هل تشهد تركيا نهاية أرطغرل وقيامة أتاتورك؟
الخميس / 28 / رجب / 1440 هـ الخميس 04 أبريل 2019 01:36
علي حسن التواتي
كانت خسارة تحالف حزب العدالة والتنمية للانتخابات المحلية في «الحواضر التركية الكبرى» مفاجأة غير سارة لمن كانوا يعوّلون على الخطاب الشعبوي ودغدغة المشاعر الدينية والقومية للاستمرار في تحقيق مكاسب سياسية. فرغم فوز التحالف بأكثر من 51% من إجمالي أصوات الناخبين في كافة الولايات التركية الواحدة والثمانين، إلا أن الأغلبية لم تتحقق له في انتخابات رؤساء البلديات «العمد» في كل من أنقرة، وإسطنبول، وإزمير، وأضنه، وأنطاليا ومرسين، بل ذهبت لتحالف حزب الشعب الجمهوري المعارض.
لقد كان فقدان المناصب القيادية في الحواضر الكبرى بمثابة زلزال عنيف هزّ أركان سلطة الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يكاد يفقد جاذبيته، وبمثابة النكسة لحزب العدالة والتنمية الذي فقد زخمه الانتخابي المعتاد، ما يتطلب البحث في البواعث والأسباب حيث تكثر الاجتهادات بحسب زاوية الرؤية ودرجة التجرد في الحكم على مجريات الأمور.
ومن زاوية رؤيتي المتواضعة، أرى أن أحد أهم الأسباب في تغير مزاج ناخبي الحواضر الكبرى هو في ارتفاع درجة الوعي لديهم مقارنة بالأرياف، إضافة إلى قربهم من دوائر السلطات العليا ومعاصرتهم للتحولات السياسية والاقتصادية العنيفة التي تتابعت بشكل متسارع في المشهد السياسي التركي في السنوات القليلة الماضية والتي انتهت للتحول الشكلي في النظام السياسي السائد. فلا شك أن التحول من نظام سياسي لآخر له متطلبات مؤسساتية وقانونية ودستورية معقدة تتخطى الأحلام والأماني لإحداث تحول حقيقي في الهياكل السياسية من قاعدة الهرم لقمته. فتركيا التي حكمت برلمانياً منذ إعلان الجمهورية سنة 1924 حتى 24 يونيو 2018 يوم أجريت الانتخابات الرئاسية التركية ليجمع الرئيس بموجبها رئاسة الحكومة إلى جانب رئاسة الدولة، تجاهلت بشكل بدا متعمداً، المتطلبات المؤسساتية وحدود الفصل بين السلطات، ولجأت مؤسسة الرئاسة بدلاً من ذلك للجاذبية الشخصية والخطابات الرنانة للرئيس حيناً، وللقرارات الرئاسية التنفيذية أحياناً، وللاعتقالات والحلول الأمنية على خلفيات سياسية إن لزم الأمر، وذلك في محاولة لسد الخلل وملء الفراغ الكبير الذي نتج عن التحول الشكلي السريع في النظام السياسي من غير إرساء قاعدة صلبة ومرتكزات حقيقية للبناء الجديد.
بل إن الوضع تفاقم بتزايد النفوذ العائلي في إدارة البلاد، الأمر الذي لم يحظ برضا وتأييد المسؤولين الأتراك خاصة في الدوائر الاقتصادية التي مازالت قائمة حسب الهيكلية القديمة. فلا الإدارة العائلية الجديدة صححت مسار الاقتصاد ولا الهياكل القديمة تمكنت من العمل بحرية للتصحيح. فكانت النتيجة ارتفاع المديونية الخارجية، وانهيار العملة، وارتفاع نسبة الفائدة، وارتفاع التضخم لمستوى 20% وارتفاع معدل البطالة الإجمالي إلى 11,2%، وتفاقم معدل البطالة الإجمالي بين الشباب للفئة العمرية (15-24) عاماً إلى 18,5% منها 16,5% بين الذكور و 22,2% بين الإناث. وتزايد نسبة السكان تحت خط الفقر (1,90 دولار/يوم) من 16,9% سنة 2010 إلى 21,9 في 2015. ولذلك كان من الطبيعي أن تدفع مثل هذه المؤشرات الاقتصادية والمالية بثلاث وكالات للتصنيف الائتماني لتخفيض التصنيف الائتماني السيادي لتركيا في 2017، مشيرةً إلى المخاوف بشأن «سيادة القانون» و«وتيرة الإصلاحات الاقتصادية».
فوفقًا للبيانات الإحصائية التركية، بلغ معدل النمو السنوي 2.6% في عام 2018، إلا أن النمو في الربعين الأخيرين كان سالباً ما اعتبره الاقتصاديون تطوراً مزعجاً ومؤشراً على أن الاقتصاد دخل رسمياً في حالة من الركود الذي قد يستمر حتى نهاية العام الحالي 2019.
وبالرغم من أن مؤشرات كثيرة في الاقتصاد لا ترضي الحكومة التركية ولا المراقبين إلا أن مصدر القلق الأكبر للحكومة كان الانخفاض في نصيب الفرد من الدخل في تركيا. ففي عام 2018 هبط دخل الفرد إلى 9,632 دولاراً أمريكياً من مستوياته القياسية التي بلغت 12,480 دولاراً أمريكياً عام 2013.
ونظراً لكون النجاح الكبير لحزب العدالة والتنمية الحاكم هو الزيادة في دخل الفرد، الذي كان بحدود 3581 دولاراً فقط في عام 2002 فقد عبر مسؤولون أتراك في وقت سابق عن «تحفظاتهم بشأن الانتخابات البلدية المقرر إجراؤها في 31 مارس وكانوا يتطلعون لرؤية التأثير الذي سيحدثه انخفاض الدخل القومي التركي على نتائجها» ما يعني أن المسؤولين الأتراك كانوا يتوقعون تأثيراً ما للأحوال الاقتصادية الصعبة على الانتخابات، ولكن لم يتصوروا أن يصل هذا التأثير حد فقدان الحزب الحاكم لقاعدته الجماهيرية في معاقله القوية في أنقرة وإسطنبول المسؤولتين وحدهما عن 60% من الناتج القومي التركي.
ومع اعتراف الرئيس التركي بأخطاء ارتكبت في إدارة الدولة ووعده بالإصلاح، إلا أنه لم يتمكن من تجاوز صدمة الواقع المر بأن حزبه يفقد بريقه وزخمه الذي طالما اعتمد عليه بالاستمرار، فنسي أو تناسى أنه رئيس منتخب من كل الشعب ولكل الشعب فعاد ليلوذ بحزبه ويوعز لقياداته بالطعن بالانتخابات في كافة المدن الكبيرة التي فازت بها المعارضة خاصة مدينة إسطنبول، جوهرة التاج العثماني، التي وعد بها صديقه أبوعلي يلدريم بعد إلغاء منصبه كرئيس للوزراء.
ويتوقع أن يسهم رد الفعل هذا من الرئيس وحزبه في إنقاص رصيدهما الشعبي لأنه يكشف عن تحيز حزبي من قبل الرئيس ونكران للواقع من قبل الحزب. فبدلاً من أن يكون الرئيس حكماً بين الجميع بصفته الرئاسية الجديدة تصرف كزعيم حزبي لم يستوعب بعد أبعاد ومسؤوليات الرئيس في هذا النوع من الأنظمة. وبدلاً من أن يعترف الحزب بتقصيره ويتيح الفرصة لغيره في الإصلاح مثلما أتاحوها له من خلال الانتخابات، ها هو يتشبث بمواقعه ويبقى حبيساً لحالة النكران ويقدم الإثبات للعالم أجمع بأن «الأحزاب التي تقوم على طائفية عرقية أو دينية لا تنظر للنظام الديموقراطي إلا كوسيلة للوصول إلى السلطة والتشبث بها».
وبهذا يحق لنا طرح تساؤل عمّا إذا كان انحسار التأييد لتحالف حزب العدالة والتنمية في الحواضر التركية الكبرى وتركزه في الأرياف يعني أيضاً انحساراً للخطاب الديني المرتكز على طموحات إمبراطورية توسعية؟ أم أن المواطن التركي كان يساير ذلك الخطاب على سبيل الفخر القومي طالما أنه لا يؤثر سلباً على الاقتصاد والدخل الذي يذهب به آخر النهار إلى بيته وعائلته؟
وهنا أيضاً أجد أنه من المبكر الإجابة عن هذه التساؤلات. ولكن مع فوز مرشح «الحزب الشيوعي التركي» أيضاً برئاسة بلدية ولاية تونج إيلي (شرق) كأول فوز للحزب الشيوعي التركي برئاسة بلدية ولاية بالبلاد، يمكن أن ألخص الإجابات بتغريدة لي على تويتر قلت فيها، «ربما كأن ما نشهده الآن هو نهاية ارطغرل، وانبعاث العلمانية التركية جذعة فتية من جديد..الاقتصاد هو الفيصل عند الشعوب الواعية.. لا تطعمني تضخماً يتخطى 20% ولا تعطني عملة تتناقص قيمتها كل يوم ولا تحاول إشباع طموحاتك الشخصية على حساب لقمتي وشبابي.. حتى وإن شاركتك بالدين سأفضل العلماني عليك» فهل وصلت الرسالة؟
* كاتب وباحث استراتيجي سعودي
alitawati@
لقد كان فقدان المناصب القيادية في الحواضر الكبرى بمثابة زلزال عنيف هزّ أركان سلطة الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يكاد يفقد جاذبيته، وبمثابة النكسة لحزب العدالة والتنمية الذي فقد زخمه الانتخابي المعتاد، ما يتطلب البحث في البواعث والأسباب حيث تكثر الاجتهادات بحسب زاوية الرؤية ودرجة التجرد في الحكم على مجريات الأمور.
ومن زاوية رؤيتي المتواضعة، أرى أن أحد أهم الأسباب في تغير مزاج ناخبي الحواضر الكبرى هو في ارتفاع درجة الوعي لديهم مقارنة بالأرياف، إضافة إلى قربهم من دوائر السلطات العليا ومعاصرتهم للتحولات السياسية والاقتصادية العنيفة التي تتابعت بشكل متسارع في المشهد السياسي التركي في السنوات القليلة الماضية والتي انتهت للتحول الشكلي في النظام السياسي السائد. فلا شك أن التحول من نظام سياسي لآخر له متطلبات مؤسساتية وقانونية ودستورية معقدة تتخطى الأحلام والأماني لإحداث تحول حقيقي في الهياكل السياسية من قاعدة الهرم لقمته. فتركيا التي حكمت برلمانياً منذ إعلان الجمهورية سنة 1924 حتى 24 يونيو 2018 يوم أجريت الانتخابات الرئاسية التركية ليجمع الرئيس بموجبها رئاسة الحكومة إلى جانب رئاسة الدولة، تجاهلت بشكل بدا متعمداً، المتطلبات المؤسساتية وحدود الفصل بين السلطات، ولجأت مؤسسة الرئاسة بدلاً من ذلك للجاذبية الشخصية والخطابات الرنانة للرئيس حيناً، وللقرارات الرئاسية التنفيذية أحياناً، وللاعتقالات والحلول الأمنية على خلفيات سياسية إن لزم الأمر، وذلك في محاولة لسد الخلل وملء الفراغ الكبير الذي نتج عن التحول الشكلي السريع في النظام السياسي من غير إرساء قاعدة صلبة ومرتكزات حقيقية للبناء الجديد.
بل إن الوضع تفاقم بتزايد النفوذ العائلي في إدارة البلاد، الأمر الذي لم يحظ برضا وتأييد المسؤولين الأتراك خاصة في الدوائر الاقتصادية التي مازالت قائمة حسب الهيكلية القديمة. فلا الإدارة العائلية الجديدة صححت مسار الاقتصاد ولا الهياكل القديمة تمكنت من العمل بحرية للتصحيح. فكانت النتيجة ارتفاع المديونية الخارجية، وانهيار العملة، وارتفاع نسبة الفائدة، وارتفاع التضخم لمستوى 20% وارتفاع معدل البطالة الإجمالي إلى 11,2%، وتفاقم معدل البطالة الإجمالي بين الشباب للفئة العمرية (15-24) عاماً إلى 18,5% منها 16,5% بين الذكور و 22,2% بين الإناث. وتزايد نسبة السكان تحت خط الفقر (1,90 دولار/يوم) من 16,9% سنة 2010 إلى 21,9 في 2015. ولذلك كان من الطبيعي أن تدفع مثل هذه المؤشرات الاقتصادية والمالية بثلاث وكالات للتصنيف الائتماني لتخفيض التصنيف الائتماني السيادي لتركيا في 2017، مشيرةً إلى المخاوف بشأن «سيادة القانون» و«وتيرة الإصلاحات الاقتصادية».
فوفقًا للبيانات الإحصائية التركية، بلغ معدل النمو السنوي 2.6% في عام 2018، إلا أن النمو في الربعين الأخيرين كان سالباً ما اعتبره الاقتصاديون تطوراً مزعجاً ومؤشراً على أن الاقتصاد دخل رسمياً في حالة من الركود الذي قد يستمر حتى نهاية العام الحالي 2019.
وبالرغم من أن مؤشرات كثيرة في الاقتصاد لا ترضي الحكومة التركية ولا المراقبين إلا أن مصدر القلق الأكبر للحكومة كان الانخفاض في نصيب الفرد من الدخل في تركيا. ففي عام 2018 هبط دخل الفرد إلى 9,632 دولاراً أمريكياً من مستوياته القياسية التي بلغت 12,480 دولاراً أمريكياً عام 2013.
ونظراً لكون النجاح الكبير لحزب العدالة والتنمية الحاكم هو الزيادة في دخل الفرد، الذي كان بحدود 3581 دولاراً فقط في عام 2002 فقد عبر مسؤولون أتراك في وقت سابق عن «تحفظاتهم بشأن الانتخابات البلدية المقرر إجراؤها في 31 مارس وكانوا يتطلعون لرؤية التأثير الذي سيحدثه انخفاض الدخل القومي التركي على نتائجها» ما يعني أن المسؤولين الأتراك كانوا يتوقعون تأثيراً ما للأحوال الاقتصادية الصعبة على الانتخابات، ولكن لم يتصوروا أن يصل هذا التأثير حد فقدان الحزب الحاكم لقاعدته الجماهيرية في معاقله القوية في أنقرة وإسطنبول المسؤولتين وحدهما عن 60% من الناتج القومي التركي.
ومع اعتراف الرئيس التركي بأخطاء ارتكبت في إدارة الدولة ووعده بالإصلاح، إلا أنه لم يتمكن من تجاوز صدمة الواقع المر بأن حزبه يفقد بريقه وزخمه الذي طالما اعتمد عليه بالاستمرار، فنسي أو تناسى أنه رئيس منتخب من كل الشعب ولكل الشعب فعاد ليلوذ بحزبه ويوعز لقياداته بالطعن بالانتخابات في كافة المدن الكبيرة التي فازت بها المعارضة خاصة مدينة إسطنبول، جوهرة التاج العثماني، التي وعد بها صديقه أبوعلي يلدريم بعد إلغاء منصبه كرئيس للوزراء.
ويتوقع أن يسهم رد الفعل هذا من الرئيس وحزبه في إنقاص رصيدهما الشعبي لأنه يكشف عن تحيز حزبي من قبل الرئيس ونكران للواقع من قبل الحزب. فبدلاً من أن يكون الرئيس حكماً بين الجميع بصفته الرئاسية الجديدة تصرف كزعيم حزبي لم يستوعب بعد أبعاد ومسؤوليات الرئيس في هذا النوع من الأنظمة. وبدلاً من أن يعترف الحزب بتقصيره ويتيح الفرصة لغيره في الإصلاح مثلما أتاحوها له من خلال الانتخابات، ها هو يتشبث بمواقعه ويبقى حبيساً لحالة النكران ويقدم الإثبات للعالم أجمع بأن «الأحزاب التي تقوم على طائفية عرقية أو دينية لا تنظر للنظام الديموقراطي إلا كوسيلة للوصول إلى السلطة والتشبث بها».
وبهذا يحق لنا طرح تساؤل عمّا إذا كان انحسار التأييد لتحالف حزب العدالة والتنمية في الحواضر التركية الكبرى وتركزه في الأرياف يعني أيضاً انحساراً للخطاب الديني المرتكز على طموحات إمبراطورية توسعية؟ أم أن المواطن التركي كان يساير ذلك الخطاب على سبيل الفخر القومي طالما أنه لا يؤثر سلباً على الاقتصاد والدخل الذي يذهب به آخر النهار إلى بيته وعائلته؟
وهنا أيضاً أجد أنه من المبكر الإجابة عن هذه التساؤلات. ولكن مع فوز مرشح «الحزب الشيوعي التركي» أيضاً برئاسة بلدية ولاية تونج إيلي (شرق) كأول فوز للحزب الشيوعي التركي برئاسة بلدية ولاية بالبلاد، يمكن أن ألخص الإجابات بتغريدة لي على تويتر قلت فيها، «ربما كأن ما نشهده الآن هو نهاية ارطغرل، وانبعاث العلمانية التركية جذعة فتية من جديد..الاقتصاد هو الفيصل عند الشعوب الواعية.. لا تطعمني تضخماً يتخطى 20% ولا تعطني عملة تتناقص قيمتها كل يوم ولا تحاول إشباع طموحاتك الشخصية على حساب لقمتي وشبابي.. حتى وإن شاركتك بالدين سأفضل العلماني عليك» فهل وصلت الرسالة؟
* كاتب وباحث استراتيجي سعودي
alitawati@