فقه التيسير في الحج يغلق الباب في وجه دعاة الرأي الواحد
فتاوى تحرّم أعمالاً في النسك بالأمس تبيحها اليوم.. ومطالبات بتتبع الرخص
السبت / 09 / ذو الحجة / 1440 هـ السبت 10 أغسطس 2019 03:53
نعيم تميم الحكيم (المشاعر المقدسة) naeemtamimalhac@
تملّك «الحاج محمد» الدهشة وهو يسمع من دعاة إحدى الفضائيات إجازة الرمي في أي وقتٍ دون اشتراط ربطه بالزوال.. مصدر دهشته أن الداعية ذاته كان قد أفتى له قبل 8 سنوات بأن الرمي لا يصح إلا بعد الزوال، تغير الآراء الفقهية لبعض الدعاة في مسائل الحج في السنوات الأخيرة يطرح سؤالاً محورياً: لماذا كان يصر البعض على إلزام الناس برأي فقهي واحد رغم أن في المسألة آراءً فقهية معتبرة دون مراعاة لأحوال الحجيج والحفاظ على سلامتهم، وفي الوقت نفسه يتجاهلون فقه التيسير الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يُسأل في حجة الوداع فيجيب: «افعل ولا حرج» واضعاً التيسير في الحج قاعدة ومنهجاً يجب أن يتبع.
وتزداد الحاجة لفقه التيسير في ظل ما تشهده المشاعر من ازدياد في أعداد الحجاج وارتفاع درجات الحرارة مع ثبات مساحة المكان. لجأت وزارة الحج إلى نشر هذا المفهوم بالتعاون مع الجهات الشرعية كوزارة الشؤون الإسلامية حتى لا يجبر الدعاة والمرشدون الدينيون الحجاج على رأي فقهي واحد قد يكون فيه مشقة عليهم مع وجود آراء فقهية معتبرة في المذاهب الأخرى في بعض المسائل.
الوقت للجميع
نظمت الجهة المعنية ورش عمل بمشاركة رؤساء البعثات والمرشدين واستعانت بعلماء ودعاة كما حدث عندما دعي إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ فيصل غزاوي في ورشة عمل موجهة لرؤساء مكاتب شؤون الحجاج العام الماضي، إذ قدم لهم شرحاً وتفصيلاً عن كثير من المسائل التي تحتمل أكثر من رأي فقهي معتبر، داعياً إلى ضرورة تتبع الرخص لتخفيف المشقة على الحجاج وإحياء فقه التيسير. ومن هذه المسائل رمي الجمار، والمبيت في منى، والمبيت في مزدلفة والنفرة من عرفات وطواف الوداع وغيرها من المسائل التي لو أشهرت فيه بعض الآراء الفقهية التي تسهل على الحجاج لخففت كثيراً من المشقة وساعدت على حفظ أمن وسلامة وحياة الحجاج
ومثل هذه المسائل ترتبط بالحاجة خصوصاً في ظل وجود آراء فقهية معتبرة تؤيدها، وهو ما دفع ندوة الحج الكبرى التي تقام سنوياً للتأكيد على هذا الأمر، وفي الوقت نفسه فإن وزارة الحج خطت خطوات نحو نشر مفهوم التيسير ومدت جسور التعاون مع الشؤون الإسلامية وغيرها من جهات الفتوى الخاصة بالحجاج، خصوصاً أن بعض التنظيمات الجديدة كجداول التفويج لجسر الجمرات قد تخالف إلزام الناس بالرأي الفقهي الواحد، وبالتالي فإن خروج الحاج عليها يهدد سلامته.
وحاولت الوزارة وفق حديث مستشارها اللواء يحيى الزهراني رصد رغبات الحجاج ومذاهبهم ومحاولة تلبيتها في عمليات التفويج. وطالب المستشار الزهراني مؤسسات الطوافة والمرشدين في بعثات الحج بضرورة الأخذ برخص الحج وفتاوى التيسير في الحج، وإيضاح أن الوقت ليس ملكاً لهم وحدهم، بل هو ملك الجميع.
فتاوى التيسير
يبرر بعض الدعاة تعليق بعض الرخص لانتفاء الحاجة بوجود المشاريع الجديدة، فيما يرى غالب الفقهاء والمنظمين أن الحاجة لفتاوى التيسير مازالت قائمة خصوصاً أن أعداد الحجيج في ازدياد مستمر، وهو ما أشار إليه في وقت سابق وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية السابق الدكتور حبيب زين العابدين، مشدداً على أن الحاجة لفتاوى التيسير قائمة ولا تنتفي بإقامة المشاريع الجديدة في المشاعر.
واستشهد زين العابدين بمشروع جسر الجمرات، مبيناً أن المشروع يستوعب نحو نصف مليون رامٍ في الساعة الواحدة مما حل كثيراً من الإشكالات، واستدرك «لكن المشكلة تكمن في توجه الحشود الكبيرة في وقت واحد نحو الحرم المكي ما يسبب تزاحماً كبيراً بين الحجيج قد يحدث أزمة جديدة واختناقات؛ لذلك مازلنا نؤكد ضرورة التوسع في موضوع فتاوى التيسير حفاظاً على أمن وسلامة الحجيج».
وعضد رأي زين العابدين اللواء سعد الخليوي مدير كلية الملك فهد الأمنية حالياً الذي عمل في أمن المشاة بالحج مدة تصل لـ3 عقود، وشدد على أن الحاجة لفتاوى التيسير قائمة ولا تلغيها المشاريع الجديدة، واستشهد بفتاوى الرمي، مبيناً أن مشكلة رمي الجمار تم حلها لكن الاستيعابية في الحرم المكي بحاجة لحلول ومنها بقاء الحجاج في منى وعدم التعجل أو الذهاب لبيوتهم في مكة والتيسير على الحجاج بالرمي في أي وقت ما أمكن ذلك.
شكاوى المطوفين
من جانبهم، يشكو المطوفون ورؤساء مكاتب شؤون الحجاج من الفتاوى التي تلزم الحجاج برأي فقهي واحد رغم وجود سعة في الأمر، وهو ما أشار إليه المشرف على إدارة المشاعر المقدسة في مؤسسة مطوفي حجاج الدول العربية المهندس محمد بانه، إذ قال: الحاجة قائمة لفتاوى التيسير بسبب ازياد أعداد الحجيج، متطرقا لمسألة مهمة وهي جداول التفويج والأنظمة التي وضعتها وزارة الحج قد تتعارض مع فتوى طارئة من داعية لا يملك خلفية عن الأنظمة التي راعت رغبات ومذاهب الحجاج، ما يجعل الحاج يخرج عن هذه الأنظمة.
وهو ما يشدد عليه رئيس مؤسسة مطوفي تركيا ومسلمي أوروبا وأمريكا وأستراليا طارق عنقاوي الذي يرى أن معظم حجاجهم من أتباع المذهب الحنفي الذي يرخص كثيراً من الأمور مثل المبيت في منى والرمي في أي وقت، بيد أن بعض الدعاة قد يشوش على الحجاج من خلال فتوى تخالف مذهبه وتتعارض مع التعليمات والأنظمة التي يسير عليها في تحركاته بالمشاعر.
الفقهاء لـ«عكاظ»: لا عيب في التراجع عن الأراء الظنية
يؤكد الفقهاء وجود مسائل عديدة في الحج تحتمل آراء فقهية عديدة، مشيرين إلى أن الرأي الفقهي مبني حسب الأدلة الشرعية. ويوضح الباحث الشرعي الدكتور حاتم العوني الشريف أن الفتاوى منها ما تستند إلى أدلة قطعية لا تتغير إلا للضرورة التي تبيح المحظور أو للحاجة العامة التي تُنزّل منزلة الضرورة الخاصة، مبيناً أن هذه أمور يعرفها أهل الفقه الحقيقيون، لا حملة الفقه حفظاً بغير فقه ولا فهم.
ولفت الشريف إلى وجود فتاوى تستند إلى أدلة ظنية، ويكون حكم المفتي فيها مبنياً على اجتهاد في فهم الدليل واستنباط الحكم، وهو غالب الأحكام الفرعية الفقهية، مشدداً على أن هذه الأحكام ما دامت ظنية فمن الطبيعي أن تتغير فيها الفتوى، وأن يختلف فيها اجتهاد الفقيه من حينٍ لآخر، بحسب ما يستجدّ له من دليل أو نظر فيه. واستدل بوجود مسائل عديدة من هذا القبيل مثل النفرة من عرفة بعد الزوال وبعد أداء صلاتي الظهر والعصر قصراً وجمعاً بها، وقبل غروب الشمس، وكذلك النفرة من مزدلفة قبل منتصف الليل، بل بمجرد النزول فيها وأداء صلاتي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، كما هو مذهب الإمام مالك، ويؤيده الدليل.
واستشهد الشريف أيضاً بعدم وجوب طواف الوداع، وهو مذهب المالكية وقول في مذهب الشافعي، وجواز الرمي قبل الزوال في يوم 12 يوم النفرة من مزدلفة، وكذلك جواز جمع رمي الجمار عن الأيام كلها إلى آخر يوم.
أما أستاذ السياسة الشرعية بجامعة الملك عبدالعزيز والخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي بمنظمة التعاون الإسلامي الدكتور حسن سفر فلا يرى عيباً أو حرجاً في أن يعدل أو يغير الفقيه فتواه السابقة بفتوى فيها من رفع الحرج خصوصاً إذا راعى ما اكتنف الوقت من زيادة في تدفق الحجاج وكثرة الأعداد فعليه مراعاة الزمان والمكان، وشدد على ضرورة أن يقابل الفقيه المتغيرات والظروف بتخريجات شريطة مراعاة الأوضاع وعدم تفويت أصول وأركان النسك فيمكن بعد ذلك أن يجعل فتواه سالكة مسالك ومقاصد الشرع.
ويقول سفر: «الأمور التي تحتمل السعة تجري عليها وتتسع فيها الأفهام ورجحان المصالح لتحقيق مقاصد الشريعة ومصلحة الحجاج والمعتمرين، وعليه فإن الناظر في القراءات الإفتائية على اختلاف عصور أهلها يدرك من خلالها ما منّ الله عليهم من سعة أفق ورؤى نحو وجوب تغير الفتوى بتغيرالأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف».