عباس طاشكندي.. جهود في خدمة تاريخ الحرمين الشريفين
السبت / 26 / شوال / 1440 هـ السبت 29 يونيو 2019 04:07
نجيب يماني
الدكتور عباس صالح طاشكندي، أحد الباحثين المميزين، الذين أوقفوا حياتهم العلمية والأكاديمية من أجل الحرمين الشريفين، فجاءت مسيرته العلمية والأكاديمية والعملية أيضاً مرتبطة بتاريخ مكة المكرمة والمدينة المنورة، بما يكشف عن نفس توطنت بحب المدينتين المقدستين، فنالت شرف البحث في تاريخهما وآثارهما، ويتجلّى ذلك في رئاسته لتحرير «موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة»، التي قدمت للساحة الفكرية والأدبية والمعرفية مؤخّراً المجلد التاسع، في سياق متصل من جهد مقدّر، يسعى نحو رفد المكتبة السعودية والعربية بموسوعة شاملة وموثقة ومنضبطة، سيجد فيها الباحثون عن تاريخ وحضارة أرض الحرمين الشريفين بغيتهم ومرادهم من المعلومات الموثقة، والمدعومة في كثير من الأحيان بالآية والحديث والتاريخ والشواهد.
وعلى ذات النسق المهتم بشؤون البلدتين المقدستين، قدم الدكتور طاشكندي للساحة خمس مؤلفات له، ضمن سلسلة الدراسات المكّية والمدنية، الصادرة عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، والتي يرأس مجلس إدارتها معالي الشيخ أحمد زكي يماني، أمدّ الله في عمره.
ومن مؤلفات الدكتور طاشكندي: الحجرة النبوية الشريف، خزائن الكتب الخاصة في بلاد الحرمين الشريفين منذ العهد النبوي الشريف وحتى الوقت الحاضر، تاريخ حلقات العلم في الحرمين الشريفين، أعلام حدود حرم المدينة المنورة وإجازات علماء وعالمات الحرمين الشريفين لعلماء الأمصار.
ولست هنا بصدد استقصاء ما جاء في هذه المؤلفات القيمة من علم ومعرفة وتاريخ موثق، صيغ بلغة رفيعة، وأسلوب تميز به قلم الدكتور طاشكندي السيّال، وإنما غايتي أن أشير باتجاه هذه الأسفار المفيدة، بحيث ينال كل مؤلف منها ما يستحقه من الدرس والعناية والتمحيص والإشادة والتقريظ، فكلها جديرة بالحفاوة، وقمينة بأن يبذل الوقت الثمين في قراءتها والاستمتاع بها..
غير أني مع هذه الإلماحة العابرة لهذه المؤلفات، لا أجد بدّاً من الوقوف يسيراً مع كتابي: «تاريخ حلقات العلم في الحرمين الشريفين»، و«إجازات علماء وعالمات الحرمين الشريفين لعلماء الأمصار»، لما انطويا عليه من تاريخ علمي، وسيرة علماء أفذاذ كاد النسيان أن يطمر سيرهم، ويطوي صفحة عطائهم، فلا تعرف لهم الأجيال ذكراً، ولا تحس لهم أثراً في حياتهم.
فالكتاب الأول «تاريخ حلقات العلم في الحرمين الشريفين» يصور بشكل دقيق الحركة العلمية النشطة التي كانت أروقة الحرمين الشريفين تشهدها، من حلقات العلم، التي كانت تدرّس المذاهب الأربعة الشائعة: الشافعية، والمالكية، والحنبلية، والحنفية، ولم يكن ذلك بالأمر الحادث أو المبتدع، فالمؤلف يوثق لتاريخ نشوء هذه الحلقات ويرده إلى عهد بعيد يعود إلى صدر الإسلام، وما تلا ذلك من عصور ازدهرت فيها حركة التأليف والتصانيف والمجلدات، ونشطت فيها حركة العلم، وبقيت الحلقات في الحرمين الشريفين تؤدي دورها في نشر العلم على هذه المذاهب الأربعة التي تواطأت الأمة الإسلامية عليها، واتفقت على ما جاء فيها، على ما بينها من تباين في بعض مسائل الفروع، مع اتفاق لا خلاف فيه في الأصول المرعية، وهي ما أسس لقاعدة الاحترام المتبادل، وانتفاء أي مظهر من مظاهر التبخيس والتقليل من شأن مذهب من المذاهب، فكان الاختلاف بينها رحمة، ظهرت معانيها في رسوخ الوسطية، واجتثاث أي مظهر من مظاهر الغلو والتطرف، خلافاً لما عرفته ساحتنا لاحقاً حين غابت هذه الحلقات عن سوح الحرمين الشريفين، وتعالى صوت واحد فيها مختصراً كل ذلك التنوع الفريد، والتنوع الفكري، والثراء المعرفي..
وقفزاً فوق العصور، وصولاً إلى العهد السعودي الزاهر، فقد ظلت هذه الحلقات العلمية، والتي عرفت أيضاً بـ«الحصوات»، تلعب دورها المنوط بها، وتنشر العلم الرباني لطالبيه من أبناء البلدتين الطاهرتين، وزوارها.. ولست أخفي شعوراً بالفخر والاعتزاز بانتمائي لأسرة كان لها إسهامها المقدر في هذه الحلقات، على نحو ما هو معروف وموثق، وهو ما أشار إليه الدكتور طاشكندي في كتابه هذا، تحت فصل «حلقات العلم في العصر السعودي»، والتي اهتمت في مجملها بتدريس علوم: التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والعلوم العربية بأنواعها، وكان لـ«آل يماني» سهم وافر ومقدّر في تلك الحصوات والحلقات، ففي حصوة باب النبي كانت تقوم حلقة الشيخ سعيد يماني في الفقه الشافعي، وحسن يماني في الحديث وأصول الفقه، ومحمد علي يماني في حصوة باب الباسطية، وصالح يماني في حصوة باب العمرة في اللغة العربية والفقه الشافعي. ويمتد العطاء إلى الأروقة أيضاً ففي باب رواق الزيادة ورواق إبراهيم ورواق باب النبي يعقد الشيخ سعيد يماني حلقته، وتكفي هذه الإشارة لمحاً لدور آل يماني في نشر العلم على مذهب الإمام الشافعي في سوح الحرمين الشريفين، بما خلّد ذكرهم بالخير، بخاصة وأن هم كانوا مشايخ لعلماء زاروا الحرم ونهلوا منه وعادوا لأوطانهم بالفضل العظيم..
غاية القول، إن ما قدمه الدكتور طاشكندي في مؤلفاته الخمسة يمثل إسهاماً مقدراً في التوثيق وحفظ تاريخ الحرمين الشريفين والأنشطة العلمية التي كانت تدور فيهما على مختلف الحقب، وهو لعمري جهد يتوجب الاطلاع عليه، بخاصة في زمننا الحاضر، وقد طغى فيه الصوت الواحد، وتعالت فيه أصوات الغلو والتطرف، وكثر فيه النكير والتبديع والتفسيق بغير سند علمي وحجة من معرفة، والكل يفتي وينظر ولم نعد نسمع حين الفتيا من يقول «الله ورسوله أعلم».. ووفق الله صاحب الموسوعة الشيخ أحمد زكي يماني في إصدار مجلداتها تباعاً.
* كاتب سعودي
وعلى ذات النسق المهتم بشؤون البلدتين المقدستين، قدم الدكتور طاشكندي للساحة خمس مؤلفات له، ضمن سلسلة الدراسات المكّية والمدنية، الصادرة عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، والتي يرأس مجلس إدارتها معالي الشيخ أحمد زكي يماني، أمدّ الله في عمره.
ومن مؤلفات الدكتور طاشكندي: الحجرة النبوية الشريف، خزائن الكتب الخاصة في بلاد الحرمين الشريفين منذ العهد النبوي الشريف وحتى الوقت الحاضر، تاريخ حلقات العلم في الحرمين الشريفين، أعلام حدود حرم المدينة المنورة وإجازات علماء وعالمات الحرمين الشريفين لعلماء الأمصار.
ولست هنا بصدد استقصاء ما جاء في هذه المؤلفات القيمة من علم ومعرفة وتاريخ موثق، صيغ بلغة رفيعة، وأسلوب تميز به قلم الدكتور طاشكندي السيّال، وإنما غايتي أن أشير باتجاه هذه الأسفار المفيدة، بحيث ينال كل مؤلف منها ما يستحقه من الدرس والعناية والتمحيص والإشادة والتقريظ، فكلها جديرة بالحفاوة، وقمينة بأن يبذل الوقت الثمين في قراءتها والاستمتاع بها..
غير أني مع هذه الإلماحة العابرة لهذه المؤلفات، لا أجد بدّاً من الوقوف يسيراً مع كتابي: «تاريخ حلقات العلم في الحرمين الشريفين»، و«إجازات علماء وعالمات الحرمين الشريفين لعلماء الأمصار»، لما انطويا عليه من تاريخ علمي، وسيرة علماء أفذاذ كاد النسيان أن يطمر سيرهم، ويطوي صفحة عطائهم، فلا تعرف لهم الأجيال ذكراً، ولا تحس لهم أثراً في حياتهم.
فالكتاب الأول «تاريخ حلقات العلم في الحرمين الشريفين» يصور بشكل دقيق الحركة العلمية النشطة التي كانت أروقة الحرمين الشريفين تشهدها، من حلقات العلم، التي كانت تدرّس المذاهب الأربعة الشائعة: الشافعية، والمالكية، والحنبلية، والحنفية، ولم يكن ذلك بالأمر الحادث أو المبتدع، فالمؤلف يوثق لتاريخ نشوء هذه الحلقات ويرده إلى عهد بعيد يعود إلى صدر الإسلام، وما تلا ذلك من عصور ازدهرت فيها حركة التأليف والتصانيف والمجلدات، ونشطت فيها حركة العلم، وبقيت الحلقات في الحرمين الشريفين تؤدي دورها في نشر العلم على هذه المذاهب الأربعة التي تواطأت الأمة الإسلامية عليها، واتفقت على ما جاء فيها، على ما بينها من تباين في بعض مسائل الفروع، مع اتفاق لا خلاف فيه في الأصول المرعية، وهي ما أسس لقاعدة الاحترام المتبادل، وانتفاء أي مظهر من مظاهر التبخيس والتقليل من شأن مذهب من المذاهب، فكان الاختلاف بينها رحمة، ظهرت معانيها في رسوخ الوسطية، واجتثاث أي مظهر من مظاهر الغلو والتطرف، خلافاً لما عرفته ساحتنا لاحقاً حين غابت هذه الحلقات عن سوح الحرمين الشريفين، وتعالى صوت واحد فيها مختصراً كل ذلك التنوع الفريد، والتنوع الفكري، والثراء المعرفي..
وقفزاً فوق العصور، وصولاً إلى العهد السعودي الزاهر، فقد ظلت هذه الحلقات العلمية، والتي عرفت أيضاً بـ«الحصوات»، تلعب دورها المنوط بها، وتنشر العلم الرباني لطالبيه من أبناء البلدتين الطاهرتين، وزوارها.. ولست أخفي شعوراً بالفخر والاعتزاز بانتمائي لأسرة كان لها إسهامها المقدر في هذه الحلقات، على نحو ما هو معروف وموثق، وهو ما أشار إليه الدكتور طاشكندي في كتابه هذا، تحت فصل «حلقات العلم في العصر السعودي»، والتي اهتمت في مجملها بتدريس علوم: التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والعلوم العربية بأنواعها، وكان لـ«آل يماني» سهم وافر ومقدّر في تلك الحصوات والحلقات، ففي حصوة باب النبي كانت تقوم حلقة الشيخ سعيد يماني في الفقه الشافعي، وحسن يماني في الحديث وأصول الفقه، ومحمد علي يماني في حصوة باب الباسطية، وصالح يماني في حصوة باب العمرة في اللغة العربية والفقه الشافعي. ويمتد العطاء إلى الأروقة أيضاً ففي باب رواق الزيادة ورواق إبراهيم ورواق باب النبي يعقد الشيخ سعيد يماني حلقته، وتكفي هذه الإشارة لمحاً لدور آل يماني في نشر العلم على مذهب الإمام الشافعي في سوح الحرمين الشريفين، بما خلّد ذكرهم بالخير، بخاصة وأن هم كانوا مشايخ لعلماء زاروا الحرم ونهلوا منه وعادوا لأوطانهم بالفضل العظيم..
غاية القول، إن ما قدمه الدكتور طاشكندي في مؤلفاته الخمسة يمثل إسهاماً مقدراً في التوثيق وحفظ تاريخ الحرمين الشريفين والأنشطة العلمية التي كانت تدور فيهما على مختلف الحقب، وهو لعمري جهد يتوجب الاطلاع عليه، بخاصة في زمننا الحاضر، وقد طغى فيه الصوت الواحد، وتعالت فيه أصوات الغلو والتطرف، وكثر فيه النكير والتبديع والتفسيق بغير سند علمي وحجة من معرفة، والكل يفتي وينظر ولم نعد نسمع حين الفتيا من يقول «الله ورسوله أعلم».. ووفق الله صاحب الموسوعة الشيخ أحمد زكي يماني في إصدار مجلداتها تباعاً.
* كاتب سعودي