسي مؤثر في العلاقة المنشودة مع دول العالم العربي، ومن هنا تتضح أمامنا دوافع الاهتمام والنشاط التركي المتنامي في الشرق الأوسط منذ اندلاع ثورات الربيع العربي ومبادئ العثمانية الجديدة من حيث الدوافع والرؤية والأهداف والمنهجية، وهو ما يفرض علينا مراجعة الكثير من التفاصيل حول التاريخ العثماني، لنستدرك طبيعة «العثمنة» و«الأسلمة» التي تسعى تركيا للتأثير بها على الشرق الأوسط.

جذور النشأة.. الحقائق والأساطير

اختلفت المراجع التاريخية حول منشأ ونسب العثمانيين وأصولهم الإثنية العرقية وتاريخهم في بدايات نشأة الدولة العثمانية، إذ تعد غامضة وغير معروفة، لأنها في مراحل تكونها الأولى في عهد الغازي أرطغرل وابنه عثمان أو «أوتمان»، لم تكن معروفة ولم تحظ باهتمام المؤرخين، ولم يكتب عن تاريخها إلا في أزمنة متأخرة، ولذلك اختلط تاريخهم الحقيقي بالكثير من الخرافات والأساطير والقصص المختلقة.

ولذلك يقول أستاذ التاريخ الدكتور أحمد عبدالكريم في تقديمه لكتاب المؤرخ التركي محمد فؤاد كوبريلي «قيام الدولة العثمانية» «إن المستقبل الذي وصلت إليه الإمبراطورية العثمانية بعد أن كانت إمارة صغيرة على حدود بيزنطة أبهر أصحاب القصص وكتاب الحوليات، فنسجوا حول تاريخها الأول ومؤسسيها القصص والأساطير، حتى اختلطت الأسطورة بالتاريخ، فكان على المؤرخين أن يستخلصوا الحقيقة التاريخية من بين ثنايا الروايات والأساطير المختلقة، وإعادة بناء وترميم التاريخ العثماني على حقيقته، وهو أمر ليس باليسير في ظل الكم الهائل من الأساطير، والتي غالبيتها غير دقيقة علمياً وغير مؤكدة، ولا يمكن أن تصل إلى الجزم بصحتها، ويشوبها الكثير من الخلط، بل وصلت حد الافتراءات، خاصة من قبل المتعصبين للدولة العثمانية وأعدائها أيضاً، فالبعض وصل إلى حد نسب آل عثمان إلى الرسول الكريم، وهي افتراءات لا أساس لها، وآخرون ادعوا أن العثمانيين لم يدخلوا الإسلام لفترات طويلة بعد تأسيس دولتهم، وهذا أيضاً غير صحيح، إضافة إلى سعي بعض السلاطين العثمانيين إلى اختلاق الأنساب لرفع شأن العشيرة التي ينتمون إليها». واختلف المؤرخون حول اسم مؤسس الدولة العثمانية، فيقول المُؤرخ الدكتور «لاوند قياينار» المتخصص بالدراسات البيزنطية إن الاسم الأصلي لمؤسس السلالة العثمانية كان في الواقع «أوتمان» وليس عثمان، لأن اسم والد عثمان وإخوته: «سارو، وباطو صاووجي بك، وغندوز ألب» وأعمامه: «دوندار، وسونغور تكين باي»، لم يحمل أياً منهم أسماء عربية إسلامية، فلماذا يكون هو فريدا بين جميع أفراد أسرته، مستنداً في رأيه على كتابات المؤرخ الرومي جرجس باخيمرس الذي عاصر عهد عثمان الأول، ولم يذكر بداية اسمه بِحروف تماثل العين العربية، وأورده باللاتينية على أنه «Ottomanus»، ولذلك يقول المؤرخ التركي كوبريلي «إن مشكلة قيام الدولة العثمانية بقيت مختلطة بالأساطير ولم تحل حلا نهائياً».

ولتوضيح التعقيدات التاريخية التي نشأت في طياتها الإمارة العثمانية، نبدأ من الانتصار الذي حققه السلاجقة في معركة «ملاذ كرد» عام 1071م على البيزنطيين، والذي أدى إلى انفتاح البوابة الشرقية للأناضول أمام هجرة الكثير من العشائر التركية المختلفة القادمة من آسيا الوسطى، مثل «القارلوق» وهم من البدو الرحل القادمين من غرب جبال آلتاي، و«القبجاق» هم خليط من القبائل المستوطنة في سهول أوراسيا، واستقر البعض منها في أماكن عدة في أوروبا من بينها رومانيا والمجر. (تاريخ الدولة العثمانية، يلماز أزوتونا، ص 31-38)، وكذلك قبائل «الغز» التركمانية وهم أصل السلاجقة، ثم مع انطلاق الحملة الصليبية الثانية، انتصرت أسرة كومنين البيزنطية على السلاجقة، فدفع الكومنيون بقبائل تركية من «الغز» و«البجنك» المقيمة في البلقان وهم خليط من النصارى والوثنيين المانويين والشامانيين وكانوا جنوداً مرتزقة في الجيوش البيزنطية إلى الهجرة والاستيطان في شمال وغرب الأناضول لأغراض دفاعية، وهناك التقوا مع أبناء عمومتهم وإخوتهم من القبائل التركية القادمة من شرق الأناضول، ثم في أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر زحفت القبائل المغولية تجاه الأناضول، واستوطنت أيضاً هناك بعد الانتصار على السلاجقة في معركة «الجبل الأقرع» عام 1243م، وفي هذا الأمر يقول المؤرخ التركي زكي طوكان إنه مع دخول المغول إلى الأناضول انتقلت معهم أيضاً طوائف من الفرس كانت تعمل في خدمة الغزاة، وفي وسط هذا الخليط من القوميات المهاجرة، ظهر العثمانيون في منطقة «إسكي شهر» شمال غرب الأناضول، على حدود التماس بين دولة بيزنطة والسلاجقة، ومع اضمحلال دولة السلاجقة برز العثمانيون وبدأوا بالتوسع من إمارة صغيرة إلى دولة تزاحم نحو 16 دولة نشأت على امتداد غرب الأناضول، وقدر لها أن تتحول إلى إمبراطورية تحكم شعوبا ومللا مختلفة لنحو 623 عاما (من 1299 إلى 1922م).

وتوصل علماء التاريخ إلى استنتاجات ونظريات عدة حول نشأة العثمانيين وأصلهم، ويأتي في مقدمتها نظرية المؤرخ الأمريكي هربرت جيبونز، وهي من أكثر الآراء العلمية السائدة بين علماء التركيات في المراجع، وتقول إن أرطغرل كان يرأس عشيرة صغيرة وفدت إلى الأناضول في عهد السلطان السلجوقي علاء الدين فارة من خوارزم أمام زحف جنكيز خان، واستقرت في منطقة «سكود» شمال غرب الأناضول، وكانت العشيرة على الوثنية، وفي طور البداوة من حيث المقياس الحضاري، ووظيفتهم الأساسية هي الرعي والتنقل من مكان لآخر في سبيل كسب الرزق، وأنهم دخلوا إلى الإسلام لأنهم عاشوا في بيئة إسلامية بالقرب من أبناء جلدتهم الأتراك السلاجقة، ثم أرغموا لاحقاً جيرانهم الإغريق الذين كانوا يعيشون معهم في صداقة على الدخول في حوزة الإسلام، ولم يكن تحت إمرة عثمان بن أرطغرل آنذاك سوى نحو أربعمائة محارب يقيمون في دورهم ويزاولون حياة وادعة، ومن ثم تضاعفت أعداد العثمانين ما بين 1290 و1300م، وامتدت حدودهم حتى تداخلت مع حدود البيزنطيين، وأدى ذلك لظهور جنس جديد، هو الجنس العثماني، وكان جنسا مختلطا ناشئا عن ذوبان العناصر الأصلية، وقوامه الأتراك والوثنيون والإغريق والمسيحيون، وأشار جيبونز إلى أن عثمان دخل الإسلام وقبيلته من بعده، فيما يؤيد المؤرخ التركي كوبريلي أن أرطغرل كان وثنياً، وأن العشيرة العثمانية دخلت الإسلام لاحقاً في عهد المؤسس عثمان.

وهناك أيضاً استنتاج آخر لاقى رواجاً كبيراً في المراجع التاريخية، للمؤرخ النمساوي بول ويتيك الذي توصل إلى أن العثمانيين الأوائل لا يمكن أن يكونوا متجانسين قبلياً، وإلا لكان عندهم نسب ثابت بإمكانهم إظهاره، مبيناً أن بيئة الغزو وروحيته كانت أساسية في ظهور تلك الإمارات التي نشأت في ذلك الوقت، ولاحقاً نجحت الدولة العثمانية في السيطرة على الآخرين المحيطين بها، وبالنسبة له فإن التاريخ السياسي لمناطق التخوم التي تموضع فيها العثمانيون صُنع من قبل مجموعات من الغزاة، انتشروا في مناطق الحدود ومع زوال السلطة السلجوقية كونوا إمارات طامحة ومن بينها المجموعة التي قادها الغازي عثمان، والتي كتب لها النجاح بسبب موقعها الموفق.

أما الاستنتاج الثالث، وهو الشائع بين الكثيرين من المؤرخين «الأتراك»، ومنهم كوبريلي، وهو أن العنصر الذي أنجب عثمان الذي يعتبر النواة الأولى للدولة العثمانية هو عنصر «غزي» أي تركماني الأصل، وأوضح كوبريلي أن بعض المصادر المجهولة المؤلف مثل «تواريخ آل عثمان» وكتابا عاشق باشا زاده وأوروج بك، أشارت فقط إلى أن العثمانيين يعودون إلى الغز دون تحديد إلى أي قبيلة من قبائل الغز ينتمون، فيما حددت مصادر أخرى بأنهم ينتمون إلى قبيلة «قايي» مثل كتاب «سلجوقنامه» لمؤلفه يازجي أوغلي والصادر في عهد مراد الثاني، ولذلك يرى كوبريلي أنهم بطن من بطون السلاجقة، وأنهم وفدوا معهم إلى الأناضول، مضيفاً أن القول بأن الحكام العثمانيين نسبوا أنفسهم إلى «قايي» لأهميتها بين قبائل الغز ولرفع شأن نسبهم غير صحيح، مبيناً أن الروايات الغزية تؤكد أن أكثر الحكام أتوا من قبيلة سالور وقبيلة قنق، وأنه من العبث وضع نسب كاذب في عهد مراد الثاني باعتبار أن التقاليد العشائرية القديمة لم تكن قد نسيت في ذلك الوقت. ولكن مع تقديرنا لفرضية كوبريلي إلا أنه من الاستحالة في ذلك الزمن أن يجرؤ أي شخص على تكذيب السلطان مراد، كما أن ذلك الاستنتاج قابله رأي مناقض من قبل المؤرخ الألماني ماركوارت الذي يؤكد أن عثمان

ينتمي إلى «قاي» المغولية وليست «قايي» التركية، ويتفق معه في ذلك عدد من المؤرخين في أن أصل العثمانيين يعود إلى العرق المغولي ومن أبرزهم المؤرخ القلقشندي، كما يرجح واقع بعض المورثات في العهد العثماني أنهم من المغول.

فيما تشير رواية شائعة خصوصاً أنها عرضت في المسلسل الشهير «قيامة أرطغرل» بأن عثمان بن أرطغرل هو حفيد «سليمان شاه» الذي أسس سلالة سلاجقة الروم ومات غرقاً أثناء عبوره نهر الفرات، ولكن هذه الرواية ليست فقط ضعيفة وغير موثقة، بل أكدت الكثير من المصادر أنها مغلوطة تماماً بإجماع الكثير ومن أبرزهم المؤرخ التركي يلماز أوزتونا الذي يرى بأن جد عثمان يدعى «قندز ألب»، وأن الادعاء بأن جده «سليمان شاه» ربما نشأ بدافع الربط بين بني عثمان وبني سلجوق، لإعلاء شأنهم، وعلى الرغم من ثبوت وجود أرطغرل تاريخياً عن طريق عملات معدنية يعتقد أنها من عهد ابنه عثمان وحدد فيها اسم والده بـ «أرطغرل»، إلا أنه لا يوجد أي شيء آخر معروف على وجه اليقين بخصوص حياته.

الإسلام في الدولة العثمانية

حين اعتنقت الأقوام التركية التي نشأت عليها الدولة العثمانية الإسلام، لم تكن الغالبية منهم تفهم حقيقة التوحيد، إنما أسلموا إسلاماً شابه كثير من المعتقدات التي توارثوها عن أجدادهم وهي خليط من معتقدات وثنية وبوذية، من أبرزها «الشامانية» و«المانوية» و«البرهمية»، وقد أكد علماء التاريخ أن القوميات التركية المختلفة اعتنقوا ديناً بعد دين عبر تاريخهم، وكلما استبدلوا دينهم حملوا معهم جل آثاره وركنوها إلى دين آخر، وخلطوا هذا بذاك، فتقلبوا هكذا في أمواج الديانات والمعتقدات حتى وجدوا أنفسهم في رحاب الإسلام، ولم يكن تعاملهم مع الإسلام مختلفاً، فحملوا جماً من معتقداتهم الوثنية ودخلوا بها إلى الإسلام. (التصوف وآثاره في تركيا، حنان المعبدي، ص 62).

وكان الأتراك يعتقدون في رهبانهم أنهم ينفعون ويضرون من دون الله، ويشفعون لهم عند الأرواح الإلهية المهيمنة ويتصرّفون عنها في الكون، وكذلك كانوا يتأملون ويتفكرون في حكمة الله على أساليب الديانة البوذية والبرهمية، فما كان منهم إلاّ أن استحدثوا طرقاً «صوفية» ورتبوا لها آداباً وأوراداً وأذكاراً مزجوا فيها بين أمور أخذوها من الإسلام، مثل كلمة التوحيد، واسم الجلالة، والتحميد، والتسبيح، والتكبير.. وأخرى ورثوها من دياناتهم السابقة من الشامانية والبوذية والزرادشتية والمزدكية والمانوية. (كتاب الطريقة النقشبندية بين ماضيها وحاضرها، فريد الدين آيدن).

وبين المؤرخ التركي آيدن أن من أهم أسباب انتشار النزعات التصوفية في بلاد الأتراك هو جهلهم بلغة القرآن، وأنهم تلقوا الضرورات من الدين عن طريق الترجمة في الخطوة الأولى من إسلامهم، مشيراً إلى عدم ما معرفة ما إذا كانت الترجمة في ذلك الوقت وافية لأداء مهمة التبليغ والقيام بأعمال التعليم، وإلى جانب هذا، فإن الأتراك يختلفون عن جميع المجتمعات بموقفهم السلبي من اللغات الأجنبية؛ فتجاوز الأمر إلى لغتهم؛ حتى أصبحت هي نفسها بعد إهمالهم إياها وتلاعبهم بها عرضة لنكبات الدهر، ولا يزالون يعانون شتات شملها إلى اليوم، وربما يرجع سبب هذا الموقف إلى كثرة تفاخرهم بأمجادهم وتشاغلهم بذكريات أيامِ عزهم بصورة دائمة قد جعلهم يحتقرون بقية الشعوب وما يميزها عنهم من صفات القومية كاللغة والدين وبعض التقاليد، وهذا الموقف هو الذي جعلهم لا يهتمون باللغة العربية؛ ما عدا قِلَّة من علمائهم الّذين اقتصروا على حفظ قواعد الصرف والنحو، فاتخذوا العربية لغة القراءة لنصوص الدين فحسب، دون الكتابة والحوار، ويجري تسميتها بـ «لغة القرآن» على لسان المعتـزين منهم بالإسلام تناسيا لصلتها الخاصة بالشعب العربي، وأسفر عن هذا الشعور نتيجة غريبة وهي أن أكثر المقرين منهم بالانتماء الإسلامي يقدسون اللغة العربية فلا يرون من السهل مزاولتها، أو من الأمور الجائزة لغير رجال الدين، ولهذا قام بعض الجهلة منهم المنتحلون سمة العلم، فتصدوا للعبث بمسائل الدين واختلقوا أنواعاً من البدع، فانتشرت بسهولة، لجهل المجتمع بلغة القرآن، لأنّه لم ينتبه كثير من الناس إلى أن هذه الأمور المستحدثة لا تمت بصلة إلى الإسلام، أو أنها مستورثة من معتقدات وثنية وغيرها من أديانهم السابقة، فزادت هذه الخزعبلات انتشاراً، وازداد الناس إقبالاً عليها إلى أن استغلّها بعض الصوفيّة، فوجدوا فيها ضالتهم، ورتبوا على أساسها طرقاً ومذاهب شتّى مثل البكتاشية، والبنجرية، والبيرمية، والحروفية، والخفيفية، والخلوتية، والجراحية، والكُلْشنية، والروشنية، ممّا هي جميعا من صنع الأتراك كما يبدو من أسمائها التركية. (كتاب الطريقة النقشبندية، فريد الدين آيدن، ص 14-17).

وقد ذكرت المصادر أن عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية أحاط نفسه برجال الطريقة الصوفية الآخية، وكان حريصاً على زيارة الشيخ أده بالي والتعلم منه، ووثق صلته منه بأن تزوج ابنته، ثم ولاه منصب الإفتاء، وبعد وفاته استخلف عليه الشيخ طورسون فقيه. (الشقائق النعمانية، ص7).

أما أورخان بن عثمان، ثاني السلاطين العثمانيين، فقد ارتبط بالشيخ الصوفي كييكلي بابا وهو من شيوخ الطريقة القلندرية الوفائية، وتشير وثيقة في أرشيف رئاسة الوزراء التركية إلى أن مريدي الشيخ كييكلي من القلندرية قد ساعدوا السلطان أورخان في حروبه، فلذلك لقي تعظيما، وكانت عطاياه تأتيهم، ومن المثير جداً في الوثيقة التركية أن السلطان أورخان أهدى إلى الشيخ كييكلي بعض ما يتعاطاه القلندرية من الخمور، معللاً ذلك بقوله: «إن كييكلي بابا مدمن عليها». (كتاب القلندرية، محمد القونوي، ص 123). وفي هذا الصدد يقول المؤرخ كوبريلي إن هذا التحالف بين الدولة العثمانية الناشئة وطوائف القلندرية والآخية جاء نتيجة لجهل السلاطين العثمانيين بالمسائل العقائدية في بدء تأسيس دولتهم. (الإسلام في الأناضول، ص63).

وكان السلطان مراد الأول معتنقاً للطريقة الآخية، بل أكدت الوثائق التاريخية أنه كان رئيساً عليها وهو الذي كان يعطي العهد فيها، إذ ثبت في وقفية السلطان مراد المؤرخة بتاريخ مارس 1366م أنه لقب بـ «ملك المشايخ مراد الغازي»، فيما اتبع السلطان مراد الثاني الطريقة البيرامية وتقرب إلى شيخها حاجي بيرام وهو أحد دراويش الملامية ومن القائلين بـ «وحدة الوجود»، وأظهر له مراد الثاني حين استقبله في قصره الاحترام والتبجيل وأعطى تعليماته لمن حوله بخدمته، وقال السلطان للشيخ بيرام: «لتجعلني عبداً لك»، كما أصدر قراراً بإعفائه وكل المنتسبين له من الضرائب، وهو ما دفع الكثير من الأهالي إلى اعتناق الطريقة البيرامية. (التصوف وآثاره في تركيا، حنان المعبدي، ص 68-70)، وتعقيباً على ذلك، قال المؤرخ التركي خليل أنالجيك إن الهدف من ذلك كان خطوة مدروسة لتوسيع نفوذه وسط الشعب (تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ص 290).

وعهد السلطان مراد الثاني بتربية ابنه محمد الفاتح إلى الشيخ آق شمس الدين وهو أيضاً من مشايخ الطريقة البيرامية، وكان السلطان بايزيد الثاني متصوفاً ويزور التكايا الصوفية باستمرار، حتى أنه اشتهر بلقب «بايزيد الصوفي». وانتسب السلطان سليم الأول إلى الصوفية «الخلوتية» على الطريقة السنبلية نسبة إلى مبتدعها الشيخ سنبل سنان، وقد ذكر عن سليم الأول أنه كان مؤمناً بوحدة الوجود وهي فلسفة تدعي بأن الله والطبيعة حقيقة واحدة. (تاريخ الدولة العثمانية، يلماز أزوتونا، 238).

وكان السلطان سليمان القانوني مهتماً بالتكايا الصوفية في بنائها وتطويرها، كما جدد أضرحة لكبار رجال التصوف مثل عبدالقادر الجيلاني وجلال الدين الرومي وغيرهما، أما السلطان أحمد فقد تصوف على الطريقة الخلوتية وتقرب إلى أحد مشايخها وهو عزيز خداي، وكان منتظماً في مجلسه ويقبل يده عند تحصيل الدعاء.

فيما اعتنقت قيادات الجيش «الانكشاري»، وهي قوات مشاة من النخبة بالجيش العثماني، الطريقة «البكتاشية» وهي طريقة صوفية شيعية كانت منتشرة في الأناضول وتنسب إلى الحاج بكتاش ولي، وتعاليمها مستمدة من تعاليم الشيعة الاثني عشرية وتعاليم الطريقة القلندرية، وتحتوي على خليط من الموروثات الوثنية والمعتقدات الخاطئة مثل الإقرار بوحدة الوجود وتناسخ الأرواح والعديد من الخرافات، كما أن الطريقة البكتاشية تسمح للنصارى بالانضمام إليها مع احتفاظهم بملتهم، وكان شيوخ «البكتاشية» يقدسون أضرحة القديسين، ويقدمون النذور لهم. (أوجه الموافقة بين النصارى والبكتاشية في تاريخ الدولة العثمانية، ص 298)، ولا يصومون في رمضان سوى 3 أيام، ولا يعد شرب الخمر محرماً لمتبعي الطريقة البكتاشية.

وعلى هذا المنوال، استمر انتشار التصوف بين السلاطين حتى نهاية الدولة العثمانية، فقد كان عبدالحميد الثاني آخر السلاطين من المتصوفين على الطريقة الرفاعية، وتقرب إلى أبرز مشايخها في عهده وهو الشيخ أبو الهدى الصيادي.

ولذلك، فإن الإسلام الذي نشأ بين الأهالي وجميع سلاطين آل عثمان كان على الشكل «الهرطقي»، أي أنه يختلط في جانب منه بالخرافات والأباطيل وبالعديد من البدع التي أدخلت على المنظومة الأساسية للعقيدة بسبب الثقافة الشفوية المتوارثة من المعتقدات والتقاليد القديمة، ويتمثل هذا في الطريقة القلندرية والطريقة البكتاشية (الشيعية) منذ نشأة الدولة، ثم جاءت العلوية وانتشرت ابتداء من القرن السادس عشر، أما المؤسسات الرسمية للدولة العثمانية كالقضاء والتعليم التي تطبق الإسلام الرشيد المبني على أسس وأحكام فقهية للإسلام السني الحنفي، فقد احتوت أيضاً على قدر من الثقافات الدينية والاجتماعية القديمة وتقوم على التفسير الصوفي، خصوصا حول قدسية الأولياء. (الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، أكمل الدين أوغلو، ص158-159).

لا يحجون إلى بيت الله

لا شك أن المعتقدات التي نشأ عليها المجتمع العثماني بشكل عام وسلاطين آل عثمان على وجه الخصوص، كانت لها آثار سلبية وخطيرة على صحة العقيدة الإسلامية لديهم، ومن بين هذه السلبيات ما تم تداوله كثيراً حول عدم أداء جميع السلاطين العثمانيين لفريضة الحج عدا الأمير جم ابن السلطان محمد الفاتح الذي أدى الفريضة بعد هروبه إلى مصر ليحتمي بالسلطان المملوكي قايتباي خوفاً من أن يقتل على يد أخيه بايزيد بسبب النزاع على الحكم، وقدم الباحث التركي محمد مقصود أغلو دراسة أوضح فيها أن أسباب عدم ذهاب السلاطين إلى الحج يعود إلى بعد المسافة، وإلى احتمالية عدم الاستقرار السياسي في غيابهم، إضافة إلى أن مشاغل الحكم والمعارك التي خاضوها كانت عاملاً في ذلك، كما تعلل بعض المؤرخين بأن الكثير من الخلفاء والحكام المسلمين لم يذهبوا إلى الحج عندما تسنموا الحكم.

ولكن الحجج والمبررات التي ساقها الباحث التركي مقصود أوغلو لم تكن كافية للجزم بصحة المبررات لاعتبارات مهمة، إذ أورد الباحث الكويتي المتخصص في التاريخ العثماني الدكتور سلطان الأصقه من خلال محاضرة له العام الماضي 2018 بعنوان «استقراء تاريخي لموقف الدولة العثمانية من عقيدة أهل السنة» تساؤلات عدة، من بينها أن الكثير من السلاطين العثمانيين تسنموا الحكم بعد سن الخمسين، فلماذا لم يؤدوا الفريضة قبل ذلك، مشيراً إلى أن المؤرخ التركي يلماز أزوتونا أكد أن جميع العثمانيين من سلاطين وأمراء وأميرات لم يؤدوا فريضة الحج، وأشار الدكتور الأصقه إلى أن السلطان سليم الأول وابنه سليمان القانوني اهتما بزيارة قبر ابن عربي في دمشق وأحيياه بعد خرابه، وكذلك قبر أبي حنيفة والشيخ عبدالقادر الجيلاني في بغداد.

وزار سليمان القانوني النجف وكربلاء عام 941هـ، وزار السلطان سليم الأول القاهرة ومكث فيها نحو شهر، وحضر الاحتفال الذي يُقام في مصر سنويا بمناسبة فتح الخليج الناصري عند بلوغ النيل الدرجة الكافية لريّ الأراضي المصرية، ومع ذلك لم يزوروا مكة المكرمة ولا المدينة المنورة. وكذلك زار السلطان مراد مدينة النجف عام 1047هـ (1638)، ويذكر الشيخ النوري في «دار السلام» (ص 181)، والشيخ جعفر محبوبة في «ماضي النجف وحاضرها» (ص 149)، أن السلطان لما جاء للزيارة كان معه وزير شيعي، فلما رأى القبة الشريفة ترجل عن صهوة جواده، فسأله السلطان: لم ترجلت؟ فقال: هو أحد الخلفاء الراشدين نزلتُ تعظيماً له، وعندما قرر السلطان مراد أن يترجل عن حصانه، علق أحد الحاضرين في المكان قائلاً: احترام الحي أولى من احترام الميت، فأمر السلطان بضرب عنقه لأنه عذله على ترجله.

وكذلك زار السلطان عبدالعزيز مصر عام 1863 في زيارة استغرقت 11 يوما جاب خلالها السلطان العثماني مصر، إذ وصل إلى الإسكندرية في 7 أبريل 1863، واستهل برنامج زيارته بالقاهرة، واستقر فيها بقصر الجوهرة في القلعة، وكان أول ما زاره السلطان في القاهرة هو مسجد محمد علي باشا وضريحه، وتقديم الهدايا لعقيلات الأسرة العلوية، واختتمها بزيارة الأهرامات يوم الثلاثاء 14 أبريل من العام نفسه، قبل أن يتوجه مرة أخرى إلى الإسكندرية. كما زار السلطان عبدالعزيز أوروبا عام 1867، وبدأ زيارته بفرنسا بناء على دعوة من الإمبراطور نابليون الثالث، حيث شارك في افتتاح المعرض العالمي لعام 1867 في باريس كضيف الشرف، ثم ذهب إلى لندن وفيينا حيث زار القصور والمتاحف.

وبالتمعن في بحث هذه المسألة، نجد أن انتشار المعتقدات الصوفية السائدة بين الطبقات الشعبية والحكام العثمانيين والتي ذكرت في كتاب شهير أشير له في «الدرر السنية» وهو كتاب «حج المشاهد» الذي يقدم بعضاً من الدلالات على غض النظر عن أداء شعائر الحج، إذ يدعي أن الوقوف على قبور بعض مشايخ الصوفية يعادل الوقوف في يوم عرفة، وأن السعي إلى قبورهم كالسعي في بيت الله الحرام في موسم الحج، وهو ما يجعل التساؤلات قائمة في ظل هذه المعطيات الموضوعية.

الفتوحات العثمانية في أوروبا

لم تكن الفتوحات العثمانية في أوروبا مشابهة للفتوحات الإسلامية تاريخياً بالرغم أن الادعاء العام بأن مبدأها هو الجهاد، إلا أن الدولة العثمانية لم تقم بنشر الإسلام وتغيير واقع المجتمعات المسيحية في البلقان إلى مسلمة، فأهداف التوسع العثماني في أوروبا بحسب ما أثبتته الوقائع التاريخية كان من أجل الظفر بالغنائم والمكاسب الاقتصادية من خلال فرض الجزية وجمع الضرائب، ولم تكن تهدف إلى نشر الإسلام بين السكان الأصليين، كما أن التوسع العثماني في أوروبا لم يعتمد فقط على الحروب والمواجهات بل أيضاً من خلال الدخول في تحالفات مع الحكام، ومن خلال المصاهرة بزواج السلاطين من الأسر الحاكمة في أوروبا، إضافة إلى إغراء السكان والمقاتلين المسيحيين بالانضمام للدولة العثمانية مقابل امتيازات ضريبية واستثمارية، وكانوا يغرون حكام الإمارات البلقانية بالاحتفاظ بحكمهم مقابل دفع الجزية، والقبول بالسيادة العثمانية، والتحول إلى حلفاء للسلطان، وإرسال قواتهم لدعم السلطان في حملاته التوسعية، ومن ثم تم ابتزازهم من خلال إجبار هؤلاء الحكام على إرسال أبنائهم إلى البلاط العثماني رهائن لفرض ولاء تلك المناطق للدولة العثمانية وضمان تحصيل الجزية.

وأصبحت مقولة «الغزو» عند المؤرخ ويتيك هي الرواية العامة والمنتشرة حول أصول ونمط فتوحات الدولة العثمانية عند الكثير من المؤرخين، وإلى ذلك يعزو تكوين هذا النظام والدولة لحملات القرصنة الناجحة للغزاة الذين انضم إليهم لاحقاً المقاتلون البحريون ساكنو المناطق الساحلية، وعدد كبير من البحارة البيزنطيين. ويتفق مع هذا الطرح المؤرخ الأمريكي من أصل يوناني جورج أرناكيس، مركزاً على أن المصادر توحي بأنه لم يكن هناك تعصب إسلامي خلف النشاطات العسكرية للعثمانيين الأوائل الذين لم يكن هدفهم نشر الإسلام أو تحطيم المسيحية، وإنما ببساطة «الغنيمة»، مؤكداً أن العثمانيين الأوائل جعلوا من السهل على اليونانيين الانضمام إليهم، وهو ما أكدته العديد من المصادر التاريخية التي رصدت أحداث التوسع العثماني في البلقان وأوروبا.

ويقول المؤرخ التركي الشهير خليل إنالجيك إنه نتيجة لنشأة الإمارة العثمانية على حدود بيزنطة، كانت قوات «الأكريتاي» البيزنطية على اتصال وثيق بالغزاة العثمانيين، ولم يكن الهدف من «الجهاد العثماني» تدمير عالم الكفر أو دار الحرب بل إخضاعه، وهكذا أسسوا إمبراطوريتهم بضم البلقان المسيحي تحت حكمهم، وكذلك قامت الإمبراطورية العثمانية بحماية الكنائس وحماية ملايين المسيحيين مع أنها اعتمدت على مبدأ الجهاد، فقد ضمن العثمانيون حياة المسيحيين واليهود وحماية ممتلكاتهم بشرط أن يدفعوا الضرائب، ويسمح لهم كذلك ممارسة شعائرهم الدينية، بل ويعيشوا بحرية وحسب أحكام شريعتهم الدينية، وهكذا كانوا في سنواتهم الأولى يحاولون الحصول على انقياد المسيحيين الطوعي وعلى ثقتهم دون اللجوء إلى الحرب، إضافة إلى اهتمامهم بحماية الفلاحين المسيحيين باعتبارهم مصدراً حيوياً للدخل الضريبي.

وفي العام 1346م تحالف القائد العثماني سليمان بن أورخان مع القائد البيزنطي يوحنا كانتاكوزين الخامس الذي كان يطالب بالعرش البيزنطي، وتزوج سليمان بابنته ثيودورا، وأسهم ذلك في اقتحام الشق الأوروبي من الأناضول وحصار قلعة غاليبولي التي تعرضت عام 1354م إلى زلزال أسقط أسوارها ما سهل على العثمانيين اقتحامها، ويقول المؤرخ إنالجيك إن الفتح العثماني للبلقان تم بسهولة لأنه تم في ظل تشرذم المنطقة والخلافات بين زعمائها، كانت الفرصة سانحة لـ «الجيش الانكشاري» العثماني وهو الجيش النظامي الذي أسسه العثمانيون في أوروبا بعد فتح أدرنة، وتكون من أسرى الحرب المسيحيين من الغلمان الذين يتم أخذهم من ذويهم وأصولهم وفق مبدأ التجنيد الذي سمي بـ «الدوشرمة» لتتم تربيتهم دينيا على الإسلام وتدريبهم عسكرياً، على أن يصبح السلطان والدهم الروحي، وأن تكون الحرب صنعتهم الوحيدة، وبالرغم من أن هذا الجيش يقال إنه نشأ على عقيدة الإسلام إلا أن سلوكياتهم لا تشهد بذلك، ومن الأمثلة على ذلك أنهم كانوا يشربون الخمور، ويعاشرون المومسات، ويرتكبون الكثير من الأعمال المنافية للإسلام، وعندما ارتقى السلطان مراد الثالث العرش العثماني بعد وفاة والده السلطان سليم الثاني، أصدر أمراً بعدم شرب الخمر الذي شاع استعماله، وأفرط فيه جنود الانكشارية، فثاروا ضده، ما اضطر السلطان مراد الثالث إلى التراجع عن هذا الأمر وإباحته. ومن السلوكيات المشينة التي عرفت عن الانكشارية الشذوذ، وقد ذكر الأسير الإنجليزي جوزيف بيتس الذي سجل رحلته إلى البقاع المقدسة برفقة سيده الخزناجي عام 1860 أن الدولة العثمانية كانت تشجع على الشذوذ بين قواتها لإبعادهم عن الزواج والاستقرار الاجتماعي. (رحلة جوزيف بيتس، ص 82).

وتغلغل العثمانيون في البلقان الأوروبية بين 1346-1356م بسبب التحالف مع يوحنا كانتاكوزين الذي شاركت قواته وقادت العديد من المعارك، مساهمة في تحقيق الكثير من الفتوحات العثمانية بالوكالة، وفي الأعوام 1356-1366م أرسلوا تعزيزات عسكرية لملك بلغاريا لمواجهة هنغاريا ورومانيا ما ضاعف من توسعهم، كما لا نغفل أن نظام الضرائب العثمانية جاء لصالح الفلاحين الذين حظوا بأعباء ضريبية أقل مما كانوا يدفعونه للحكومات في البلقان، وكذلك كان العثمانيون يجندون لصالحهم آلاف المقاتلين المسيحيين في بلغاريا وصربيا وألبانيا ومقدونيا وتساليا المعروفين باسم «الفوينيك» إذ أعفوهم من الضرائب، وكانوا يحصلون على الحق في استثمار قطعة أرض من الأراضي التي دخلت في نطاق الدولة العثمانية باعتبارهم يخدمون في الجيش العثماني، وفي صربيا كان المسيحيون الرحل «الفلاشيون» يعفون من الضرائب مقابل خدمتهم حراس حدود، ويحظون بامتيازات أكثر إذا عملوا غزاة، وبالرغم من توطيد العثمانيين لحكمهم في البلقان إلا أن تلك الإمارات كانت تنتهز أي فرصة عند انشغال العثمانيين للتمرد على الحكم ولم تكن مستقرة، وهذه الفتن تسببت في مقتل مراد الأول على يد صربي في معركة قوصوه «كوسوفو» بعد أن تمردت الأسر الحاكمة في الأناضول في 1389م. (تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، خليل إنالجيك، ص 16- 30).

وقد اعتلى المسيحيون في الدولة العثمانية منصب «الصدر الأعظم» 8 مرات وهو أعلى منصب تحت السلطان مع السلطة المطلقة له، وهو الذي يحمل ختم السلطنة، وسلطة تعيينه وعزله حق للسلطان فقط، ويعادل منصبه «رئاسة الوزراء» في العصر الحالي، في حين تولى القيادة العامة للجيش العثماني 12 مسيحيا، وتولى منهم أيضاً القيادة العامة للقوات البحرية في عهدي سليمان القانوني وسليم الثاني. (تركيا بين الموروث الإسلامي والاتجاه العلماني، أحمد النعيمي، ص 15).

بشكل عام، لم يكن تاريخ الفتوحات العثمانية على نمط الفتوحات الإسلامية، ومن أبرز الشواهد على ذلك تجنيد بيزنطيين وجنود مسيحيين في صفوفهم، وتعيين قيادات عسكرية مسيحية للجيوش، ومحاربة دول إسلامية، وعدم حمل المسيحيين واليهود ومعتنقي الملل غير الإسلامية للدخول في الإسلام، وعدم فرض قوانين الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، إضافة إلى السماح بحرية الهرطقة والكثير من الممارسات التي يحرمها الإسلام.

مذابح العرش وقتل الإخوة

شهد تاريخ السلاطين العثمانيين عادة بشعة وهي «قتل الإخوة» كي ينفرد السلطان الجديد بالحكم، ولم يكن هذا الأمر معروفاً في جميع العهود الإسلامية السابقة لعهد الدولة العثمانية، إذ إن الشريعة الإسلامية نهت عن قتل أي شخص دون سبب، وعلى الأرجح أن تلك العادة مقتبسة من الإمبراطورية البيزنطية المجاورة للعثمانيين، إذ أشار المؤرخ برنارد لويس إلى أن طريقة «قتل الإخوة» كانت موجودة عند البيزنطيين حتى إنها أصبحت قاعدة مقررة في نظام حكمهم، وعلى ذات المبدأ سار العثمانيون، بل تطور الأمر في عهد السلطان محمد الفاتح بعد أن أصدر قانوناً رسمياً يجيز لسلاطين آل عثمان قتل إخوتهم وفقاً لبند خصص لذلك ضمن مجموعة «القانون نامه» التي تعني (كتاب القانون)، وتشير إلى المراسيم التي يصدرها السلطان، وينص قانون «قتل الإخوة» على: «أي شخص يتولى السلطة من أولادي، فمن المناسب أن يقتل الإخوة من أجل نظام العالم، وأجازه أكثر العلماء فليعملوا به»، وذلك بحجة أن وجود الإخوة من العوامل التي تثير الصراع على الحكم، وقد أقر أهل الفتوى هذا العرفان وأعلنوا أنه لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، واستمرت هذه «العادة» العثمانية حتى انتهاء الحكم العثماني عام 1922، حيث ارتكب هذه الجريمة جميع السلاطين وعددهم 36، باستثناء 9 منهم، وبلغ إجمالي عدد الأمراء العثمانيين الذين قُتلوا على أيدي آبائهم وأشقائهم وأبنائهم وفقاً لشريعة «قتل الإخوة» 121 قتيلاً.

إن مسلسل القتل في السلطنة العثمانية ابتدأ منذ نشأتها، ابتداء من المؤسس عثمان الذي قتل عمه دوندار حتى ينفرد بالحكم، في حين أشارت المراجع إلى أن مراد الأول قتل أخويه خليل وإبراهيم وابنه صاووجي، وقام السلطان سليمان القانوني بقتل ابنه مصطفى، والسلطان بايزيد أعدم شقيقه يعقوب خنقاً في شهر رمضان، والسلطان محمد جلبي المعروف بـ«محمد الأول» قتل أخويه عيسى وموسى، والسلطان بايزيد الثاني قتل عمه دوزمجه مصطفى، والسلطان سليم الأول قتل أخويه كوركود وأحمد، والسلطان مراد الثالث قام بإعدام 5 من إخوته.

وكانت أبشع جرائم «قتل الإخوة» على يد السلطان محمد الثالث الذي أمر بقتل 19 أخاً له كان من بينهم 3 رضّع و5 أطفال أعمارهم بين 3 و6 سنوات، إضافة لهذا قام بقتل ابنه الأمير محمود، فيما قتل السلطان محمد الفاتح أخاه الرضيع ذا الأشهر الستة.

وكذلك امتد الأمر إلى الجواري السلطانات أيضاً، فالسلطانة كوسيم أزاحت ابنها السلطان إبراهيم من العرش وسلمته إلى الجلاد ليعدمه بعد عزله بـ10 أيام في العام 1648، ولا شك أن قائمة القتلى طويلة ولا مساحة لحصرها جميعاً.وخلاصة القول، ما سبق كان جزءاً يسيراً من الحقائق التي يجب أن تكشف أمام الشعوب وكل من يحلم بإعادة أمجاد الدولة العثمانية. في الحلقة القادمة:

التوجه العثماني نحو الشرق