شيء من الفساد
السبت / 08 / محرم / 1441 هـ السبت 07 سبتمبر 2019 02:04
محمد مفتي
قبل أيام قليلة تم تعيين رئيس جديد للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وإعفاء بعض المسؤولين من مهامهم، وقد أعلن الرئيس الجديد للهيئة أن تعيينه في منصبه الجديد يعد استكمالاً للإنجازات السابقة في ما يتعلق بالقضاء على الفساد، وأنه سيتم التركيز في المرحلة القادمة على القضاء على الفساد بين الموظفين الحكوميين، في مسعى جاد للتخلص من جميع أنواع الفساد بكافة أشكاله وصوره ومستوياته، وبما يتضمن أيضاً القضاء على البيروقراطية التي تمثل نوعاً من الفساد المقنع الذي قد يتسبب في تعطيل مصالح المواطنين، وكل ذلك بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي للمجتمع ككل.
لا جدال في أن أي دولة تقرر البدء في تدشين عملية الاستقرار والإصلاح والتنمية فإنها تبدأ بمكافحة الفساد، والفساد مصطلح مطاط له مدلولات كثيرة، غير أنه يعتبر العدو الأساسي لكافة محاولات الإصلاح الجذرية والعميقة التي تستهدف عمليات التنمية، وقد أولت المملكة اهتماماً حقيقياً وجوهرياً بمحاربة الفساد على مدار تاريخ تأسيسها الحديث، غير أنها خلال الآونة الأخيرة شهدت طفرة نوعية تمخضت عن تخصيص العديد من الأجهزة والهيئات الرقابية التي تعمل على مكافحة الفساد واستئصال جذوره.
يعد استئصال شأفة الفساد أمراً صعباً على العديد من المستويات، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها أن الفساد يعتبر بمثابة شبكات متصلة، تضرب بجذورها ليس في عمق المؤسسات والهيئات العاملة بالدولة فحسب، بل تمثل ثقافة تم ترسيخها وتوطيدها على مدار عشرات السنوات في منأى عن أعين السلطات الرسمية، فهى أشبه بالسرطان الخبيث الذي يتغلغل في الجسد في صمت وخفاء حتى يدمر الخلايا التي يصيبها، ومكافحة الفساد تشبه عمل الطبيب الماهر، القادر على تحديد الجزء المصاب ببراعة، ثم تحديد العلاج الناجع القادر على تدمير الخلايا المريضة دون تدمير الخلايا السليمة المجاورة لها، فمكافحة الفساد هي عملية جراحية دقيقة هدفها تدمير الخلايا الخبيثة دون الإضرار ببقية الجسد.
لعل الخطوة الأولى الجديرة بالاهتمام في مجال مكافحة الفساد هي تعريف الفساد بحد ذاته، فعلى سبيل المثال يوجد الفساد في القطاع الخاص كما يوجد أيضاً في القطاع العام، فالغش التجاري والنصب والتحايل على المواطنين هو نوع من أنواع الفساد، والمحسوبية والواسطة نوع من الفساد، للفساد صور كثيرة قد تمارس يومياً بدون قصد، الفساد قد يكون فسادا ماليا يتمثل في الرشوة والاختلاس، وقد يكون فسادا إداريا، والفساد الإداري قد لا يقل خطورة عن الفساد المالي، ولعل أهم الأسباب الكامنة وراء ذلك هو أن الفساد الإداري يعتبر بوابة الفساد المالي، أو يمكننا القول إن الفساد الإداري هو البنية التحتية للفساد، والفساد المالي هو بنيته الفوقية.
تتعدد الأجهزة الرقابية بالدولة مثل ديوان المظالم وهيئة الرقابة والمباحث الإدارية، غير أننا نفتقد في حقيقة الأمر لخارطة تنظم العلاقة بين تلك الهيئات جميعها، ونفتقر لسياسة موحدة تنظم عملهم وتوضح مهامهم وأهدافهم، وتملك كل منها مفهوماً واضحاً للفساد الذي يتعين عليها محاربته، بنفس القدر الذي تملك فيه رؤية واضحة للإجراءات التي يتعين عليها اتباعها للتحقق من صحة وقوع الفساد، بحيث لا تقع فريسة البلاغات الكيدية التي تهدر الكثير من الوقت والجهد في تتبع قضايا فساد غير حقيقية، وبالتالي فلا بد من الاهتمام بتوضيح الآليات التي تكشف وقوع حالات فساد بالفعل، وتحديد آليات لعلاجها أو التحقيق فيها.
تلوك الكثير من وسائل الإعلام المختلفة مصطلح مكافحة الفساد إلى الحد الذي ترسخت فيه هذه الكلمة في الوعي باعتبارها مصطلحاً إعلامياً مزخرفاً، غير أن حل هذه المشكلة لن ينبع إلا من خلال ترسيخ مفهوم مكافحة الفساد بمعناه الأشمل كثقافة وليس فعلاً مقتصراً على حالات بعينها، يجب ترسيخ ثقافة محاربة الفساد في مناهج التعليم وعبر وسائل الإعلام المختلفة ومن خلال كافة منابر ومنصات التواصل الاجتماعي، فمحاربة الفساد ليست توجيها حكوميا، وليست مجرد إجراء عقابي، بل هي طريقة في المعيشة وفي الحياة، وأسلوب في التعامل والتواصل مع الآخر، وتعبير عن الولاء والانتماء للمجتمع ككل، ومن هنا فنحن نأمل أن تمثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد مرحلة جديدة في تاريخ المملكة، ترمز خلالها لمكافحة الفساد بمفهومه الأشمل، وترسيخه ليس كسلوك فقط بقدر ما هو ثقافة، وهو ما يمكن تطبيقه عندما تمتلك الهيئة خارطة واضحة تحدد مفهوم الفساد، وآليات اكتشافه، وتحديد نوعه، وآليات علاجه، والأهم أن تملك إستراتيجية واضحة يتم من خلالها تكامل جميع الهيئات الرقابية العاملة بالدولة لتطبيق بنود تلك الخطة، بما في ذلك تحديد آليات الإشراف عليها ومتابعتها.
* كاتب سعودي
لا جدال في أن أي دولة تقرر البدء في تدشين عملية الاستقرار والإصلاح والتنمية فإنها تبدأ بمكافحة الفساد، والفساد مصطلح مطاط له مدلولات كثيرة، غير أنه يعتبر العدو الأساسي لكافة محاولات الإصلاح الجذرية والعميقة التي تستهدف عمليات التنمية، وقد أولت المملكة اهتماماً حقيقياً وجوهرياً بمحاربة الفساد على مدار تاريخ تأسيسها الحديث، غير أنها خلال الآونة الأخيرة شهدت طفرة نوعية تمخضت عن تخصيص العديد من الأجهزة والهيئات الرقابية التي تعمل على مكافحة الفساد واستئصال جذوره.
يعد استئصال شأفة الفساد أمراً صعباً على العديد من المستويات، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها أن الفساد يعتبر بمثابة شبكات متصلة، تضرب بجذورها ليس في عمق المؤسسات والهيئات العاملة بالدولة فحسب، بل تمثل ثقافة تم ترسيخها وتوطيدها على مدار عشرات السنوات في منأى عن أعين السلطات الرسمية، فهى أشبه بالسرطان الخبيث الذي يتغلغل في الجسد في صمت وخفاء حتى يدمر الخلايا التي يصيبها، ومكافحة الفساد تشبه عمل الطبيب الماهر، القادر على تحديد الجزء المصاب ببراعة، ثم تحديد العلاج الناجع القادر على تدمير الخلايا المريضة دون تدمير الخلايا السليمة المجاورة لها، فمكافحة الفساد هي عملية جراحية دقيقة هدفها تدمير الخلايا الخبيثة دون الإضرار ببقية الجسد.
لعل الخطوة الأولى الجديرة بالاهتمام في مجال مكافحة الفساد هي تعريف الفساد بحد ذاته، فعلى سبيل المثال يوجد الفساد في القطاع الخاص كما يوجد أيضاً في القطاع العام، فالغش التجاري والنصب والتحايل على المواطنين هو نوع من أنواع الفساد، والمحسوبية والواسطة نوع من الفساد، للفساد صور كثيرة قد تمارس يومياً بدون قصد، الفساد قد يكون فسادا ماليا يتمثل في الرشوة والاختلاس، وقد يكون فسادا إداريا، والفساد الإداري قد لا يقل خطورة عن الفساد المالي، ولعل أهم الأسباب الكامنة وراء ذلك هو أن الفساد الإداري يعتبر بوابة الفساد المالي، أو يمكننا القول إن الفساد الإداري هو البنية التحتية للفساد، والفساد المالي هو بنيته الفوقية.
تتعدد الأجهزة الرقابية بالدولة مثل ديوان المظالم وهيئة الرقابة والمباحث الإدارية، غير أننا نفتقد في حقيقة الأمر لخارطة تنظم العلاقة بين تلك الهيئات جميعها، ونفتقر لسياسة موحدة تنظم عملهم وتوضح مهامهم وأهدافهم، وتملك كل منها مفهوماً واضحاً للفساد الذي يتعين عليها محاربته، بنفس القدر الذي تملك فيه رؤية واضحة للإجراءات التي يتعين عليها اتباعها للتحقق من صحة وقوع الفساد، بحيث لا تقع فريسة البلاغات الكيدية التي تهدر الكثير من الوقت والجهد في تتبع قضايا فساد غير حقيقية، وبالتالي فلا بد من الاهتمام بتوضيح الآليات التي تكشف وقوع حالات فساد بالفعل، وتحديد آليات لعلاجها أو التحقيق فيها.
تلوك الكثير من وسائل الإعلام المختلفة مصطلح مكافحة الفساد إلى الحد الذي ترسخت فيه هذه الكلمة في الوعي باعتبارها مصطلحاً إعلامياً مزخرفاً، غير أن حل هذه المشكلة لن ينبع إلا من خلال ترسيخ مفهوم مكافحة الفساد بمعناه الأشمل كثقافة وليس فعلاً مقتصراً على حالات بعينها، يجب ترسيخ ثقافة محاربة الفساد في مناهج التعليم وعبر وسائل الإعلام المختلفة ومن خلال كافة منابر ومنصات التواصل الاجتماعي، فمحاربة الفساد ليست توجيها حكوميا، وليست مجرد إجراء عقابي، بل هي طريقة في المعيشة وفي الحياة، وأسلوب في التعامل والتواصل مع الآخر، وتعبير عن الولاء والانتماء للمجتمع ككل، ومن هنا فنحن نأمل أن تمثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد مرحلة جديدة في تاريخ المملكة، ترمز خلالها لمكافحة الفساد بمفهومه الأشمل، وترسيخه ليس كسلوك فقط بقدر ما هو ثقافة، وهو ما يمكن تطبيقه عندما تمتلك الهيئة خارطة واضحة تحدد مفهوم الفساد، وآليات اكتشافه، وتحديد نوعه، وآليات علاجه، والأهم أن تملك إستراتيجية واضحة يتم من خلالها تكامل جميع الهيئات الرقابية العاملة بالدولة لتطبيق بنود تلك الخطة، بما في ذلك تحديد آليات الإشراف عليها ومتابعتها.
* كاتب سعودي