الأنصاري.. المتيَّم بابن خلدون ونظرياته
الأحد / 24 / ذو الحجة / 1440 هـ الاحد 25 أغسطس 2019 02:09
قراءة: د. عبدالله المدني *
لشدة عشقه لابن خلدون ومحاولته إسقاط النظريات الخلدونية على الواقع الراهن لأمته العربية، اقترن اسمه باسم هذا الرجل الذي يعتبر المؤسس الأول لعلم الاجتماع، ومجدد علم التاريخ، ورائد فن الترجمة الذاتية، بل صار يُشار إليه كابن خلدون جديد ظهر هذه المرة من مشرق الأمة، لا من مغربها كحال ابن خلدون القديم، إنه المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري، الذي لم تجد مجلة «العربي» الكويتية قامة فكرية أفضل منه لتوكل إليه الإشراف على ملف خاص عن «ابن خلدون» حينما حلت ذكرى وفاته الستمائة في عام 2005.
في هذا الملف، الذي هو خير شاهد على هيام الأنصاري بابن خلدون، وهو هيام يقترب كثيراً من هيام صديقه المقرب الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي بأبي الطيب المتنبي، يصفه بالعقلية العظيمة ثم يقول عنه: «إذا نظرت إلى ذلك الحضرمي الأصل، الأندلسي الأرومة، التونسي المولد، المصري المصير، خالجك الشعور بحكم الزمان (النهضوي)، والمكان (المتوسطي)، إنه ينتمي إلى ذلك الشاطئ الشمالي (الأوروبي)، من المتوسط بين رواد نهضة أوروبا الأوائل بحكم جدة تفكيره، وتأسيسه لعلم العمران (الاجتماع)». وكي يؤكد فرضية أن هيامه بابن خلدون ناجم عن انتمائهما المشترك لعقيدة وقومية واحدة، يضيف الأنصاري قائلاً: «ولعل هذا ما يفسر الإعجاب المتناهي لفيلسوف التاريخ البريطاني أرنولد توينبي به، حيث اعتبره أعظم عقل في أي زمان ومكان، كما يفسر اهتمام الباحثين الأوروبيين به، وترجماتهم لمقدمته إلى يومنا هذا».
في معظم دراساته وأبحاثه، وهي عديدة ومتعمقة بل ومتميزة ـ طبقاً لما ورد في ديباجة منحه إحدى الجوائز الفكرية ـ باتساق الرؤية الفكرية والتشخيص العيني في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، نجد حضوراً لفكر ابن خلدون أو استدعاءً له. أما في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل»، فإنه كما يتضح من العنوان دعوة مباشرة من الصفحة الأولى، إلى بذر الفكر الخلدوني باعتباره فكراً يؤسس لثقافة العقل. ولعل إيمان الأنصاري العميق بالفكر الخلدوني ناجم عن قناعة صلبة بأن ما قاله هذا العبقري قبل 6 قرون ونيف من الزمن يمكن التأمل فيه وإسقاطه على الحاضر.
وفي هذا السياق تحديداً كتب الأنصاري في صحيفة الحياة (12/7/2006) قائلاً: «إن ما رآه ابن خلدون، برؤية نافذة حقاً، إلى السوسيولوجيا السياسية للعرب، لا زال الكثير منه مترسباً بقوة إلى يومنا، بالرغم من قشورالحداثة، بل العولمة، التي تحاصر المجتمعات العربية. وعندما تأملت في العولمة لأول مرة، قبل عقد من الزمن، ذهب فكري حالاً إلى تلك العصائب والقبائل، وتساءلت: ماذا ستفعل العولمة بهم؟ وماذا سيفعلون بالعولمة؟ بكلمة أخرى، كيف سيكون التفاعل بين مفهوم كوني في منتهى العمومية وأوضاع في القاع المجتمعي في منتهى الخصوصية، وبينهما عصور وعصور، ليس من الزمن فحسب، وإنما من التطور الحقيقي في الواقع البشري المعاش، الذي تجاوز التنظير والتجريد الفكري».
إن الأنصاري لم يكن ليهيم بالفكر الخلدوني لولا أنه مهموم كالكثيرين غيره من مفكري العرب الكبار بصراعات الأمة وإخفاقاتها وهزائمها وتراجعاتها على مختلف الصعد والمستويات، ليس مقارنة بالغرب الذي سبقها بسنوات ضوئية، وإنما مقارنة بالشرق الذي انتفض وخلع رداء البكائيات واللطم ووضع نفسه على سكة الرخاء والازدهار والنهضة. لذا نجده كثيراً ما يلفت النظر في مؤلفاته ودراساته وأبحاثه إلى تجارب الهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية مثلاً في التقدم الصناعي والانعتاق مما سببته الهزيمة العسكرية أو مما سببته هيمنة الأجنبي من انكسار نفسي. ونجد تجليات هذا المنحى في مؤلفين من مؤلفاته وهما «العالم والعرب سنة 2000» الصادر في عام 1988، وفي دراسة نشرته له مجلة «رسالة الخليج العربي» عام 1987 تحت عنوان «جذور التربية اليابانية وخصائصها المميزة مع مقارنتها ببعض البدايات العربية»، ناهيك عما قاله ذات مرة حول التجربة الهندية من أنه في الهند «هناك أناس يؤمنون بقداسة البقر مثلاً، ويؤمنون باعتقادات متباينة كثيرة وكل فريق متروك لاعتقاده، لكنهم في الحياة العامة أي في الحياة السياسية مؤسسين لديمقراطية من أهم الديمقراطيات في العالم».
إن ما يميز فكر الأنصاري وأعماله هو استخدامه البحث والتحليل المنهجي الرصين الذي يفكك الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويدرسها دراسة متعمقة، وليست دراسة سطحية مخلة أو دراسة واقعة تحت ضغط الأهواء والأمزجة الأيديولوجية الخاصة. وهذا لئن كان ناجماً عن الشهادات الأكاديمية الرفيعة التي يحملها الرجل من إحدى أفضل وأقدم جامعات الشرق الأوسط وهي جامعة بيروت الأمريكية التي قضى فيها 12 عاماً من زهرة شبابه ما بين 1963 ـ 1979 (نال منها ليسانس الآداب عام 1963، وماجستير الأدب الأندلسي عام 1966، ودكتوراه الفلسفة الإسلامية المعاصرة عام 1979) وعن الدورات التي حضرها في جامعات أوروبية مرموقة مثل كامبريدج البريطانية والسوربون الفرنسية، فإنه ناجم أيضاً من بيئته الثقافية الأولى.. بيئة البحرين التعددية المنفتحة على مختلف الثقافات والتيارات والأفكار.
وهنا يجب أن نتوقف قليلاً لنشير إلى أن الأنصاري ولد في عام 1939 لعائلة متواضعة كان ربها يعمل في الغوص وصيد اللؤلؤ قبل أن ينتقل للعمل في شركة نفط البحرين (بابكو) ما بين عامي 1938 و1959. وكان ميلاده في مدينة المحرق عاصمة البحرين القديمة. وهذه المدينة العريقة، التي يفوح من جنباتها عبق الماضي وذكريات رجالات البحرين الأوائل الذين حفروا أسماءهم في الصخر، هي مسقط رأس أدباء البحرين وشعرائها الكبار من أمثال الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، والأديب الشيخ محمد بن عبدالله آل خليفة، والشاعر الوائلي الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، والشاعرعبدالرحمن قاسم المعاودة، ورائد الصحافة البحرينية الأول عبدالله الزايد، وأساطين الطرب الشعبي من أمثال محمد بن فارس وضاحي بن وليد، ومحمد زويد وغيرهم. فضلاً عن ذلك فإن المحرق هي مهد التعليم النظامي في الخليج والجزيرة العربية بسبب احتضانها أول مدرسة للبنين وهي مدرسة الهداية الخليفية التي افتتحت سنة 1919 وتلقى فيها الأنصاري علومه الابتدائية على يد مجموعة من المدرسين العرب من شتى التيارات الفكرية، وثقف نفسه ذاتياً من خلال مكتبتها التي كانت تضاهي المكتبات الجامعية، ثم بسبب احتضانها أيضاً لأول مدرسة للبنات (مدرسة خديجة الكبرى التي افتتحت سنة 1928). من جهة أخرى فإن المحرق هي مهد الأنشطة الثقافية لأنها شهدت ولادة أوائل الأندية الثقافية في منطقة الخليج مثل نادي إقبال أوال في عام 1913، والنادي الأدبي في عام 1922.
والمعروف أن ميلاد الأنصاري تصادف مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وما خلقته من أجواء تتعارك فيها المفردات السياسية وتتزاحم فيها الرهانات على الحلفاء ودول المحور. وفي هذا السياق سُجل عن الأنصاري قوله في مقابلة تلفزيونية مع قناة البحرين الفضائية: «لم أكن بحاجة لقراءة كتب عن الحرب العالمية الثانية لأني منذ نعومة أظفاري كنت أسمع الناس يتحدثون عنها». وفي المقابلة نفسها أضاف أن 3 كتب أثرت في نشأته الفكرية وهي: «القرآن الكريم» الذي أمده بلغة عربية سليمة، وفتوح الشام للواقدي الذي وسَّع مداركه التاريخية، وديوان الشابي للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي الذي تذوق من خلاله الشعرالعربي الفصيح. ويبدو أن هذا كان في سنواته المبكرة، أي قبل أن يكتشف ابن خلدون ويتعرف على مقدمته التي وصفها بأنها «تفسر كل الظواهر تفسيراً عقلانياً ومنطقياً».
إلى جانب ما سبق فإن من العوامل التي كانت سبباً في فكر الأنصاري المتسامح وانفتاحه ونبوغه وحبه للتنقيب المعرفي انتقاله إلى مدينة المنامة لإتمام دراسته الثانوية فيها. ومنامة عقدي الأربعينات والخمسينات وما قبلهما كانت في مقام باريس ومنتجع بياريتز الفرنسي (طبقاً لوصف أمين الريحاني صاحب ملوك العرب) بالنسبة للقادمين إليها من خارجها. فقد كانت أسواقها عامرة وشوارعها مكتظة، وبيوتاتها التجارية على اتصال بالخارج المتمدن، وأحياؤها يسكنها خليط من الإثنيات والثقافات والمذاهب، ومصادر التسلية والمعرفة فيها متعددة. ومن حسن حظ الأنصاري أن مسكنه في المنامة كان في منطقة «الحورة» حيث تتجاور الجوامع والحسينيات والكنائس، ومقابر المسيحيين واليهود والمسلمين بطائفتيهم السنية والشيعية، ومنازل العرب والفرس والبلوش وسواهم.
من الذين أشادوا بفكر الأنصاري ووجدوا فيه «غذاءً فكرياً ضرورياً لمن يريد فهم جذور القضايا ويتعمق في تحليل المجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصاً مجتمعات الشرق الأوسط» الدبلوماسي المصري السابق محمد نعمان جلال الذي وضع كتاباً عنه في عام 2004 تحت عنوان «الواقعية الجديدة في الفكر العربي: المشروع الفكري للأنصاري نموذجاً».
والحقيقة أن للأنصاري مشروعين فكريين وليس مشروعاً واحداً! المشروع الأول حمل اسم «مشروع نقد الفكر العربي» الذي تجسد في 3 مؤلفات من مؤلفاته هي: «تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي (1988)»، و«مساءلة الهزيمة: جديد الفكر العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية» (2001)، و«الفكر العربي وصراع الأضداد» (1996). أما المشروع الثاني فقد أطلق عليه اسم «نقد الواقع العربي»، وهو المشروع الذي أثمر ظهور ثلاثة كتب أخرى له هي: «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية» (1994)، و«التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع؟» (1995)، و«العرب والسياسة أين الخلل؟ جذر العطل العميق» (2000).
والذين يتابعون الأنصاري وإرهاصاته الفكرية، لا بد وأن سمعوا بإطلاقه لما سماه بـ«القاعدة الأنصارية» (نسبة إلى لقبه) أثناء محاضرة له في كلية الآداب بجامعة البحرين حينما طرح أربعة إشكالات يعاني منها الفكر العربي هي: العقل والإيمان. الدين والدولة، النظرة إلى الغرب، القومية واللاقومية.
والذين تناولوا لاحقاً هذه القاعدة من أمثال الفلسطيني مأمون شحادة وجدوا فيها قدرة فذة على صياغة معادلة نقدية «للذات والواقع والتاريخ» عبر قراءة أبستمولوجية واقعية لجسم الفكر العربي، «بعيداً عن الهيام التاريخي والمزاودة». ومما استوقف شحادة وهو يدرس القاعدة الأنصارية قول الأنصاري: «إن النهضات الحقيقية في حياة الأمم لا تبدأ إلا بثورة علمية موجهة ـ قبل كل شيء ـ إلى فهم الذات (الذات الجماعية للأمة) وإعادة اكتشافها ونقدها، وإن العجز عن تحقيق هذه الثورة العلمية النقدية يساوي التخبُّط المزمن في المأزق العربي الراهن، حيث يعاني العرب التباساً خطيراً في الوعي بين التصور والواقع، وبين الأيديولوجيا والحقيقة».
وتعليقاً منه على هذه المقولة كتب شحادة: «إن لدى الأنصاري نظرة قرائية تربط ما بين الماضي والحاضر بطريقة حضارية لترسم معالم الانطلاق نحو المستقبل وفق شعار (معركة الحضارة قبل معركة السياسة)».
أما كاتب هذه السطور فقد استوقفه المقطعان التاليان في كتاب الأنصاري الموسوم بـ«مساءلة الهزيمة»:
«الواقع العربي يتعرض لحصار إسرائيلي وإيراني وتركي. ونزاع داخلي يشكل حصاراً إضافياً. والعقل العربي يتعرض لحصار الوعي الذاتي الملتبس برغم المعلوماتية الهائلة المتدفقة، وإلى حصار أصولي هو أقسى أنواع الحصار لأنه إرهاب ذاتي داخلي، فالصحوة الإسلامية أو المرجو أن تكون صحوة جعلت العقل الإسلامي ماضوياً معادياً للعقل منشغلاً بمذهبيات وفتن تاريخية وكأنه لم يعد العقل الذي قدم عبقرية عمر السياسية وعبقرية جعفر الصادق الفقهية والفلاسفة العظام مثل الكندي وإبن سينا وابن رشد، وأصبح الفلاسفة هؤلاء موضع اتهام وتهجم وامتد التجريم إلى المعتزلة والمصلحين والمفكرين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وعباس محمود العقاد».
«تعد هزيمة 1967 أم الهزائم التي لحقت بالعرب في القرن العشرين التي ما زالت جراحها مفتوحة وغائرة في الأعماق والتي يبدو أن العرب سيدخلون القرن الحادي والعشرين وهم يحملون أعباءها الثقال ولم يتخلصوا بعد من آثارها المضنية، وتبدو عبارة إزالة آثار العدوان التي رفعها جمال عبدالناصر غداة الهزيمة عبارة حبلى ومثقلة بالآلام والظلال».
ويعرِّف الأنصاري المثقف بأنه «كمثل سائق شاحنة كبيرة عليه أن يُدخلها في الأزقة الضيقة بدون إحداث ضرر للآخرين»، وحول الوسطية يقول إنه «يقبلها إذا كانت حقيقية ولا يقبلها إذا كانت تلفيقاً لأن ذلك يؤدي إلى مغالطة». وحول الإيمان والعقل يقول: «إن القول بأن الإيمان والعقل يتفقان وينطبقان تمام الانطباق غير صحيح. الإيمان والعقل يسيران معاً إلى نقطة معينة ثم يفترقان فيصبح للإيمان منطقة وللعقل منطقة، ويجب أن نعترف بهذا الفارق، لأنه إذا ألغينا هذا الفارق وقلنا بالانطباق التام بين الجانبين نغالط أنفسنا ونغالط طبيعة الدين وطبيعة العقل». أما عن إشكالية الدولة الدينية فقد رصد عنه قوله: "الدولة الدينية أو بالأدق النظام السياسي القائم على المفهوم الديني للدولة، هو النظام الذي يستند إلى مرجعية دينية، أي مرجعية من غير البشر، وهذه المرجعية لها قدسية خاصة، ولكن المعضلة هنا هو إن المصدر الديني وهو (الله) سبحانه وتعالى، لا وسيلة للتحاور المباشر معه، أو الوصول إلى تفاهم حول ما يريده، وما يقرُّه وما يوافق عليه، وما هو مضمون ومدى إرادته الإلهية. لأن الله سبحانه وتعالى هو ما وراء الإدراك الحسي للبشر، وإرادته وقدرته وعلمه غير معروف للبشر لأنه كما وصف نفسه تعالى (عالم الغيب والشهادة)».
بقي أن نقول إن للأنصاري، أستاذ الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر وعميد كلية الدراسات العليا في جامعة الخليج العربي، وأحد مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب البحرينية في عام 1969، وعضو المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، والمستشار الثقافي والعلمي لجلالة ملك البحرين، سجالات فكرية عميقة مع رموز إسلامية (كالدكتور محمد عمارة) ورموز قومية (كالدكتور محمد عابر الجابري) ورموز ليبرالية (كالشاعر أدونيس).
على الصعيد الشخصي، سمعتُ باسم الأنصاري لأول مرة حينما شغل منصب رئيس جهاز الإعلام بالبحرين وعضو مجلس الدولة في الفترة 1969 ــ 1971، فبتلك الصفة قرأ من إذاعة البحرين في مارس 1970 البيان الرسمي الصادر حول وصول المبعوث الدولي السنيور«ويسبير جيوشياردي» في مهمة استطلاع الحقائق بشأن إرادة شعب البحرين في ما خص مستقبله السياسي. لاحقاً عرفتُ الأنصاري عن كثب خلال سنوات دراستي في بيروت في سبعينات القرن الماضي، حينما كنت طالب بكالوريوس، وكان هو طالب ماجستير. حيث كنا نلتقي باستمرار على مقاعد مقهى «ستراند» بشارع الحمراء، خصوصاً وأني كنت وقتذاك أسكن وحيداً في فندق صغير مطل على ذلك المقهى.. كان هو يسألني عن معارك الطلبة الخليجيين المسيسين، وأنا أسأله عن كيفية الخروج من مأزق التخلف العربي المزمن وحروب الدول والتنظيمات العربية التي اتخذت من لبنان ساحة لتصفية حساباتها. وفجأة تفرق شملنا بسبب الحرب الأهلية اللبنانية الملعونة لنعود ونلتقي بعد سنوات في لندن، وتحديداً في مجلس صديقنا الراحل الدكتور غازي القصيبي الذي كان وقتها سفيراً لبلاده لدى بلاط السانت جيمس، فيما كان كاتب هذه السطور باحث دكتوراه. كان مجلس القصيبي بمثابة ديوان تدور فيه النقاشات السياسية والأدبية والمعارك الفكرية، خصوصاً وأن الكثيرين من الأعلام العرب كانوا حريصين على حضورها، وعلى رأسهم صديقنا المشترك الوزير والمثقف الموسوعي والأديب والفلكي المرحوم يوسف أحمد الشيراوي صاحب الأفكار الجريئة السابقة لعصره، وصنو القصيبي في تعدد المواهب والانشغالات. في هذا المجلس توطدت علاقتي بالأنصاري أكثر، خصوصاً وأن كلينا كنا معجبين ومراقبين ودارسين للنماذج الآسيوية الصاعدة.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
في هذا الملف، الذي هو خير شاهد على هيام الأنصاري بابن خلدون، وهو هيام يقترب كثيراً من هيام صديقه المقرب الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي بأبي الطيب المتنبي، يصفه بالعقلية العظيمة ثم يقول عنه: «إذا نظرت إلى ذلك الحضرمي الأصل، الأندلسي الأرومة، التونسي المولد، المصري المصير، خالجك الشعور بحكم الزمان (النهضوي)، والمكان (المتوسطي)، إنه ينتمي إلى ذلك الشاطئ الشمالي (الأوروبي)، من المتوسط بين رواد نهضة أوروبا الأوائل بحكم جدة تفكيره، وتأسيسه لعلم العمران (الاجتماع)». وكي يؤكد فرضية أن هيامه بابن خلدون ناجم عن انتمائهما المشترك لعقيدة وقومية واحدة، يضيف الأنصاري قائلاً: «ولعل هذا ما يفسر الإعجاب المتناهي لفيلسوف التاريخ البريطاني أرنولد توينبي به، حيث اعتبره أعظم عقل في أي زمان ومكان، كما يفسر اهتمام الباحثين الأوروبيين به، وترجماتهم لمقدمته إلى يومنا هذا».
في معظم دراساته وأبحاثه، وهي عديدة ومتعمقة بل ومتميزة ـ طبقاً لما ورد في ديباجة منحه إحدى الجوائز الفكرية ـ باتساق الرؤية الفكرية والتشخيص العيني في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، نجد حضوراً لفكر ابن خلدون أو استدعاءً له. أما في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل»، فإنه كما يتضح من العنوان دعوة مباشرة من الصفحة الأولى، إلى بذر الفكر الخلدوني باعتباره فكراً يؤسس لثقافة العقل. ولعل إيمان الأنصاري العميق بالفكر الخلدوني ناجم عن قناعة صلبة بأن ما قاله هذا العبقري قبل 6 قرون ونيف من الزمن يمكن التأمل فيه وإسقاطه على الحاضر.
وفي هذا السياق تحديداً كتب الأنصاري في صحيفة الحياة (12/7/2006) قائلاً: «إن ما رآه ابن خلدون، برؤية نافذة حقاً، إلى السوسيولوجيا السياسية للعرب، لا زال الكثير منه مترسباً بقوة إلى يومنا، بالرغم من قشورالحداثة، بل العولمة، التي تحاصر المجتمعات العربية. وعندما تأملت في العولمة لأول مرة، قبل عقد من الزمن، ذهب فكري حالاً إلى تلك العصائب والقبائل، وتساءلت: ماذا ستفعل العولمة بهم؟ وماذا سيفعلون بالعولمة؟ بكلمة أخرى، كيف سيكون التفاعل بين مفهوم كوني في منتهى العمومية وأوضاع في القاع المجتمعي في منتهى الخصوصية، وبينهما عصور وعصور، ليس من الزمن فحسب، وإنما من التطور الحقيقي في الواقع البشري المعاش، الذي تجاوز التنظير والتجريد الفكري».
إن الأنصاري لم يكن ليهيم بالفكر الخلدوني لولا أنه مهموم كالكثيرين غيره من مفكري العرب الكبار بصراعات الأمة وإخفاقاتها وهزائمها وتراجعاتها على مختلف الصعد والمستويات، ليس مقارنة بالغرب الذي سبقها بسنوات ضوئية، وإنما مقارنة بالشرق الذي انتفض وخلع رداء البكائيات واللطم ووضع نفسه على سكة الرخاء والازدهار والنهضة. لذا نجده كثيراً ما يلفت النظر في مؤلفاته ودراساته وأبحاثه إلى تجارب الهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية مثلاً في التقدم الصناعي والانعتاق مما سببته الهزيمة العسكرية أو مما سببته هيمنة الأجنبي من انكسار نفسي. ونجد تجليات هذا المنحى في مؤلفين من مؤلفاته وهما «العالم والعرب سنة 2000» الصادر في عام 1988، وفي دراسة نشرته له مجلة «رسالة الخليج العربي» عام 1987 تحت عنوان «جذور التربية اليابانية وخصائصها المميزة مع مقارنتها ببعض البدايات العربية»، ناهيك عما قاله ذات مرة حول التجربة الهندية من أنه في الهند «هناك أناس يؤمنون بقداسة البقر مثلاً، ويؤمنون باعتقادات متباينة كثيرة وكل فريق متروك لاعتقاده، لكنهم في الحياة العامة أي في الحياة السياسية مؤسسين لديمقراطية من أهم الديمقراطيات في العالم».
إن ما يميز فكر الأنصاري وأعماله هو استخدامه البحث والتحليل المنهجي الرصين الذي يفكك الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويدرسها دراسة متعمقة، وليست دراسة سطحية مخلة أو دراسة واقعة تحت ضغط الأهواء والأمزجة الأيديولوجية الخاصة. وهذا لئن كان ناجماً عن الشهادات الأكاديمية الرفيعة التي يحملها الرجل من إحدى أفضل وأقدم جامعات الشرق الأوسط وهي جامعة بيروت الأمريكية التي قضى فيها 12 عاماً من زهرة شبابه ما بين 1963 ـ 1979 (نال منها ليسانس الآداب عام 1963، وماجستير الأدب الأندلسي عام 1966، ودكتوراه الفلسفة الإسلامية المعاصرة عام 1979) وعن الدورات التي حضرها في جامعات أوروبية مرموقة مثل كامبريدج البريطانية والسوربون الفرنسية، فإنه ناجم أيضاً من بيئته الثقافية الأولى.. بيئة البحرين التعددية المنفتحة على مختلف الثقافات والتيارات والأفكار.
وهنا يجب أن نتوقف قليلاً لنشير إلى أن الأنصاري ولد في عام 1939 لعائلة متواضعة كان ربها يعمل في الغوص وصيد اللؤلؤ قبل أن ينتقل للعمل في شركة نفط البحرين (بابكو) ما بين عامي 1938 و1959. وكان ميلاده في مدينة المحرق عاصمة البحرين القديمة. وهذه المدينة العريقة، التي يفوح من جنباتها عبق الماضي وذكريات رجالات البحرين الأوائل الذين حفروا أسماءهم في الصخر، هي مسقط رأس أدباء البحرين وشعرائها الكبار من أمثال الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، والأديب الشيخ محمد بن عبدالله آل خليفة، والشاعر الوائلي الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، والشاعرعبدالرحمن قاسم المعاودة، ورائد الصحافة البحرينية الأول عبدالله الزايد، وأساطين الطرب الشعبي من أمثال محمد بن فارس وضاحي بن وليد، ومحمد زويد وغيرهم. فضلاً عن ذلك فإن المحرق هي مهد التعليم النظامي في الخليج والجزيرة العربية بسبب احتضانها أول مدرسة للبنين وهي مدرسة الهداية الخليفية التي افتتحت سنة 1919 وتلقى فيها الأنصاري علومه الابتدائية على يد مجموعة من المدرسين العرب من شتى التيارات الفكرية، وثقف نفسه ذاتياً من خلال مكتبتها التي كانت تضاهي المكتبات الجامعية، ثم بسبب احتضانها أيضاً لأول مدرسة للبنات (مدرسة خديجة الكبرى التي افتتحت سنة 1928). من جهة أخرى فإن المحرق هي مهد الأنشطة الثقافية لأنها شهدت ولادة أوائل الأندية الثقافية في منطقة الخليج مثل نادي إقبال أوال في عام 1913، والنادي الأدبي في عام 1922.
والمعروف أن ميلاد الأنصاري تصادف مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وما خلقته من أجواء تتعارك فيها المفردات السياسية وتتزاحم فيها الرهانات على الحلفاء ودول المحور. وفي هذا السياق سُجل عن الأنصاري قوله في مقابلة تلفزيونية مع قناة البحرين الفضائية: «لم أكن بحاجة لقراءة كتب عن الحرب العالمية الثانية لأني منذ نعومة أظفاري كنت أسمع الناس يتحدثون عنها». وفي المقابلة نفسها أضاف أن 3 كتب أثرت في نشأته الفكرية وهي: «القرآن الكريم» الذي أمده بلغة عربية سليمة، وفتوح الشام للواقدي الذي وسَّع مداركه التاريخية، وديوان الشابي للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي الذي تذوق من خلاله الشعرالعربي الفصيح. ويبدو أن هذا كان في سنواته المبكرة، أي قبل أن يكتشف ابن خلدون ويتعرف على مقدمته التي وصفها بأنها «تفسر كل الظواهر تفسيراً عقلانياً ومنطقياً».
إلى جانب ما سبق فإن من العوامل التي كانت سبباً في فكر الأنصاري المتسامح وانفتاحه ونبوغه وحبه للتنقيب المعرفي انتقاله إلى مدينة المنامة لإتمام دراسته الثانوية فيها. ومنامة عقدي الأربعينات والخمسينات وما قبلهما كانت في مقام باريس ومنتجع بياريتز الفرنسي (طبقاً لوصف أمين الريحاني صاحب ملوك العرب) بالنسبة للقادمين إليها من خارجها. فقد كانت أسواقها عامرة وشوارعها مكتظة، وبيوتاتها التجارية على اتصال بالخارج المتمدن، وأحياؤها يسكنها خليط من الإثنيات والثقافات والمذاهب، ومصادر التسلية والمعرفة فيها متعددة. ومن حسن حظ الأنصاري أن مسكنه في المنامة كان في منطقة «الحورة» حيث تتجاور الجوامع والحسينيات والكنائس، ومقابر المسيحيين واليهود والمسلمين بطائفتيهم السنية والشيعية، ومنازل العرب والفرس والبلوش وسواهم.
من الذين أشادوا بفكر الأنصاري ووجدوا فيه «غذاءً فكرياً ضرورياً لمن يريد فهم جذور القضايا ويتعمق في تحليل المجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصاً مجتمعات الشرق الأوسط» الدبلوماسي المصري السابق محمد نعمان جلال الذي وضع كتاباً عنه في عام 2004 تحت عنوان «الواقعية الجديدة في الفكر العربي: المشروع الفكري للأنصاري نموذجاً».
والحقيقة أن للأنصاري مشروعين فكريين وليس مشروعاً واحداً! المشروع الأول حمل اسم «مشروع نقد الفكر العربي» الذي تجسد في 3 مؤلفات من مؤلفاته هي: «تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي (1988)»، و«مساءلة الهزيمة: جديد الفكر العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية» (2001)، و«الفكر العربي وصراع الأضداد» (1996). أما المشروع الثاني فقد أطلق عليه اسم «نقد الواقع العربي»، وهو المشروع الذي أثمر ظهور ثلاثة كتب أخرى له هي: «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية» (1994)، و«التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع؟» (1995)، و«العرب والسياسة أين الخلل؟ جذر العطل العميق» (2000).
والذين يتابعون الأنصاري وإرهاصاته الفكرية، لا بد وأن سمعوا بإطلاقه لما سماه بـ«القاعدة الأنصارية» (نسبة إلى لقبه) أثناء محاضرة له في كلية الآداب بجامعة البحرين حينما طرح أربعة إشكالات يعاني منها الفكر العربي هي: العقل والإيمان. الدين والدولة، النظرة إلى الغرب، القومية واللاقومية.
والذين تناولوا لاحقاً هذه القاعدة من أمثال الفلسطيني مأمون شحادة وجدوا فيها قدرة فذة على صياغة معادلة نقدية «للذات والواقع والتاريخ» عبر قراءة أبستمولوجية واقعية لجسم الفكر العربي، «بعيداً عن الهيام التاريخي والمزاودة». ومما استوقف شحادة وهو يدرس القاعدة الأنصارية قول الأنصاري: «إن النهضات الحقيقية في حياة الأمم لا تبدأ إلا بثورة علمية موجهة ـ قبل كل شيء ـ إلى فهم الذات (الذات الجماعية للأمة) وإعادة اكتشافها ونقدها، وإن العجز عن تحقيق هذه الثورة العلمية النقدية يساوي التخبُّط المزمن في المأزق العربي الراهن، حيث يعاني العرب التباساً خطيراً في الوعي بين التصور والواقع، وبين الأيديولوجيا والحقيقة».
وتعليقاً منه على هذه المقولة كتب شحادة: «إن لدى الأنصاري نظرة قرائية تربط ما بين الماضي والحاضر بطريقة حضارية لترسم معالم الانطلاق نحو المستقبل وفق شعار (معركة الحضارة قبل معركة السياسة)».
أما كاتب هذه السطور فقد استوقفه المقطعان التاليان في كتاب الأنصاري الموسوم بـ«مساءلة الهزيمة»:
«الواقع العربي يتعرض لحصار إسرائيلي وإيراني وتركي. ونزاع داخلي يشكل حصاراً إضافياً. والعقل العربي يتعرض لحصار الوعي الذاتي الملتبس برغم المعلوماتية الهائلة المتدفقة، وإلى حصار أصولي هو أقسى أنواع الحصار لأنه إرهاب ذاتي داخلي، فالصحوة الإسلامية أو المرجو أن تكون صحوة جعلت العقل الإسلامي ماضوياً معادياً للعقل منشغلاً بمذهبيات وفتن تاريخية وكأنه لم يعد العقل الذي قدم عبقرية عمر السياسية وعبقرية جعفر الصادق الفقهية والفلاسفة العظام مثل الكندي وإبن سينا وابن رشد، وأصبح الفلاسفة هؤلاء موضع اتهام وتهجم وامتد التجريم إلى المعتزلة والمصلحين والمفكرين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وعباس محمود العقاد».
«تعد هزيمة 1967 أم الهزائم التي لحقت بالعرب في القرن العشرين التي ما زالت جراحها مفتوحة وغائرة في الأعماق والتي يبدو أن العرب سيدخلون القرن الحادي والعشرين وهم يحملون أعباءها الثقال ولم يتخلصوا بعد من آثارها المضنية، وتبدو عبارة إزالة آثار العدوان التي رفعها جمال عبدالناصر غداة الهزيمة عبارة حبلى ومثقلة بالآلام والظلال».
ويعرِّف الأنصاري المثقف بأنه «كمثل سائق شاحنة كبيرة عليه أن يُدخلها في الأزقة الضيقة بدون إحداث ضرر للآخرين»، وحول الوسطية يقول إنه «يقبلها إذا كانت حقيقية ولا يقبلها إذا كانت تلفيقاً لأن ذلك يؤدي إلى مغالطة». وحول الإيمان والعقل يقول: «إن القول بأن الإيمان والعقل يتفقان وينطبقان تمام الانطباق غير صحيح. الإيمان والعقل يسيران معاً إلى نقطة معينة ثم يفترقان فيصبح للإيمان منطقة وللعقل منطقة، ويجب أن نعترف بهذا الفارق، لأنه إذا ألغينا هذا الفارق وقلنا بالانطباق التام بين الجانبين نغالط أنفسنا ونغالط طبيعة الدين وطبيعة العقل». أما عن إشكالية الدولة الدينية فقد رصد عنه قوله: "الدولة الدينية أو بالأدق النظام السياسي القائم على المفهوم الديني للدولة، هو النظام الذي يستند إلى مرجعية دينية، أي مرجعية من غير البشر، وهذه المرجعية لها قدسية خاصة، ولكن المعضلة هنا هو إن المصدر الديني وهو (الله) سبحانه وتعالى، لا وسيلة للتحاور المباشر معه، أو الوصول إلى تفاهم حول ما يريده، وما يقرُّه وما يوافق عليه، وما هو مضمون ومدى إرادته الإلهية. لأن الله سبحانه وتعالى هو ما وراء الإدراك الحسي للبشر، وإرادته وقدرته وعلمه غير معروف للبشر لأنه كما وصف نفسه تعالى (عالم الغيب والشهادة)».
بقي أن نقول إن للأنصاري، أستاذ الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر وعميد كلية الدراسات العليا في جامعة الخليج العربي، وأحد مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب البحرينية في عام 1969، وعضو المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، والمستشار الثقافي والعلمي لجلالة ملك البحرين، سجالات فكرية عميقة مع رموز إسلامية (كالدكتور محمد عمارة) ورموز قومية (كالدكتور محمد عابر الجابري) ورموز ليبرالية (كالشاعر أدونيس).
على الصعيد الشخصي، سمعتُ باسم الأنصاري لأول مرة حينما شغل منصب رئيس جهاز الإعلام بالبحرين وعضو مجلس الدولة في الفترة 1969 ــ 1971، فبتلك الصفة قرأ من إذاعة البحرين في مارس 1970 البيان الرسمي الصادر حول وصول المبعوث الدولي السنيور«ويسبير جيوشياردي» في مهمة استطلاع الحقائق بشأن إرادة شعب البحرين في ما خص مستقبله السياسي. لاحقاً عرفتُ الأنصاري عن كثب خلال سنوات دراستي في بيروت في سبعينات القرن الماضي، حينما كنت طالب بكالوريوس، وكان هو طالب ماجستير. حيث كنا نلتقي باستمرار على مقاعد مقهى «ستراند» بشارع الحمراء، خصوصاً وأني كنت وقتذاك أسكن وحيداً في فندق صغير مطل على ذلك المقهى.. كان هو يسألني عن معارك الطلبة الخليجيين المسيسين، وأنا أسأله عن كيفية الخروج من مأزق التخلف العربي المزمن وحروب الدول والتنظيمات العربية التي اتخذت من لبنان ساحة لتصفية حساباتها. وفجأة تفرق شملنا بسبب الحرب الأهلية اللبنانية الملعونة لنعود ونلتقي بعد سنوات في لندن، وتحديداً في مجلس صديقنا الراحل الدكتور غازي القصيبي الذي كان وقتها سفيراً لبلاده لدى بلاط السانت جيمس، فيما كان كاتب هذه السطور باحث دكتوراه. كان مجلس القصيبي بمثابة ديوان تدور فيه النقاشات السياسية والأدبية والمعارك الفكرية، خصوصاً وأن الكثيرين من الأعلام العرب كانوا حريصين على حضورها، وعلى رأسهم صديقنا المشترك الوزير والمثقف الموسوعي والأديب والفلكي المرحوم يوسف أحمد الشيراوي صاحب الأفكار الجريئة السابقة لعصره، وصنو القصيبي في تعدد المواهب والانشغالات. في هذا المجلس توطدت علاقتي بالأنصاري أكثر، خصوصاً وأن كلينا كنا معجبين ومراقبين ودارسين للنماذج الآسيوية الصاعدة.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين