أخبار

خطيب المسجد الحرام يستعرض مواقف الرسول في «حجة الوداع»

عكاظ (مكة المكرمة)

تحدث إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامه خياط عن الحجة التي حجها رسول الله صلى الله عليه و سلم وسميت بحجة الوداع والتي لها أثار جليلة، ما جعلها بمثابة جامعة سيّارة، ومعهدًا رحَّالاً، ومدرسة متنقلة، يتعلم فيها من جهل، و يتنبه فيها من غفل، وينشط فيها من كسل، ويقوي فيها من ضعف، ويجدد العهد بما اندرس من معالم الهداية، ويستبين بها ما خفي والتبس من مسالك الرشد وسُبُلِ السعادة.

وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: لقد كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الحجة الشريفة مواقف إرشاد للأمة، يبصرها بما فيه خيرها في العاجلة، و ما تكون لها به حسن المآب في الآجلة، ورسم لها خطط السير الراشد السديد، الذي تأمن به من العثار، وتسلم به عن التردي في وهدة الحياة الصاخبة الفتانة، بلهوها ولغوها وزينتها، فتمضي على الجادة، وتثبت على الصراط، وتستقيم على الطريق، دون انحراف عن الحق، أو حيدة عن الهدى.

وأضاف قائلاً: إن من أظهر هذه المواقف النبوية يا عباد الله ذلك الموقف العظيم الذي كان له في خطبته العظيمة يوم عرفة، وفي خطبته صلى الله عليه وسلم يوم النحر, حيث وضع فيهما أصول الدين، وأرسى قواعد العدالة، وقرر حقوق الإنسان، وأبطل النعرات والعصبيات التي تصور حمية الجاهلية الفاسدة المفسدة، التي تفُلُّ الروابط وتقطع الوشائج، وتفرّق الكلمة وتشق الصف، ويتسع بها الصدع، وأعلن صلوات الله وسلامه عليه إلغاء قضايا في الدماء والمعاملات الاقتصادية كانت مثار الشغب، وباعث قلاقل في الجاهلية، وهدم مذاهبها في إنساء الأشهر الحرم مناهضة منها لشريعة الله، وأوصى بالنساء خيرا، وحث على إعطائهن حقوقهن رفعًا لما كانت تصنعه الجاهلية من إهدار لهذه الحقوق، وجحدٍ لها، وتجافٍ عنها بالجملة فهما خطبتان ترسمان منهجاً إسلامياً واضح المعالم، بيِّن القواعد، ظاهر الأصول.

وأوضح فضيلته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجته يوم عرفة، في بطن عُرنة على ظهر ناقته، وتوجه بالخطاب إلى ذلك الحشد المبارك، الذي حاز شرف الحج معه صلوات الله وسلامه عليه، حين هفت القلوب، ورنت العيون، وأصاخت الأسماع، وتهيأت النفوس وتمهدت للتعلم والاهتداء والاقتداء، فاستهل عليه الصلاة والسلام خطبته الشريفة بقولةٍ مثيرة للأشجان، مهيجة للأحزان، لكنها مع ذلك تسترعي الانتباه، وتستدعي التيقظ والاهتمام، حيث قال: «أيها الناس اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً», ثم أخذ صلى الله عليه وسلم في تخطيطه لصلاح أحوال العباد في العاجل والآجل، و بيان أسباب ذلك والحث على الاستمساك به، مبتدئًا بالدماء والأموال، فأحاطهما بسياج منيع يحفظهما من الجرأة عليهما بسفكها في غير حق، وإهدارهما دون موجب، إذ بصونها وحفظ حرمتها قوام أمر الأمة، ودعامة بناء المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: (أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربَّكم كحُرمةَ يومِكم هذا، في شَهرِكم هذا، في بلدِكم هذا), وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم النحر قوله: (فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا). فأعادها مرارًا.

وبين فضيلته أن حرمة الدماء والأموال هي من الدعائم الخمس الضروريات، التي لابد منها ولا قيام لحياة الخلق إلا بها ففي تقرير حرمة الدماء بيَّن ربنا عز اسمه عِظَم جُرم من اجترأ على الدم الحرام بغير حق، وتوعده بالوعيد الصارخ المرعب للقلب الحي الواعي, حيث أشار رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربَّكم..) إلى أن حصانة دم المسلم وحصانة ماله، التي عبَّر عنها بالحُرمة - أشار بذلك - إلى أنها حصانة أبدية، لا تسقط إلا بمسوغ شرعي، كإقامة الحد على القاتل، أو القصاص من الزاني المحصن، أو أخذ الزكاة جبرًا من مانعها مع تغريمه.

وأكد أنه في تقرير حرمة الأموال التي جاءت بها هذه الخطبة الجامعة العظيمة، كفلت الشريعة المباركة المطهرة للإنسان حرية التملك بالوسائل المشروعة، والسبل المباحة، و حرية التصرف في ماله على الوجه المأذون فيه، وبيَّنت طرق التملك وشروطها التي تتحقق بها العدالة بين الناس، في تعاملاتهم، وقررت أن مع حقه في هذا التصرف المشروع بماله واجب مراعاة حق غيره، فلا يجوز الإضرار بهم بأي لون وفي أي تعامل، وألزمته إن أخلَّ بذلك بالتعويض أو ردِّ البدل عما تعدَّى عليه أو أتلفه أو أخذه بغير حق، وأساس ذلك وقاعدته.

وأشار الدكتور خياط إلة أنه وفي سبيل حفظ المال وحمايته من العوادي، شرع حد قطع يد السارق، وحرم الغش والخيانة، وإتلاف مال الآخرين، وألزم من أتلفه بالضمان، كما شرع الحجر على السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله، وحرَّم الربا، و رفع الضرر بكل ضروبه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرَرَ ولا ضِرارَ).

وقال فضيلته: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ختم هذا الجزء من خطبته بقوله مستجيشًا في النفوس عوامل الرهبة من لقاء الله تعالى، والخشية من مناقشة الحساب عنده فقال: (وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلَّغت..). ثم انتقل -بعد ذلك- إلى الحض على أداء الأمانات، ورعاية حق المؤمن، وفاءً بالحقوق الفردية، وحفاظًا على الذمم، واستدامة للثقة بين المسلمين فقال: (فمن كانت عندَهُ أمانةٌ فليؤدِّها إلى منِ ائتمنَهُ عليْها)، و عقّب صلى الله عليه وسلم بهذا التعامل الفردي بالنهي عن أخطر تعامل اجتماعي تواضعت عليه الجاهلية، وتعارفت عليه مجتمعاتها، ألا وهو أكل الربا، فقال: (وإنَّ كلَّ شيءٍ مِن أمْرِ الجاهليَّةِ تحتَ قدَمَيَّ موضوعٌ، و رِبا الجاهليَّةِ مَوضوعٌ).

وأكد أن صلوات الله وسلامه عليه شرع بإنفاذ ذلك وهو في موقفه، فبدأ بوضع وإسقاط ربا أهل بيته ليختط بذلك القدوة، ولتكون فيه الأسوة، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإنَّ أَولَ ربا أبدأُ به هو ربا العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ فهو موضوعٌ كلُّهُ), وهو خروج من العهدة، وتجافٍ عن التبعة في هذا الكسب الذي توعد ربنا عز وجل آكله والآخذ في دروبه بأشد الوعيد, وقال كما بدأ صلى الله عليه وسلم في وضع الربا وإسقاطه بأهل بيته، بدأ في وضع دماء الجاهلية وثاراتها التي كانت مبعث عدم استقرار، وشرارة اشتعال النار بينهم، بدأ وضعها بأهل بيته أيضًا فقال: (وإنَّ كلَّ دمٍ كانَ في الجاهليَّةِ موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ دم أضعه دمُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ المطَّلب- وَكانَ مستَرضَعًا في بني سعد، فقتلتْهُ هُذيلٍ), وتلك أنجح وسيلة، وأمضى طريقة للقدوة، وأحكم سبيل لإنفاذ ما يرسمه المُشرِّعُ لتشريعه, أن يبدأ بتنفيذه في خاصة نفسه وذويه.

وأضاف فضيلته قائلاً: وانتقل صلوات الله وسلامه عليه -بعد ذلك- إلى حكاية واقع الأمة التي جمع الله به شملها، ووحد بين قلوبها، وقضى على الفرقة بينها، وأن الشيطان لم يعُد له مطمع في أن يُعبد في أرضها، وحذر صلى الله عليه وسلم -مع ذلك- من أن تعود الأمة بعد لم الشعث، واجتماع الكلمة، إلى بلاء التناحر وطاعة الشيطان فيما يوسوس به من معصية، وما يزين من خطيئة؛ والخطايا والمعاصي بريدُ الكفر، ومدرجة الضلال، وهي أخطر ما تكون على دين المرء وإيمانه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس: إنَّ الشيطانَ قد أيسَ أن يُعْبَدَ بأرضِكم هذه، و لكنَّهُ إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضيَ به مما تحقِّرونَ من أعمالكم؛ فاحذروه على دينكم).

ولفت إلى أنه صلى الله عليه وسلم عرض -بعد ذلك- للنسيء وتحريمه، وهو تأخير تحريم شهر حرام إلى آخر، وكان تعظيم الأشهر الحرم مما تمسكت به العرب من بقايا ملة إبراهيم عليه السلام، لكنهم كانوا إذا وقعت لهم حرب في بعض هذه الأشهر كرهوا تأخيرها عن الشهر الحرام، فكانوا ينسئون تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر، وهكذا يؤخرون التحريم من شهر إلى شهر بأهوائهم وفق ما تقتضيه ظروفهم، حتى استدار التحريم على السنة كلها، حتى كانوا يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون في السنة القابلة في شهر آخر.

وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حج في شهر ذي الحجة، وأعلمهم أن التأخير للأشهر الحرم هو من ضلال الجاهلية يزدادون به كفرًا على أصل كفرهم، وأن الأمر قد عاد إلى ما كان عليه، وما وضع الله عليه حساب الأشهر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الزمانَ قد ِاستدارَ كهيئة يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ، وإنَّ عِدَّة الشهورِ عند اللهِ اثنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ، منهَا أربعةٌ حرمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٌ، ذو القِعدة وذو الحِجَّة والمحَرَّمُ، ورجبُ مُضَرَ الذِي بين جُمادَى وشَعْبانَ. ألا هل بلغت؟ اللهم فأشهد.

وأكد الشيخ الخياط أن ممَّا جاء في خُطبته - صلوات الله وسلامه عليه - في حَجَّة الوداع الوصيَّةُ بالنِّساء، وبيانُ حقوقهنَّ وما يجب عليهنَّ؛ ممَّا يُحفَظ به الوُدُّ، وتَتِمُّ به الأُلفةُ، وتُستدامُ به المحبَّة، ويتمُّ به حُسنُ العِشرة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (أيُّها النَّاسُ: إنَّ لكم على نِسائكم حقًّا، وإنَّ لهنَّ عليكم حقًّا: لكم عليهنَّ ألَّا يُوطئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدْخِلْنَ أحدًا تكرهونه بيوتَكم إلَّا بإذنكم؛ فإنْ فعلنَ؛ فإنَّ اللهَ قد أَذِن لكم أنْ تَعِظوهنَّ، وتهجروهنَّ في المضاجِع، وتضربوهنَّ ضَربًا غيرَ مُبرِّح-أي غير شديدٍ وغير مؤلم- فإنِ انتهينَ وأطعْنَكم؛ فعليكم رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروف، واستوصوا بالنِّساء خيرًا؛ فإنَّهنَّ عوانٍ عندكم، لا يملِكنَ لأنفسهنَّ شيئًا، وإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانةِ الله، واستحللتُم فروجهنَّ بكلمةِ الله، فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ، واستوصُوا بهنَّ خيرًا. ألا هلْ بلَّغتُ؟ اللهمَّ أشهَدْ.

وقال فضيلته: بهذه الوَصيَّة الجامعة العظيمة بالنِّساء ضرب رسولُ الهُدى-صلواتُ الله وسلامُه عليه- أروعَ الأمثال في التَّقدير الحقِّ لا الزَّائف للمرأة، ودلَّ بذلك على أنَّها لم تَعُدْ في دين الإسلام كما كانتْ عليه في الجاهليَّة وكأنَّها من سَقَط المتاع: لا كرامةَ لها، ولا حُرمةَ، ولا رأيَ، ولا مكانةَ, بل أصبحَتْ شقيقةَ الرَّجل، لها حقوقُها مثلُ ما له من الحقوق، وعليها من الواجبات مثل ما عليه من الواجبات.

وأردف قائلاً: وختم صلى الله عليه وسلم خطبته الشَّريفة بالتَّوجيه إلى الاعتصام بدُستور الإسلام الخالد الصَّالح المُصلِح لأحوال البشر على مرِّ الأزمان، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (تركتُ فيكم ما إنْ تمسَّكتُم به لن تضِلُّوا أبدًا: كتابَ اللهِ، وسُنَّةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم).

وقال فضيلته: في بعض الطُّرق -التي رُوِيتْ بها هذه الخطبةُ العظيمة الجامعة وخطبة يوم النَّحر- جاء قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ( أيُّها النَّاسُ: اسمعوا قولي: تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلمٍ أخٌ للمسلم؛ فلا يَحِلُّ لامرئٍ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفسٍ منه. ألا هلْ بلَّغتُ؟ اللهمَّ أشهدْ.أيُّها النَّاسُ: إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، كلُّكم لآدمَ، وآدمُ من ترابٍ، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربيٍّ فضلٌ على عجميٍّ إلا بالتَّقوى. ألا هل بلَّغتُ؟ اللهمَّ أشهدْ.

وأنتُم تُسألون عنِّي فما أنتم قائلونَ؟ قالوا: نشهدُ أنَّك قدْ بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقال بأُصبُعه السَّبَّابةِ يرفعها إلى السَّماء ويَقلِبها على النَّاس: اللهمَّ اشهَدْ. اللهمَّ اشهَدْ. اللهمَّ أشهدْ).

وأضاف قائلاً: إنَّ في هذا الإشهاد لمَا يفتح الأذهانَ على مسؤوليَّة ضخمة حمَّلها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للأمَّة على تعاقُب العُصور؛ فإنَّ هذه الخطبةَ وما عَرضتْ له من سُبل الهداية، وما رسمته من خُطط الإصلاح، لا تعني عصرًا دون آخر، بل تعني الأجيالَ كلَّها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإنَّ في إشهاد الرَّسول الكريم ربَّه على أمَّته بالبلاغ: الإعذارَ البيِّنَ ممَّن نكب عن السَّبيل، وحاد عن الجادَّة، ولم يَرفعْ بهذا التَّبليغ رأسًا، ولم يرجُ لله وقارًا بتقدير عظمة إشهاده سبحانه. بل وفيه: الوعيدُ ضمنًا لمن عصاه واتَّبع هواهُ، وكان أمرُه فرُطًا.