عندما نجيد قراءة التاريخ «والواقع معاً»
الأحد / 18 / ذو القعدة / 1440 هـ الاحد 21 يوليو 2019 22:42
محمد مفتي
تتهاوى بعض الأمم بينما تنهض أخرى وتتعافى سريعاً، وتتقدم أخرى وتنمو بينما تظل أخرى في القاع، تتحسن معيشة بعض الشعوب وتتقدم باطراد وتمتلك أدوات التنمية المستدامة مع مرور الوقت، بينما تتخلف بعض الشعوب الأخرى وتتراجع حتى تصبح الأجيال الجديدة أسوأ حالاً ممن سبقها رغم مرور الزمن وتعاقب العصور، ويعود هذا الأمر لجملة من الأسباب لعل أهمها هو أن الفئة الناجحة هي من تجيد قراءة التاريخ جيداً، وهى أيضاً من تستطيع استكناه الواقع واستشفاف المستقبل، والأهم من ذلك هي من تملك رؤية استراتيجية واضحة ونظرة استشرافية ثاقبة.
لم تسلم المملكة منذ تأسيسها من الفتن الداخلية والخارجية، ويشاء المولى أن يخصها بموارد فريدة وخصوصية نادرة، فالمملكة دولة شاسعة المساحة، وهي مهبط رسالة خاتم الأنبياء وأرض الحرمين الشريفين، وبخلاف ذلك حباها الله بموقع استراتيجي تنافسي لا يضاهى وبموارد طبيعية سخية، ونظراً لكل تلك المقومات ظلت على الدوام مطمعاً وهدفاً يثير لعاب وشهية الأعداء، حتى من أشقائها وجيرانها ممن يشاركونها العقيدة واللغة والتاريخ، وهو ما فطن إليه حكامها على الدوام، لذا استلزم الأمر دوما إعداد استراتيجية محكمة تراعي تلك المقومات وهذه الأخطار في آن واحد، وتحفظ أمن الشعب وتحمي استقراره وازدهاره الذي حرص عليهما جميع ملوك المملكة دونما أدنى استثناء.
وقد تتطلب الوضع الخاص بالمملكة أن تكون دوماً على مستوى عالٍ من الجاهزية، لا سيما أن الأخطار تركزت حولها في الشمال والجنوب والشرق، وذلك حتى تتمكن من الدفاع عن كل شبر من أراضيها، غير أن أخطر عدو هو ذلك الذي يقبع خلف الخليج العربي متربصاً بها، ومتحيناً الفرصة تلو الأخرى للانقضاض عليها والتهام خيراتها، ومن الجدير بالذكر أن إيران لا تعادي المملكة على نحو سياسي فحسب، بل تعاديها عن عقيدة وإيمان، ويكفينا أن نشير إلى الدور الذي بدأت إيران في لعبه على الساحة الإقليمية خلال ما يقارب العشرين عاماً، من تغلغل في العراق واليمن ولبنان وسورية، في عملية تبدل لاستراتيجيتها من المواجهة المباشرة إلى دعم الحروب بالوكالة، وذلك عقب محاولات لا تنتهي لاستفزاز المملكة وجرها لمستنقع الحرب.
غير أن المملكة لم تقع أبداً في الشرك الإيراني، وظلت على استراتيجيتها الدائمة في مراقبة الأمور عن كثب مع الكثير من الحيطة والحذر التام، وهو الأمر الذي تتطلب منها جاهزية عسكرية دائمة، وخاصة بعد اتضاح نية إيران خلال حرب الخليج الأولى في احتلال جنوب العراق كمنفذ لها لاحتلال الكويت، ثم المرور عبرها لاحتلال أرض الحرمين الشريفين، فكان لابد للمملكة من أن تُحدِّث قواتها المسلحة بكل ما تستطيع من إمكانيات، ولكن مع كامل الحذر من الوقوع في مستنقع الحرب.
ما تم ذكره في الفقرة السابقة يوضح سبب دعم السعودية للعراق في حربه ضد إيران، التي لم تهدأ أطماعها على الرغم من انتهاء الحرب وتجرع الخميني كأساً من السم على حد وصفه، فبانتهاء حرب الخليج الأولى كانت الدولتان على شفا كارثة محققة، فقد استنزفت الحرب ما يقارب النصف تريليون دولار، مع قتلى وجرحى يناهز عددهم المليون ضحية، وبنية تحتية منهارة ودولة منهكة، وقد عادت كلتا الدولتين بعد انتهاء الحرب لمربع الصفر دون إحراز أي نصر لأي منهما.
غير أنه من الواضح أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لم يتعظ من تجربة الحرب، ولم يتمكن من قراءة الواقع جيداً؛ حيث وجد الأخير نفسه بعد الحرب منهاراً على الكثير من الأصعدة، فاقتصاده المنهك كان يئن تحت وطأة ديون بلغت مليارات الدولارات، وشعبه كان محبطاً معدماً مفجوعاً بكمية الضحايا من الشهداء والأرامل والأيتام والثكالى، غير أن ترسانته المسلحة كانت ضخمة، بل كانت توازي ما لدى دول منطقة الخليج، وعلى الرغم من أن دول الخليج أنفسهم هم من ساعدوه وساندوه -بعد المولى عز وجل- بدعم غير محسوب مكنه من صد هجوم المارد الإيراني واحتلاله للعراق، إلا أنه توصل إلى أن جميع مشاكله الاقتصادية لن تحل إلا من خلال احتلال الكويت!، وهو ما ذكره لطيف يحيى في كتابه «كنت ابناً للرئيس»، ولم يحتفظ صدام كثيراً بالفكرة بل سارع بتطبيقها على الفور واحتل الكويت عام 1990، وأعلنها المحافظة رقم 19 العراقية، وعلى الرغم من محاولة المملكة احتواء الموقف بكل السبل، إلى حد سعيها للإسهام في إعمار العراق، إلا أن لعاب القيادة العراقية كان قد سال بالفعل على آبار النفط الكويتية، بل والسعودية أيضاً!.
اعتقد صدام أن وعوده -التي كشفت قيادة المملكة كذبها على الفور- بعدم نيته غزو المملكة كفيلة بطمأنة المملكة قيادة وشعباً، وقد برر موقفه وقتها بحشد قواته على حدود المملكة الشرقية بأنها مجرد تكتيك لمنع أي محاولة لتحرير الكويت، ونذكر في هذا السياق ما كتبه الجنرال العراقي السابق وفيق السامرائي في كتابه «حطام البوابة الشرقية»، أنه كانت هناك خطة جاهزة لاحتلال المنطقة الشرقية في المملكة، بهدف السيطرة على منابع النفط، وكان لها رمز كودى هو «روح الفتوح»، بيد أن القيادة في المملكة لم تكن لتنتظر مثل هذا الاعتراف حتى تأخذ حذرها، بل تصرفت سريعاً وعلى نحو حاسم بما مكنها من صد العدوان وحماية الأرض والشعب في آن واحد.
عقب احتلال صدام حسين للكويت استماتت بعض الدول العربية لكي تتم عملية تحرير الكويت من خلال قوات عربية فحسب، غير أن هذا المقترح حمل شركاً فطنت له المملكة على الفور، فمن جهة أدركت المملكة موقف بعض الدول العربية التي كان يُظهر زعماؤها تعاطفهم من خلال القنوات الرسمية، غير أنهم يقومون في الخفاء بمساومة الرئيس العراقي أملاً منهم في الحصول على قطعة من الكعكة، مما أدى لفقدانها الثقة في عقد تحالفات عربية عربية خوفاً من الغدر بها، مثلما حدث مع الشقيقة الكويت، غير أن السبب الحقيقي والاستراتيجي من خلال قرارها بالاستعانة بقوات دولية هو أنها لم ترد أن تخوض حربا طويلة منهكة مع العراق، على غرار حربه مع إيران.
لم ترغب المملكة من أجل درء الخطر العراقي وتحرير الكويت الانخراط في حرب طويلة قد تستمر لسنوات تؤدي إلى تدمير بنيتها التحتية وقتل شعبها وإهدار مليارات الدولارات، لقد كانت المملكة منذ نشأتها وحتى الآن تقيم وزناً للمواطن العادي وتولي الكثير من الاهتمام لاستقراره ولرفاهيته، والدخول في هذا النوع من الحروب طويلة الأمد غامضة النهاية ثقيلة الضحايا كارثية النتائج من شأنه أن يحول المملكة لدولة منهكة في شتى المجالات، كانت عواقب الحرب واضحة تماماً أمام قيادة المملكة، فبدلاً من استثمار الأموال والموارد في المزيد من التنمية المستدامة، والإنفاق على المدارس والمستشفيات وتطوير الجسور والطرق، والحفاظ على المكتسبات التي تمت حيازتها وتنميتها خلال السنوات السابقة، كانت الدولة ستسقط لا محالة في قبضة الديون المهلكة، ويعيش شعبها ما بين قتيل وجريح ومعاق، وتصبح الدولة مرتعاً خصباً لكل طامع ومرتزق وعميل، وهو الوضع الذي نشاهده مراراً وتكراراً في كل دولة عاثت الحروب فساداً فيها حتى قضت على الأخضر واليابس.
لقد فرض صدام وضعاً مخزياً بين الأشقاء في منطقة الخليج، وكان لابد من القيام بالخيار الصعب، وقد أرادت المملكة الخروج من ذلك المأزق بأقل الخسائر الممكنة، وقد تحقق للمملكة ما أرادته بفضل قراءة الواقع جيداً وفهم المتغيرات، ومن خلال الاستعانة بالقوات الدولية تم بالفعل تحرير الكويت من خلال عملية عسكرية سريعة، لم تتجاوز الشهرين تجنباً للخسائر المادية والمعنوية، وهو ما لم يكن سيتم تحقيقه إلا من خلال التحالف مع تلك القوات الدولية التي كانت تملك ترسانة عسكرية توازي -بل وتفوق- ما كان يمتلكه الطرف المعادي.
لم تلتفت المملكة -وقتئذ- للمحاولات المستميتة من بعض وسائل الإعلام العربية المعادية لإحراجها والادعاء بأن تلك القوات المشتركة لن تغادر منطقة الخليج، فقد غادرت تلك القوات المملكة بعد تحرير الكويت، أما إيران فقد أعادت ترتيب أوراقها مرة أخرى لتعاود هجومها على المملكة، ولكن مع تغيير جوهري في استراتيجيتها تلك المرة، فقد وجدت من الظروف ما ساعدها على التوغل في المنطقة من خلال الأبواب الخلفية، أو بما يمكن أن نطلق عليه الحروب بالوكالة، وذلك بعد فشل استراتيجيتها السابقة الممثلة في بناء طابور خامس يزعزع الدولة ويفكك أرجاءها، عقب الإجهاز عليه من خلال العديد من الضربات الأمنية الاستباقية التي اجتثت خلاياه النائمة واليقظة من جذورها على حد سواء.
ولكن لسوء حظ إيران، ولعدم قدرة نظامها على استقراء التاريخ أو قراءة الواقع، لم تتمكن من الاستمرار في دعمها لبعض الميليشيات المارقة وتغذية حروبها بالوكالة، وتم كشف جميع أوراقها كدولة راعية للإرهاب، وهو ما أدى لانسحاب الرئيس الأمريكي ترمب من اتفاقيته معها بشأن سلاحها النووي، ونظراً لانعدام الحكمة والفطنة لدى نظام طهران نجدها بدأت في التصعيد الخطير ضد المجتمع الدولي برمته وليس ضد الولايات المتحدة فحسب، وبدأت في ممارسة القرصنة البحرية في الخليج العربي للإضرار بالمصالح الاقتصادية للمملكة وحلفائها على حد سواء، وهو ما استدعى موافقة الملك سلمان -حفظه الله- على استضافة القوات الأمريكية على أراضي المملكة لحفظ السلام وتعزيز الاستقرار في منطقة الخليج.
ربما يتساءل البعض عن جدوى وجود هذه القوات فوق أراضي المملكة، والسبب هو أن المملكة تجيد قراءة الواقع بنفس إجادتها لقراءة التاريخ، فالمملكة لن تخوض المملكة حرباً ضد إيران على الرغم من تقدم الآلة العسكرية السعودية وضخامة ترسانتها الحربية المتطورة، لأنها لن تَعْلق في حرب استنزاف طويلة الأمد تستهلك مواردها وتستنزف قدراتها مع خصم لا يهمه أن يتقدم شعبه أو حتى يموت، ومن الجدير بالذكر أن منهج بناء التحالفات العسكرية هو منهج سياسي وعسكري تقوم به غالبية الدول ولا سيما المتقدمة منها، وكمثال تاريخي نجد الدول الأوروبية -على الرغم من قدراتها العسكرية اللافتة- قد تحالفت مع الولايات المتحدة من خلال حلف الناتو لمواجهة الاتحاد السوفياتي «سابقاً»، على الرغم من قدرة الكثير منها على مواجهته والانخراط في حرب ضده، غير أنهم -ولأسباب حضارية بالدرجة الأولى تتعلق بالرغبة في مواصلة عمليات التنمية- نجدهم قد اختاروا الاستظلال بمظلة الولايات المتحدة وبغطائها النووي لمواجهة الخطر السوفيتي.
تملك المملكة رؤية واستراتيجية ومنهجا، ولا تريد أن تنضم لقائمة دول العالم الثالث ممن يعاني شعوبها الجهل والفقر والمرض، لقد اختارت المملكة الطرف الأقوى في المعادلة العسكرية للتحالف معه، مثلما اختارته من قبل لتخرج من حرب الخليج الثانية ببنية تحتية سليمة وبمجتمع متماسك، وقد اختارته أيضاً لإنهاء أمد الحرب -إن فرضت عليها- لأقصر مدى ممكن، ولإحراز نصر سريع حاسم، ولاستكمال مسيرة التنمية التي أحرزت خطوات لافتة فيها، ولأن ذلك هو الخيار الأفضل والأكثر ذكاء لوضع لم تختره بنفسها، بل أصر خصم غبي وعدواني على إرغامها عليه.
* كاتب سعودي
لم تسلم المملكة منذ تأسيسها من الفتن الداخلية والخارجية، ويشاء المولى أن يخصها بموارد فريدة وخصوصية نادرة، فالمملكة دولة شاسعة المساحة، وهي مهبط رسالة خاتم الأنبياء وأرض الحرمين الشريفين، وبخلاف ذلك حباها الله بموقع استراتيجي تنافسي لا يضاهى وبموارد طبيعية سخية، ونظراً لكل تلك المقومات ظلت على الدوام مطمعاً وهدفاً يثير لعاب وشهية الأعداء، حتى من أشقائها وجيرانها ممن يشاركونها العقيدة واللغة والتاريخ، وهو ما فطن إليه حكامها على الدوام، لذا استلزم الأمر دوما إعداد استراتيجية محكمة تراعي تلك المقومات وهذه الأخطار في آن واحد، وتحفظ أمن الشعب وتحمي استقراره وازدهاره الذي حرص عليهما جميع ملوك المملكة دونما أدنى استثناء.
وقد تتطلب الوضع الخاص بالمملكة أن تكون دوماً على مستوى عالٍ من الجاهزية، لا سيما أن الأخطار تركزت حولها في الشمال والجنوب والشرق، وذلك حتى تتمكن من الدفاع عن كل شبر من أراضيها، غير أن أخطر عدو هو ذلك الذي يقبع خلف الخليج العربي متربصاً بها، ومتحيناً الفرصة تلو الأخرى للانقضاض عليها والتهام خيراتها، ومن الجدير بالذكر أن إيران لا تعادي المملكة على نحو سياسي فحسب، بل تعاديها عن عقيدة وإيمان، ويكفينا أن نشير إلى الدور الذي بدأت إيران في لعبه على الساحة الإقليمية خلال ما يقارب العشرين عاماً، من تغلغل في العراق واليمن ولبنان وسورية، في عملية تبدل لاستراتيجيتها من المواجهة المباشرة إلى دعم الحروب بالوكالة، وذلك عقب محاولات لا تنتهي لاستفزاز المملكة وجرها لمستنقع الحرب.
غير أن المملكة لم تقع أبداً في الشرك الإيراني، وظلت على استراتيجيتها الدائمة في مراقبة الأمور عن كثب مع الكثير من الحيطة والحذر التام، وهو الأمر الذي تتطلب منها جاهزية عسكرية دائمة، وخاصة بعد اتضاح نية إيران خلال حرب الخليج الأولى في احتلال جنوب العراق كمنفذ لها لاحتلال الكويت، ثم المرور عبرها لاحتلال أرض الحرمين الشريفين، فكان لابد للمملكة من أن تُحدِّث قواتها المسلحة بكل ما تستطيع من إمكانيات، ولكن مع كامل الحذر من الوقوع في مستنقع الحرب.
ما تم ذكره في الفقرة السابقة يوضح سبب دعم السعودية للعراق في حربه ضد إيران، التي لم تهدأ أطماعها على الرغم من انتهاء الحرب وتجرع الخميني كأساً من السم على حد وصفه، فبانتهاء حرب الخليج الأولى كانت الدولتان على شفا كارثة محققة، فقد استنزفت الحرب ما يقارب النصف تريليون دولار، مع قتلى وجرحى يناهز عددهم المليون ضحية، وبنية تحتية منهارة ودولة منهكة، وقد عادت كلتا الدولتين بعد انتهاء الحرب لمربع الصفر دون إحراز أي نصر لأي منهما.
غير أنه من الواضح أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لم يتعظ من تجربة الحرب، ولم يتمكن من قراءة الواقع جيداً؛ حيث وجد الأخير نفسه بعد الحرب منهاراً على الكثير من الأصعدة، فاقتصاده المنهك كان يئن تحت وطأة ديون بلغت مليارات الدولارات، وشعبه كان محبطاً معدماً مفجوعاً بكمية الضحايا من الشهداء والأرامل والأيتام والثكالى، غير أن ترسانته المسلحة كانت ضخمة، بل كانت توازي ما لدى دول منطقة الخليج، وعلى الرغم من أن دول الخليج أنفسهم هم من ساعدوه وساندوه -بعد المولى عز وجل- بدعم غير محسوب مكنه من صد هجوم المارد الإيراني واحتلاله للعراق، إلا أنه توصل إلى أن جميع مشاكله الاقتصادية لن تحل إلا من خلال احتلال الكويت!، وهو ما ذكره لطيف يحيى في كتابه «كنت ابناً للرئيس»، ولم يحتفظ صدام كثيراً بالفكرة بل سارع بتطبيقها على الفور واحتل الكويت عام 1990، وأعلنها المحافظة رقم 19 العراقية، وعلى الرغم من محاولة المملكة احتواء الموقف بكل السبل، إلى حد سعيها للإسهام في إعمار العراق، إلا أن لعاب القيادة العراقية كان قد سال بالفعل على آبار النفط الكويتية، بل والسعودية أيضاً!.
اعتقد صدام أن وعوده -التي كشفت قيادة المملكة كذبها على الفور- بعدم نيته غزو المملكة كفيلة بطمأنة المملكة قيادة وشعباً، وقد برر موقفه وقتها بحشد قواته على حدود المملكة الشرقية بأنها مجرد تكتيك لمنع أي محاولة لتحرير الكويت، ونذكر في هذا السياق ما كتبه الجنرال العراقي السابق وفيق السامرائي في كتابه «حطام البوابة الشرقية»، أنه كانت هناك خطة جاهزة لاحتلال المنطقة الشرقية في المملكة، بهدف السيطرة على منابع النفط، وكان لها رمز كودى هو «روح الفتوح»، بيد أن القيادة في المملكة لم تكن لتنتظر مثل هذا الاعتراف حتى تأخذ حذرها، بل تصرفت سريعاً وعلى نحو حاسم بما مكنها من صد العدوان وحماية الأرض والشعب في آن واحد.
عقب احتلال صدام حسين للكويت استماتت بعض الدول العربية لكي تتم عملية تحرير الكويت من خلال قوات عربية فحسب، غير أن هذا المقترح حمل شركاً فطنت له المملكة على الفور، فمن جهة أدركت المملكة موقف بعض الدول العربية التي كان يُظهر زعماؤها تعاطفهم من خلال القنوات الرسمية، غير أنهم يقومون في الخفاء بمساومة الرئيس العراقي أملاً منهم في الحصول على قطعة من الكعكة، مما أدى لفقدانها الثقة في عقد تحالفات عربية عربية خوفاً من الغدر بها، مثلما حدث مع الشقيقة الكويت، غير أن السبب الحقيقي والاستراتيجي من خلال قرارها بالاستعانة بقوات دولية هو أنها لم ترد أن تخوض حربا طويلة منهكة مع العراق، على غرار حربه مع إيران.
لم ترغب المملكة من أجل درء الخطر العراقي وتحرير الكويت الانخراط في حرب طويلة قد تستمر لسنوات تؤدي إلى تدمير بنيتها التحتية وقتل شعبها وإهدار مليارات الدولارات، لقد كانت المملكة منذ نشأتها وحتى الآن تقيم وزناً للمواطن العادي وتولي الكثير من الاهتمام لاستقراره ولرفاهيته، والدخول في هذا النوع من الحروب طويلة الأمد غامضة النهاية ثقيلة الضحايا كارثية النتائج من شأنه أن يحول المملكة لدولة منهكة في شتى المجالات، كانت عواقب الحرب واضحة تماماً أمام قيادة المملكة، فبدلاً من استثمار الأموال والموارد في المزيد من التنمية المستدامة، والإنفاق على المدارس والمستشفيات وتطوير الجسور والطرق، والحفاظ على المكتسبات التي تمت حيازتها وتنميتها خلال السنوات السابقة، كانت الدولة ستسقط لا محالة في قبضة الديون المهلكة، ويعيش شعبها ما بين قتيل وجريح ومعاق، وتصبح الدولة مرتعاً خصباً لكل طامع ومرتزق وعميل، وهو الوضع الذي نشاهده مراراً وتكراراً في كل دولة عاثت الحروب فساداً فيها حتى قضت على الأخضر واليابس.
لقد فرض صدام وضعاً مخزياً بين الأشقاء في منطقة الخليج، وكان لابد من القيام بالخيار الصعب، وقد أرادت المملكة الخروج من ذلك المأزق بأقل الخسائر الممكنة، وقد تحقق للمملكة ما أرادته بفضل قراءة الواقع جيداً وفهم المتغيرات، ومن خلال الاستعانة بالقوات الدولية تم بالفعل تحرير الكويت من خلال عملية عسكرية سريعة، لم تتجاوز الشهرين تجنباً للخسائر المادية والمعنوية، وهو ما لم يكن سيتم تحقيقه إلا من خلال التحالف مع تلك القوات الدولية التي كانت تملك ترسانة عسكرية توازي -بل وتفوق- ما كان يمتلكه الطرف المعادي.
لم تلتفت المملكة -وقتئذ- للمحاولات المستميتة من بعض وسائل الإعلام العربية المعادية لإحراجها والادعاء بأن تلك القوات المشتركة لن تغادر منطقة الخليج، فقد غادرت تلك القوات المملكة بعد تحرير الكويت، أما إيران فقد أعادت ترتيب أوراقها مرة أخرى لتعاود هجومها على المملكة، ولكن مع تغيير جوهري في استراتيجيتها تلك المرة، فقد وجدت من الظروف ما ساعدها على التوغل في المنطقة من خلال الأبواب الخلفية، أو بما يمكن أن نطلق عليه الحروب بالوكالة، وذلك بعد فشل استراتيجيتها السابقة الممثلة في بناء طابور خامس يزعزع الدولة ويفكك أرجاءها، عقب الإجهاز عليه من خلال العديد من الضربات الأمنية الاستباقية التي اجتثت خلاياه النائمة واليقظة من جذورها على حد سواء.
ولكن لسوء حظ إيران، ولعدم قدرة نظامها على استقراء التاريخ أو قراءة الواقع، لم تتمكن من الاستمرار في دعمها لبعض الميليشيات المارقة وتغذية حروبها بالوكالة، وتم كشف جميع أوراقها كدولة راعية للإرهاب، وهو ما أدى لانسحاب الرئيس الأمريكي ترمب من اتفاقيته معها بشأن سلاحها النووي، ونظراً لانعدام الحكمة والفطنة لدى نظام طهران نجدها بدأت في التصعيد الخطير ضد المجتمع الدولي برمته وليس ضد الولايات المتحدة فحسب، وبدأت في ممارسة القرصنة البحرية في الخليج العربي للإضرار بالمصالح الاقتصادية للمملكة وحلفائها على حد سواء، وهو ما استدعى موافقة الملك سلمان -حفظه الله- على استضافة القوات الأمريكية على أراضي المملكة لحفظ السلام وتعزيز الاستقرار في منطقة الخليج.
ربما يتساءل البعض عن جدوى وجود هذه القوات فوق أراضي المملكة، والسبب هو أن المملكة تجيد قراءة الواقع بنفس إجادتها لقراءة التاريخ، فالمملكة لن تخوض المملكة حرباً ضد إيران على الرغم من تقدم الآلة العسكرية السعودية وضخامة ترسانتها الحربية المتطورة، لأنها لن تَعْلق في حرب استنزاف طويلة الأمد تستهلك مواردها وتستنزف قدراتها مع خصم لا يهمه أن يتقدم شعبه أو حتى يموت، ومن الجدير بالذكر أن منهج بناء التحالفات العسكرية هو منهج سياسي وعسكري تقوم به غالبية الدول ولا سيما المتقدمة منها، وكمثال تاريخي نجد الدول الأوروبية -على الرغم من قدراتها العسكرية اللافتة- قد تحالفت مع الولايات المتحدة من خلال حلف الناتو لمواجهة الاتحاد السوفياتي «سابقاً»، على الرغم من قدرة الكثير منها على مواجهته والانخراط في حرب ضده، غير أنهم -ولأسباب حضارية بالدرجة الأولى تتعلق بالرغبة في مواصلة عمليات التنمية- نجدهم قد اختاروا الاستظلال بمظلة الولايات المتحدة وبغطائها النووي لمواجهة الخطر السوفيتي.
تملك المملكة رؤية واستراتيجية ومنهجا، ولا تريد أن تنضم لقائمة دول العالم الثالث ممن يعاني شعوبها الجهل والفقر والمرض، لقد اختارت المملكة الطرف الأقوى في المعادلة العسكرية للتحالف معه، مثلما اختارته من قبل لتخرج من حرب الخليج الثانية ببنية تحتية سليمة وبمجتمع متماسك، وقد اختارته أيضاً لإنهاء أمد الحرب -إن فرضت عليها- لأقصر مدى ممكن، ولإحراز نصر سريع حاسم، ولاستكمال مسيرة التنمية التي أحرزت خطوات لافتة فيها، ولأن ذلك هو الخيار الأفضل والأكثر ذكاء لوضع لم تختره بنفسها، بل أصر خصم غبي وعدواني على إرغامها عليه.
* كاتب سعودي