فقه التوقع !
الاثنين / 29 / رمضان / 1440 هـ الاثنين 03 يونيو 2019 01:17
نجيب يماني
الشريعة الإسلامية شريعة خالدة صالحة لكل زمان ومكان، لكن لا يفهم ذلك ويدركه إلا من عرف أصولها وضوابطها ومقاصدها وتعمق في أسرارها وعللها وأحكامها المناطة بها.
ومن معالم سماحة الشريعة الحكيمة وصلاحيتها، عنايتها بالواقع الحاضر والمتوقع المستقبلي أو باختصار: فقه الواقع والمتوقع، لكن هذا العلم مازال موضوعاً طرياً لم يحسم بعد، ولعلّ ذلك يعود إلى اعتراض وتحفظ بعض العلماء والفقهاء من الجواب عن المسائل التي لم تحصل بعد، وإن كان يوجد البعض الآخر من يؤيِّد ذلك. فما هو فقه التوقع؟ لا بد من بيان معناه لكي يكون مفهومه واضحاً.
وقد تناول نادي أبها الأدبي في محاضرة للدكتور الجرعي موضوع الفقه الحي وضرورة تفعيله لمواجهة قضايا اليوم «عكاظ 11 رمضان» تنوّعت تعاريف الفقهاء لمعنى (فقه التوقع) لكنها تصب في جدول علمي واحد إذ نجد من العلماء من يعبِّر عنه بالفقه الافتراضي، ومنهم من يعبِّر عنه بفقه المآلات، أو الفقه المستقبلي وما أشبه ذلك، لكن لا بد من إعطاء تعريف صحيح واضح، وتأصيله الشرعي وبيان أهميته في عصرنا الحاضر.
ففقه التوقع، يُراد به تصوّر ما يمكن أن يحدث في المستقبل القادم مع تطبيق الأصول الفقهية والضوابط الشرعية ومقاصد الشريعة في وضع أحكام شرعية له، حتى لا يُفاجأ المسلمون بأحداث جديدة ومستجدات في حياتهم وشؤونهم لا يعرفون لها حكماً، ففقه التوقع لا يتحرّك من زاوية الواقع وما يحدث فيه، وإنما من زاوية المستقبل وما يمكن أن يطرأ عليه.
ويرى العلامة الشيخ عبدالله بن بيّة أن ما يُسمّى بفقه الواقع أو فقه المآلات عبارة عن موازنة بين مصلحتين إحداهما أرجح، وإحداهما مستقبلية والأخرى حاضرة، أو توازن بين مفسدتين إحداهما مستقبلية والأخرى حاضرة، فنخلص من كلامه أن فقه التوقع: توازن بين حاضر ومستقبل، كما شدد على أن يكون الفقيه الذي يطبق فقه التوقع عليه أن يكون يقظاً نبيهاً يعرف ما ستؤول إليه الأفعال مستقبلياً فلو اشترى شخص من آخر عنباً على مذهب الإمامين: مالك وأحمد فسيفرق بين الشخصين الذي يريد هذا العنب ليعصر به خمراً، أو بين ذلك الذي يريده للأكل، فعلى الفقيه في هذه الحالة أن يكون يقظاً في تعامله مع الواقع، لأن المتوقع في حقيقته مآل للواقع.
ومن الأدلة التي استشهد بها أنصار (فقه التوقع) على مشروعيته قوله تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير..) فوجه الدلالة من الآية الكريمة يوحي بوضع الضابط المنهجي بين فقه الافتراض وفقه التوقع وقوله سبحانه: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) وقوله عز وجل (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) بناء على توقع بتوقُّف عند واحدة لا يتزوج أكثر من امرأة واحدة.
أما الأدلة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لأسست الكعبة على قواعد إبراهيم»، فوجه من الدلالة من الحديث الشريف أن العمل مشروع لكن مآله المستقبلي قد لا يكون كذلك. وكذلك أيضاً امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال المنافقين الذين كانوا يعيشون في المجتمع الإسلامي بالمدينة حتى لا يُقال إن محمداً يقتل أصحابه، ومفاد ذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه توقّع الحملة الإعلامية التي ينتج عنها تشويه صورة الإسلام وأهله فقال في شأن المنافق: «دعه لا تقتله، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» كما استدل أيضاً أنصار (فقه التوقع) بأصل سد الذرائع، حيث اعتبروا أن الذرائع عبارة عن مصلحة تؤدي إلى محظور، وهو غالبا يكون في جائز يتذرع به إلى حرام، مما يؤدي إلى النظر في مآل الحكم لا في طبيعته وواقعه.
كما اعتبر أنصار فقه التوقع الإمام أبا حنيفة المرجعية العظمى فيه حيث يقول (نستعد للبلاء قبل وقوعه).
وعلى الفقهاء في العصر الحاضر أن يدركوا أهمية هذا العلم ويتعاملوا معه بعمق وفهم، ويتوقعوا داخل أعمالهم الاجتهادية أبعاد الحكم كلها وجوانبه المختلفة من حيث ما يفضي إليه حال الناس في بيئاتهم المختلفة، وما سيؤول إليه الأمر في الأزمان القادمة. فواقع الحياة متجدد ومتغير فنرى كل يوم اكتشافاً جديداً واختراعاً مبتكراً لم يسبق وأن مر على حياة الناس وهذا يستلزم البحث والنظر وإصدار الأحكام والفتاوى حتى لا توصف الشريعة الكاملة بالقصور وعدم القدرة على استيعاب مستجدات الحاضر والواقع الذي يعيشه الناس. يقول الشاطبي إن الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة وبذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد فلا بد من حدوث وقائع لا يكون منصوصاً على حكمها ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها على أهوائهم أو يُنظر فيها بغير اجتهاد شرعي وهو اتباع الهوى وذلك كله فساد الموافقات للشاطبي والاجتهاد يعني البحث عن معرفة أحكام لم يرد فيها نص ولا اجتماع عن طريق القياس أو المصلحة المرسلة أو العرف أو الاستصحاب أو غيره.
* كاتب سعودي
ومن معالم سماحة الشريعة الحكيمة وصلاحيتها، عنايتها بالواقع الحاضر والمتوقع المستقبلي أو باختصار: فقه الواقع والمتوقع، لكن هذا العلم مازال موضوعاً طرياً لم يحسم بعد، ولعلّ ذلك يعود إلى اعتراض وتحفظ بعض العلماء والفقهاء من الجواب عن المسائل التي لم تحصل بعد، وإن كان يوجد البعض الآخر من يؤيِّد ذلك. فما هو فقه التوقع؟ لا بد من بيان معناه لكي يكون مفهومه واضحاً.
وقد تناول نادي أبها الأدبي في محاضرة للدكتور الجرعي موضوع الفقه الحي وضرورة تفعيله لمواجهة قضايا اليوم «عكاظ 11 رمضان» تنوّعت تعاريف الفقهاء لمعنى (فقه التوقع) لكنها تصب في جدول علمي واحد إذ نجد من العلماء من يعبِّر عنه بالفقه الافتراضي، ومنهم من يعبِّر عنه بفقه المآلات، أو الفقه المستقبلي وما أشبه ذلك، لكن لا بد من إعطاء تعريف صحيح واضح، وتأصيله الشرعي وبيان أهميته في عصرنا الحاضر.
ففقه التوقع، يُراد به تصوّر ما يمكن أن يحدث في المستقبل القادم مع تطبيق الأصول الفقهية والضوابط الشرعية ومقاصد الشريعة في وضع أحكام شرعية له، حتى لا يُفاجأ المسلمون بأحداث جديدة ومستجدات في حياتهم وشؤونهم لا يعرفون لها حكماً، ففقه التوقع لا يتحرّك من زاوية الواقع وما يحدث فيه، وإنما من زاوية المستقبل وما يمكن أن يطرأ عليه.
ويرى العلامة الشيخ عبدالله بن بيّة أن ما يُسمّى بفقه الواقع أو فقه المآلات عبارة عن موازنة بين مصلحتين إحداهما أرجح، وإحداهما مستقبلية والأخرى حاضرة، أو توازن بين مفسدتين إحداهما مستقبلية والأخرى حاضرة، فنخلص من كلامه أن فقه التوقع: توازن بين حاضر ومستقبل، كما شدد على أن يكون الفقيه الذي يطبق فقه التوقع عليه أن يكون يقظاً نبيهاً يعرف ما ستؤول إليه الأفعال مستقبلياً فلو اشترى شخص من آخر عنباً على مذهب الإمامين: مالك وأحمد فسيفرق بين الشخصين الذي يريد هذا العنب ليعصر به خمراً، أو بين ذلك الذي يريده للأكل، فعلى الفقيه في هذه الحالة أن يكون يقظاً في تعامله مع الواقع، لأن المتوقع في حقيقته مآل للواقع.
ومن الأدلة التي استشهد بها أنصار (فقه التوقع) على مشروعيته قوله تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير..) فوجه الدلالة من الآية الكريمة يوحي بوضع الضابط المنهجي بين فقه الافتراض وفقه التوقع وقوله سبحانه: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) وقوله عز وجل (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) بناء على توقع بتوقُّف عند واحدة لا يتزوج أكثر من امرأة واحدة.
أما الأدلة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لأسست الكعبة على قواعد إبراهيم»، فوجه من الدلالة من الحديث الشريف أن العمل مشروع لكن مآله المستقبلي قد لا يكون كذلك. وكذلك أيضاً امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال المنافقين الذين كانوا يعيشون في المجتمع الإسلامي بالمدينة حتى لا يُقال إن محمداً يقتل أصحابه، ومفاد ذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه توقّع الحملة الإعلامية التي ينتج عنها تشويه صورة الإسلام وأهله فقال في شأن المنافق: «دعه لا تقتله، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» كما استدل أيضاً أنصار (فقه التوقع) بأصل سد الذرائع، حيث اعتبروا أن الذرائع عبارة عن مصلحة تؤدي إلى محظور، وهو غالبا يكون في جائز يتذرع به إلى حرام، مما يؤدي إلى النظر في مآل الحكم لا في طبيعته وواقعه.
كما اعتبر أنصار فقه التوقع الإمام أبا حنيفة المرجعية العظمى فيه حيث يقول (نستعد للبلاء قبل وقوعه).
وعلى الفقهاء في العصر الحاضر أن يدركوا أهمية هذا العلم ويتعاملوا معه بعمق وفهم، ويتوقعوا داخل أعمالهم الاجتهادية أبعاد الحكم كلها وجوانبه المختلفة من حيث ما يفضي إليه حال الناس في بيئاتهم المختلفة، وما سيؤول إليه الأمر في الأزمان القادمة. فواقع الحياة متجدد ومتغير فنرى كل يوم اكتشافاً جديداً واختراعاً مبتكراً لم يسبق وأن مر على حياة الناس وهذا يستلزم البحث والنظر وإصدار الأحكام والفتاوى حتى لا توصف الشريعة الكاملة بالقصور وعدم القدرة على استيعاب مستجدات الحاضر والواقع الذي يعيشه الناس. يقول الشاطبي إن الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة وبذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد فلا بد من حدوث وقائع لا يكون منصوصاً على حكمها ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها على أهوائهم أو يُنظر فيها بغير اجتهاد شرعي وهو اتباع الهوى وذلك كله فساد الموافقات للشاطبي والاجتهاد يعني البحث عن معرفة أحكام لم يرد فيها نص ولا اجتماع عن طريق القياس أو المصلحة المرسلة أو العرف أو الاستصحاب أو غيره.
* كاتب سعودي