العصافير لا تطلب إذنا لتطير!
الأربعاء / 09 / شوال / 1440 هـ الأربعاء 12 يونيو 2019 01:51
فؤاد مصطفى عزب
وكان عصفور القرية ساعي بريد اسمه «بل»، كان مسكا وصندلا يضوع بين البيوت العتيقة ذات القباب الجيرية والمداخن، والحوانيت والمتاجر وأماكن العبادة، يرفرف بينها كعصفور، رقيق مثل خيط الحرير، يعمل بصمت أشبه بطقس من العبادة، وعلى شفتيه ابتسامه لا تغيب، يحفظ تفاصيل شوارع القرية القديمة عن ظهر قلب، يمشي في غير بطء أو عجلة مثلما تمشي الغزالة الجريحة، ببنطاله الأسود وقميصه الأزرق السماوي الموشح بملصقات وشعارات موظفي البريد، وحقيبة جلدية تستعير من الجمل لونه ومن الزمان رونقه، قديمة لا تفارق كتفه، أحياناً تنتبه إليه وهو يغني في الطرقات بصوت خفيض لنفسه، أو يصفر لحنا محببا، يجوس يوميا وعلى مدى أربعين عاماً الطرقات، يستند على روحه ليصعد الدرج العتيق حيث بعض البيوت المرتفعة أعلى التل، لا أحد في هذه القرية لا يعرف «بل»، فهو سعيد كطفل، يداعب الجميع، ونقي نقاء الينابيع، يضع الرسائل بهدوء خالص في صناديقها، ينقل قدميه كما أنه لا يحس بمن حوله، يعرف سيرة حياة كل بيت، أربعون عاماً وهو يمشط القرية بأحماله الضاغطة من الرسائل والطرود وهدايا المناسبات، يحترمه الجميع، ويعتبرونه فردا من أفراد عوائلهم، لأنه لم يكن يقوم بوظيفته كواجب مدرسي ثقيل، في يوم تقاعده كتب أحاسيسه في رسالة نثرية رائعة وألقى بما كتب في صناديق بريد كل من تعود على خدمتهم قال فيها «لا يرجع شيء إلى الوراء، محال ذلك، مثلما لا تعود الخضرة إلى غصن ذابل جفت عروقه، ولقد أصبحت غصنا ذابلا جفت عروقه، أكتب إليكم بعاطفتي، العاطفة هي الإشارة الأولى لسن الشيخوخة، هذه القرية بحيواتها ورياحها وأماكنها، دخلتني وأصبحت جزءً كبيراً من حياتي، تمازجت بأنفاسي وشكلت هذا الجزاء الحي من وجودي، كنت على مدى أربعين عاماً أجوس هذه القرية يومياً وتمتدون في ذاكرتي، هنا ترعرعت وشبت، قدمت إليكم شاباً يافعاً وأترككم كهلاً عجوزاً، كنت أمشي بينكم وأنسى أحيانا أنني أمشي، اليوم كنت أحدق في أشجار اللوز على أطراف الطريق ومدخل بيت السيدة «اليزبث» التي أتت لتلتقط بريدها وهي تلوح لي، وما لبثت أن عانقتني عندما أبلغتها بأن اليوم هو آخر يوم في خدمتي، كان ذلك أجمل نشيد وداع أحسست به تعبيراً عن امتنان، عرفت «اليزبث» فتاة حديثة الزواج، وخبرتها أرملة والآن هي تحارب مرض الباركنسون أعانها الله، لن أشفى من محبتكم، ولكنني قد أشفى من مرض التجول في... التوقيع «بل».. الرسالة مثل عربة تضوع بالغرديينا، مثل خيط من أنين، وعناق بهيج من الآلام، ارتعشت في صمت وأنا أقرأ الرسالة وارتعش قلبي معي، صمت فاحم غريب، صمت من النوع الذي يلي الطلقة أو انهدام بيت من طبقات عديدة، فلا يعقبه غير الصدى والدخان والغبار، فكر أهل القرية كيف يقبضون على ما تبقى من الجميل قبل أن يضيع وينهشهم الندم، تبارى الأفراد والمؤسسات والشركات وأصحاب المحلات التجارية في إعداد مكافأة مناسبة لـ «بل» وكانت ليلة الوداع والتكريم في مركز المناسبات بالقرية، حشرت العربة في فراغ فجوة في خط أفقي طويل من العربات المتوقفة، كأني لم أر مثل هذا الجمال جمالا من قبل، أبدو مأخوذا ومباغتا بهذا التكريم والوفاء والامتنان، وحزينا، كان «بل» يقف مثل قشه أمام الزمن، الأيام ذهبت بالحصى والماء وذهبت بالوادي نفسه، وظل الوفاء والامتنان، أي متعة يقطرها هذا المساء تحت شمس هذا الغروب، بدا «بل» أنيقا متخلصا من «اليونفورم»، بنظارة ذهبية ونصف صلعة، كان يوزع نظراته على حضور يعرفهم ويعرفونه، يرفرف خجلا أقرب إلى البهجة الخفيفة، سيل من الخطب والكلام المطعم بعبارات الثناء وتقدير الجهد والشكر الحار والعرفان بالجميل، كلمات تتطاير كعصافير في وجه «بل» تضيء محياه، حمل الشيك في نهاية الحفل والهدايا، وتذكرة الإركاب والإقامة بالفندق في «هاواي» له وعائلته، كان نشوان كطفل عثر على ألعابه المفقودة، كان يبكي كموجة على ساحل، تنفرط لآلئ بيضاء كثيرة داخله، وهو يردد بعفوية شاجيهة ونبرة متهدجة، شكرا لا تكفي.. لن أنساكم.. سأهذب لمنزلي لأركع في صمت وأشكر ربي كما شكرتمونني وأصلي.. خرجت من الحفل بالرجفة ذاتها التي خرجت بها وأنا أقرأ رسالة «بل»، كنت أفكر فيما حدث وسؤال ممتد يتبعني من مركز المناسبات وحتى الدرج الموصل إلى سريري، ينتصب أمامي بحجم «برج العرب».. يا هل ترى كم موظف في عالمنا العربي خدم في وظيفة عامة حظي بمثل هذا التقدير والوداع عند رحيله ممن خدمهم!.
* كاتب سعودي
fouad5azab@gmail.com
* كاتب سعودي
fouad5azab@gmail.com