«هِي حَصّلتْ يا أردوغان»..!
الاثنين / 03 / شعبان / 1440 هـ الاثنين 08 أبريل 2019 01:19
نجيب يماني
لم أكن أتوقع أن يستعيد شخص ما ذاكرة الحمقى، ممّن ملأوا كراسة التاريخ والأدب العربي بادعاءاتهم السّاذجة لمقامات النبوّة، فأصبحوا بصنيعهم ذلك مادة دسمة للكوميديا السوداء، ومرجعا لمن يبحثون عن الترويح بمطالعة أقوالهم الفكهة، وتبريراتهم الباعثة على التسلية في مقام الإضحاك والتندّر.. كل ذلك تحفظه أضابير الكتب والمراجع.. ويعود إليه الباحثون عن مثله في المضان المعروفة..
ولمّا كانت الأيام «حُبالى مثقلات يلدن كل عجيبة»، فليضع الباحثون عن كاهلهم نَصَبَ البحث في المراجع، وتعب التنقيب في الكتب، فثمة من يعيد عقارب الزمن إلى ذات الحماقات القديمة، ومغامرات ذوي الطموح الأهوج، ممن لا يرضون إلا بمقام النبوّة، ولا يقعدون للنّاس إلا بلباس المُرسل إليهم، والمُوحى لهم اصطفاء ورسالة.. ودونكم ما قاله الرئيس التركي أردوغان، وبعض مناصريه، من حديث نشرته قناة «إرم نيوز» الإخبارية.. حديث أقل ما يوصف به أنه «إنتاج لأزمة الحمقى» في أجلى صورها..
إن كذّبني مكذّبٌ وما أكثر الحمقى والمغفلين فعليه أن يعود إلى المقطع المبثوث، وفيه يتحدث «رجب» عن تفاصيل نجاته من قبل الباحثين عنه ليلة الانقلاب عليه، وقد كان في جوف طائرته «حراء»، فما عرفوا إليه سبيلاً، ولم يكن ذلك لضعف في بصرهم، وسوء في تفتيشهم، وعجلة من أمرهم، واضطراب في نفوسهم، لا لشيء من هذه المحتملات المنطقية؛ ولكن لـ«كرامة» و«معجزة» لم يجد «رجب» من شبيهٍ لها إلا بما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء.. انظر إليه يقول بالحرف الواحد -حسب ترجمة «إرم»: «.. دخلوا ثمّ خرجوا منها، وكأنّه لا أحد بداخلها؛ رغم أنّني كنت في الطائرة، حدث معي مثلما حدث مع الرسول الكريم وأبوبكر الصديق في غار حراء.. المشركون جاءوا إلى الغار ليجدوا خيوط العنكبوت على الباب، قالوا: لا يوجد أحد بداخله، ثم انصرفوا بغرابة شديدة.. هم أيضا جاءوا إلى الطّائرة ونظروا جيدا، ثم انصرفوا مباشرة؛ رغم أنّي كنت خلفهم..»..
ولئن كان «رجب» قد قارب مقام النبوّة في حديثه بالمماثلة والتشبيه المخاتل، فإنّ رفاقه في ذات المقطع المنشور، رفعوه إلى مقام النبوّة صراحة، فثمّة أحدهم يقول: «لو لم يكن النّبيّ محمّد هو آخر الأنبياء.. ولو كان هناك نبيّ سيأتي من بعده؛ فإنّه سيكون رجب طيّب أردوغان..»..!
وزاد آخر حشفا وسوء كيلة بقوله: «نحن نحب رئيس وزرائنا كثيرا، فهو بمثابة النبيّ الثاني لنا»!
أما الصحفي ومقدم برامج تلفزيونية (خلقي أوغلو)، فقد رفعه إلى مقام ما بعد النبوّة، وهو يتجرّأ بالقول دون أن يطرف له جفن: «إذا بعث سيّدنا محمّد المصطفى، رسول الإسلام اليوم من جديد، وقام بإنشاء حزب؛ لن يستطيع أن يحصل على أصوات أكثر من أردوغان»..! (وقد أفاق هو وحزبه على صدمة كبرى وخيبة أمل عظيمة بخسارته في إسطنبول في الانتخابات المحلية، وسوف يخسر وحزبه وجماعته في أي انتخابات قادمة ويولون الدبر).
هذا ما جاء في المقطع، نقلته كما هو، متأمّلاً في هذه الحماقة التي لا تناسب واقعا تجاوز مثل هذه الترهات، وعبر نهر السذاجة إلى آفاق العلم الرحب، ولم يعد مقبولاً؛ لا في الحياة العامة، ولا في الساحة السياسية بخاصة، الارتكان إلى مثل هذه الإسقاطات الدينية لاستمالة قلوب الأتباع، كونها تنطوي على أبعاد أشد فداحة، بالنظر إلى ما يترتب عليه ظاهرا، وما تتبطنه من رسائل مضمرة أشد خطورة، فمكمن الخطر فيها رابض تحت تحويل الصراع السياسي إلى معترك ديني، بحيث يتحوّل خصوم «أردوغان» إلى «كفّار»، طالما بقي هو في مناط التشبيه بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته الخوالد، وليس من خيار أمامهم سوى الإيمان بـ«رجب» أو تحمّل تبعات «كفرهم».. بما يؤكد بشكل لا يقبل لبسا أن الحلم الأردوغاني بـ«إعادة إنتاج السلطنة العثمانية» أمر واقر في عقله الباطن، وحلم يسيطر على حاضره المتقلّب.. وإنّك لتعجب كيف لـ«رجل» بهذه الأفكار المتيبّسة، والسلوك المخاتل، أن يحلم، مجرد حلم بالانتماء إلى «الاتحاد الأوروبي»، أو يكون له قدم في عالم اليوم.. فعقلية «رجب» من عقلية الإخوان المسلمين بكل كذبهم وإسفافهم وما أحلامهم في رابعة والنهضة إلا صورة لأفكارهم المريضة يعتقدون أنهم يقهرون بهذه الإسقاطات الدينية، وما تتبطنه من إيحاءات، تجعل من عملية الانتخابات، والديموقراطية، والعلمانية التي تحكم تركيا مجرد جدار هش، وغشاء شفاف، لا يستر ما خلفه من دولة تمارس القهر والتسلّط بأسوأ ما عرفته الدول الثيوقراطية، وتسيطر على العقل الجمعي، بترهات الكرامات، والمعجزات، ورفع النفس مقامات فوق الآخرين، بما يضمن لها «قداسة» تجعل من أمر بقائها في السلطة «قدرا إلهيا» يتوجّب على الجميع الرضوخ له خنوعا، والامتثال له يقينا وتقديسا، في أبشع صور «الصنمية» الحديثة..
من الواضح أن «رجب» قد ذهب بعيدا في إقصاء خصومه السياسيين بعد حادثة الانقلاب واستطاع استغلال تلك الحادثة بأقصى ما يحتمله الاستغلال، إلى غاية «تقديس» الذات، و«أبلسة» الخصوم، وحشرهم في مربع «الكفّار».. والحال هكذا فإنّ «مدهشات» أردوغان لن تقف عند هذا الحد، و«ادعاءاته» لن تمكث في «غار حراء»، فالرجل يتسلق سلم الحماقة بسرعة نحو ما هو أفدح.. ورحم الله ستي زامكية التي كانت تردد (بقى للشخنق بخنق وللكلب صرموجه).
* كاتب سعودي
ولمّا كانت الأيام «حُبالى مثقلات يلدن كل عجيبة»، فليضع الباحثون عن كاهلهم نَصَبَ البحث في المراجع، وتعب التنقيب في الكتب، فثمة من يعيد عقارب الزمن إلى ذات الحماقات القديمة، ومغامرات ذوي الطموح الأهوج، ممن لا يرضون إلا بمقام النبوّة، ولا يقعدون للنّاس إلا بلباس المُرسل إليهم، والمُوحى لهم اصطفاء ورسالة.. ودونكم ما قاله الرئيس التركي أردوغان، وبعض مناصريه، من حديث نشرته قناة «إرم نيوز» الإخبارية.. حديث أقل ما يوصف به أنه «إنتاج لأزمة الحمقى» في أجلى صورها..
إن كذّبني مكذّبٌ وما أكثر الحمقى والمغفلين فعليه أن يعود إلى المقطع المبثوث، وفيه يتحدث «رجب» عن تفاصيل نجاته من قبل الباحثين عنه ليلة الانقلاب عليه، وقد كان في جوف طائرته «حراء»، فما عرفوا إليه سبيلاً، ولم يكن ذلك لضعف في بصرهم، وسوء في تفتيشهم، وعجلة من أمرهم، واضطراب في نفوسهم، لا لشيء من هذه المحتملات المنطقية؛ ولكن لـ«كرامة» و«معجزة» لم يجد «رجب» من شبيهٍ لها إلا بما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء.. انظر إليه يقول بالحرف الواحد -حسب ترجمة «إرم»: «.. دخلوا ثمّ خرجوا منها، وكأنّه لا أحد بداخلها؛ رغم أنّني كنت في الطائرة، حدث معي مثلما حدث مع الرسول الكريم وأبوبكر الصديق في غار حراء.. المشركون جاءوا إلى الغار ليجدوا خيوط العنكبوت على الباب، قالوا: لا يوجد أحد بداخله، ثم انصرفوا بغرابة شديدة.. هم أيضا جاءوا إلى الطّائرة ونظروا جيدا، ثم انصرفوا مباشرة؛ رغم أنّي كنت خلفهم..»..
ولئن كان «رجب» قد قارب مقام النبوّة في حديثه بالمماثلة والتشبيه المخاتل، فإنّ رفاقه في ذات المقطع المنشور، رفعوه إلى مقام النبوّة صراحة، فثمّة أحدهم يقول: «لو لم يكن النّبيّ محمّد هو آخر الأنبياء.. ولو كان هناك نبيّ سيأتي من بعده؛ فإنّه سيكون رجب طيّب أردوغان..»..!
وزاد آخر حشفا وسوء كيلة بقوله: «نحن نحب رئيس وزرائنا كثيرا، فهو بمثابة النبيّ الثاني لنا»!
أما الصحفي ومقدم برامج تلفزيونية (خلقي أوغلو)، فقد رفعه إلى مقام ما بعد النبوّة، وهو يتجرّأ بالقول دون أن يطرف له جفن: «إذا بعث سيّدنا محمّد المصطفى، رسول الإسلام اليوم من جديد، وقام بإنشاء حزب؛ لن يستطيع أن يحصل على أصوات أكثر من أردوغان»..! (وقد أفاق هو وحزبه على صدمة كبرى وخيبة أمل عظيمة بخسارته في إسطنبول في الانتخابات المحلية، وسوف يخسر وحزبه وجماعته في أي انتخابات قادمة ويولون الدبر).
هذا ما جاء في المقطع، نقلته كما هو، متأمّلاً في هذه الحماقة التي لا تناسب واقعا تجاوز مثل هذه الترهات، وعبر نهر السذاجة إلى آفاق العلم الرحب، ولم يعد مقبولاً؛ لا في الحياة العامة، ولا في الساحة السياسية بخاصة، الارتكان إلى مثل هذه الإسقاطات الدينية لاستمالة قلوب الأتباع، كونها تنطوي على أبعاد أشد فداحة، بالنظر إلى ما يترتب عليه ظاهرا، وما تتبطنه من رسائل مضمرة أشد خطورة، فمكمن الخطر فيها رابض تحت تحويل الصراع السياسي إلى معترك ديني، بحيث يتحوّل خصوم «أردوغان» إلى «كفّار»، طالما بقي هو في مناط التشبيه بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته الخوالد، وليس من خيار أمامهم سوى الإيمان بـ«رجب» أو تحمّل تبعات «كفرهم».. بما يؤكد بشكل لا يقبل لبسا أن الحلم الأردوغاني بـ«إعادة إنتاج السلطنة العثمانية» أمر واقر في عقله الباطن، وحلم يسيطر على حاضره المتقلّب.. وإنّك لتعجب كيف لـ«رجل» بهذه الأفكار المتيبّسة، والسلوك المخاتل، أن يحلم، مجرد حلم بالانتماء إلى «الاتحاد الأوروبي»، أو يكون له قدم في عالم اليوم.. فعقلية «رجب» من عقلية الإخوان المسلمين بكل كذبهم وإسفافهم وما أحلامهم في رابعة والنهضة إلا صورة لأفكارهم المريضة يعتقدون أنهم يقهرون بهذه الإسقاطات الدينية، وما تتبطنه من إيحاءات، تجعل من عملية الانتخابات، والديموقراطية، والعلمانية التي تحكم تركيا مجرد جدار هش، وغشاء شفاف، لا يستر ما خلفه من دولة تمارس القهر والتسلّط بأسوأ ما عرفته الدول الثيوقراطية، وتسيطر على العقل الجمعي، بترهات الكرامات، والمعجزات، ورفع النفس مقامات فوق الآخرين، بما يضمن لها «قداسة» تجعل من أمر بقائها في السلطة «قدرا إلهيا» يتوجّب على الجميع الرضوخ له خنوعا، والامتثال له يقينا وتقديسا، في أبشع صور «الصنمية» الحديثة..
من الواضح أن «رجب» قد ذهب بعيدا في إقصاء خصومه السياسيين بعد حادثة الانقلاب واستطاع استغلال تلك الحادثة بأقصى ما يحتمله الاستغلال، إلى غاية «تقديس» الذات، و«أبلسة» الخصوم، وحشرهم في مربع «الكفّار».. والحال هكذا فإنّ «مدهشات» أردوغان لن تقف عند هذا الحد، و«ادعاءاته» لن تمكث في «غار حراء»، فالرجل يتسلق سلم الحماقة بسرعة نحو ما هو أفدح.. ورحم الله ستي زامكية التي كانت تردد (بقى للشخنق بخنق وللكلب صرموجه).
* كاتب سعودي