كتاب ومقالات

الحج.. محاولات تسييس واقتراحات تدويل بائسة

حديث الأربعاء

رامي الخليفة العلي

في كل موسم حج تستنفر المملكة العربية السعودية كل مؤسساتها ووزاراتها وأجهزتها الأمنية والعسكرية من أجل خدمة ضيوف الرحمن، وقد بذلت المملكة طوال العقود الماضية جهودا جبارة لتسهيل أداء الحجيج لمناسكهم وعباداتهم بكل هدوء وأمن وطمأنينة. تمثلت تلك الجهود في ثلاثة مناحٍ أساسية؛ المنحى الأول هو اللوجستي، حيث شهد الحرم المكي الشريف توسعات متوالية منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. وهذه التوسعات عمدت إلى استخدام أحدث التقنيات الحديثة وآخر ما وصل إليه العلم في مجال الإنشاءات والخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وتكييف. أما المنحى الثاني فهو تهيئة الكوادر البشرية في المجال الصحي وفي بقية المجالات بحيث استطاعت المملكة الاستفادة من الخبرات المتراكمة على امتداد عقود، وكذا تم بناء منظومة متكاملة تبدأ من البلاد الإسلامية من العمل المشترك مع سفارات خادم الحرمين الشريفين في تلك البلدان وتهيئة الحجيج من الناحية الفقهية، وصولا إلى مغادرة حجاج بيت الله الحرام لأراضي المملكة بعد أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، مرورا باستقبال الحجيج وتنظيم حركتهم أثناء أداء المناسك. أما المنحى الثالث فهو العمل على صعيد القيادة في المملكة العربية السعودية، التي حرصت على الجانب الروحي والديني لهذا الركن الأساسي، وعزلت الحج ومناسكه عن أي أبعاد سياسية وحرصت على رفض أي محاولة لتسييس الحج من قبل أطراف إقليمية كانت تريد في كل موسم أن تثير الشغب والمشاكل أثناء هذا الموسم على امتداد السنوات الماضية.

وجود الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية وكذلك الجهود الجبارة التي تبذلها المملكة والتي يعترف بها كل من قام بأداء تلك الفريضة العظيمة، كل ذلك جعل المملكة في عقول وقلوب مليار ونصف المليار من المسلمين وأعطى قوة ناعمة للمملكة باعتبارها القلب الروحي للمسلمين والحامل الحضاري للدين الإسلامي، لذلك من يحاول من الدول الإقليمية بناء نموذجه الخاص والهيمنة على الدول الإقليمية يجد أمامه قوة كبيرة وحضورا طاغيا، ومن هنا يأتي الدافع الأول لتسييس الحج باعتبار أنه ينظر إلى هذه الفريضة باعتبارها ورقة يمكن من خلالها الضغط على المملكة أو يتخذ الحج منبرا سياسيا لنشر أفكاره وأيديولوجيته. لعلنا في هذا الإطار نعطي مثالين واضحين؛ الأول هو النظام الإيراني، فمنذ ثورة الخميني في العام 1979 وحتى اليوم كانت هناك محاولات من أجل استخدام الحج لتبرير وتمرير ونشر أيديولوجيا الولي الفقيه، ومن ثم محاولات تعكير صفو الحج من خلال الدعوة إلى التظاهرات وأعمال الشغب، بل إن إيران كانت ترسل عناصر تابعة للحرس الثوري في أوساط الحجيج وكان هؤلاء يتولون الترتيب لتلك الأعمال. ولكن المملكة كان موقفها حاسما، وهي أنها تمنع بشكل مطلق استخدام الحج من أجل تمرير الأجندات السياسية، الأمر لا يتعلق بموقف المملكة من الأجندة السياسية لنظام الملالي ولكن الرفض هو لمبدأ استخدام الحج في تلك الأغراض السياسية حتى لو كانت تتفق مع ما تؤمن به المملكة وتتفق مع توجهات المملكة السياسية، فالأمر مرفوض جملة وتفصيلا. أما المثال الآخر هو محاولة استغلال هذه الفريضة لتشويه صورة المملكة واستخدامها في إطار الحرب الإعلامية التي تشن على المملكة العربية السعودية، وهنا نتحدث عن قطر التي تشن عبر وسائل الإعلام التابعة لها بربوغندا إعلامية ضد المملكة وكان موسم الحج جزءا أساسيا في تشويه صورة المملكة. إجراءات السفر والوصول والإقامة في المملكة أمور تخضع للدولة السعودية وهي التي تضع القواعد لذلك، وهذا ما فعلته وتفعله وستفعله على الدوام، ما أرادته دولة قطر خلال مواسم الحج الثلاثة الأخيرة أن تضع هي تلك القواعد وهذا بكل تأكيد كان مرفوضا من قبل المملكة، بل إن المملكة أعطت تسهيلات للحجيج القطريين ووضعت قواعد تضمن أداء الفريضة ولا تتعارض مع التوجهات السياسية للمملكة ودول المقاطعة وهذا ما رفضته الدوحة ومنعت مواطنيها من أداء تلك الفريضة، مما يعني أخذ مسألة تسييس الحج إلى مستويات متقدمة. بكل الأحوال فإن مبدأ التسييس مرفوض لدى المملكة ولن تسمح به، مما دفع بعض الجهات المشبوهة إلى المطالبة بتدويل الحج.

فكرة تدويل الحج هي فكرة بائسة تتنافى مع التاريخ، بحيث إن الأماكن المقدسة هي جزء من الدولة التي تسيطر على تلك المنطقة. هذا ما حدث مع الدولة الأموية والعباسية والفاطمية وحتى مع الدولة المصرية في عهد محمد علي. من الناحية الفقهية هذا أمر ليس عليه إجماع من علماء الأمة، وهناك من العلماء من وضع نفسه لخدمة أهداف سياسية مشبوهة، وهؤلاء بدأوا ينشرون فتاوى تحت الطلب. من الناحية القانونية هذه أراضٍ سعودية تتبع للدولة السعودية ولن ينازعها عليها أحد في كل الأنظمة والقوانين الدولية. تلك الدعوات أسقطت من يطلق عليهم علماء وتبنوا هذه البدعة الدينية، وهي دعوات غير جادة من النواحي العقدية والسياسية والقانونية، وكل الهدف منها هو المشاغبة السياسية. لذلك سوف تبقى السعودية حاضنة للحرمين الشريفين وسوف تبقى المكان الذي تشرئب إليه أعناق المسلمين على امتداد هذه البسيطة.

* باحث في الفلسفة السياسية، خبير في قضايا الشرق الأوسط