كتاب ومقالات

ها قد أُشعل عود الثقاب

صدقة يحيى فاضل

يحبس محبو السلام في العالم الآن أنفاسهم قلقا وخشية من احتمال اندلاع حرب كارثية – لا سمح الله – بمنطقة الخليج، بعد كل هذا التصعيد العسكري الخطير، والتأهب الحربي الأمريكي الذي تشهده المنطقة، للمرة الرابعة، خلال أربعة عقود فقط، الذي يضعها على شفا حرب ضروس. وهذه الحرب تشبه - كما سبق أن قلنا - قتالا بالنيران المشتعلة قرب محطات ومخازن وقود ضخمة، بل وفي أكبر محطة وقود في العالم...؟! هذه الحشود العسكرية، وهذا التأهب الحربي المدجج بأحدث العتاد وأفتك الأسلحة لا يحتاج إلا إلى إشعال عود ثقاب، كي يحدث الانفجار الهائل الكبير، وتندلع الحرب الشعواء، التي قد لا تبقي ولا تذر. وها قد أُشعل عود الثقاب هذا، وإن على استحياء.

منذ ابتداء الأزمة بين أمريكا وإيران، وتنامي الاستعداد العسكري الأمريكي بالمنطقة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أنه لا يريد حربا، مع إيران أو غيرها، وإنما يريد الضغط على النظام الإيراني لإعادة التفاوض على الملف النووي الإيراني. ولكن هناك أطرافا إقليمية تريد حربا... في مقدمتها إسرائيل. حاولت هذه الأطراف إشعال الثقاب عدة مرات، وفشلت في إشعال فتيل الحرب. بينما عود الثقاب الذي أُشعل يوم السبت 14 سبتمبر 2019 ليس كسابقيه، لأنه أولع واحدة من أكبر منشآت النفط في العالم، وعطل إنتاج نحو 50% من النفط السعودي الذي يحتاجه العالم أيما حاجة.

ما زال التحقيق في ما حصل مستمرا، وعلى أعلى مستوى تقنيا وفنيا وسياسيا. وهدف التحقيق الأول هو معرفة «مصدر» الطائرات المسيرة المغيرة على بقيق وخريص. وتحديد المصدر سيحدد الطرف الذي أشعل هذا الثقاب الكبير. مبدئيا، فإن الجميع يعرفون أن المتهم الأول هو إيران، سواء مباشرة أو بشكل غير مباشر. ولكن، هناك احتمالات أخرى (أذرع إيران، إسرائيل، دولة أخرى) ينبغي عدم استبعادها، إن كنا نريد التحقق الموضوعي، الذي سيبنى عليه رد الفعل.

****

لم تصل المنطقة لهذا الحدث الجلل إلا بعد تراكم عدة «أسباب» ودوافع مختلفة، من أهمها: استمرار السياسات التوسعية الإيرانية التي أخذ النظام السياسي الإيراني يتبعها تجاه دول الجوار، منذ العام 1979، الهادفة لتكوين منطقة نفوذ إيراني، تمتد من أفغانستان شرقا، حتى البحر الأبيض المتوسط غربا (الهلال الشيعي) التي من أهم وسائلها: التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستهدفة. إضافة لسعي إيران الحثيث لامتلاك أسلحة نووية. الأمر الذي يهدد الأمن والسلم الإقليميين والدوليين، ويضع إيران في ذات الخانة التي يجب أن توضع فيها إسرائيل.

وكل محبي السلام في العالم ما زالوا يدعون لحظر انتشار الأسلحة النووية، حظرا رأسيا (في الدول الخمس النووية أصلا) وأفقيا (بالدول غير النووية) في كل أنحاء العالم، وبخاصة في المناطق المضطربة، حال المنطقة العربية التي يشار إليها بـ«الشرق الأوسط». ولكن إسرائيل تخرق كل القوانين والأعراف والاتفاقات الدولية، إذ لم تكتف باغتصاب فلسطين، وتشريد أهلها واحتلال أراضيهم وبيوتهم، ونشر الفوضى والاضطراب بالمنطقة، بل سعت وتسعى للسيطرة على كل المنطقة. وكان من الطبيعي أن تناصب العرب العداء، لأن المشروع الصهيوني يستهدف العرب كلهم، وليس الفلسطينيين وحسب. فإقامة الدولة العبرية المهيمنة إقليميا (عبر التوسع الجغرافي أو بدونه) يستلزم بالضرورة الاعتداء على عرب الجوار، على الأقل. كما يستلزم امتلاك ترسانة ضخمة من الأسلحة التقليدية والإستراتيجية. لذلك، أصبحت إسرائيل من أكبر القوى العسكرية، ولديها أسلحة نووية ضاربة. وكما يقولون: أصبحت جيشا يمتلك دولة، لا دولة تمتلك جيشا.

وقد يتساءل البعض ما علاقة إسرائيل في الحديث عن هذا التوتر العسكري والحربي الراهن الخطير بالمنطقة؟!

إن التأمل في تطورات هذه الأحداث، منذ أن بدأت تتبلور، حتى هذه اللحظة السياسية الأكثر توترا واضطرابا، يوضح بجلاء أن لإسرائيل دورا كبيرا، وأنها إحدى المسببات الكبرى لكوارث وأزمات المنطقة، بما فيها الأزمة الراهنة. وهل يصح تحليل أي حدث سياسي كبير بالمنطقة دون التطرق لدور أمريكا وإسرائيل؟! إسرائيل تريد حربا، كم طلبتها من راعيها الأول. ولذلك الراعي الآن رئيس شبه صهيوني، يسعى لمحاباة إسرائيل واسترضاء أنصارها، وتلبية طلباتها، طمعا في ولاية رئاسية ثانية، وابتزازا للمنطقة. فهو، وإن كان لا يريد حربا، لا يستطيع، كما يبدو، أن يرفض طلبا لإسرائيل. وفي كل الأحوال، يبدو أن ترمب يريد حربا استنزافية بالوكالة ضد إيران، لا تنهك إيران وحسب، بل تنهك كل أطرافها.

****

تسعى إسرائيل لاحتكار السلاح النووي بالمنطقة ما استطاعت. لذلك، تبذل، وأنصارها، قصارى الجهد لإجهاض أي برنامج نووي بالمنطقة، ولو كان سلميا، وتوجيه ضربة عسكرية قاصمة ضده. وما فتئت الإدارات الأمريكية تحاول جهدها التجاوب مع هذه الرغبة الإسرائيلية، حباً وكرامة للكيان الصهيوني... الذي من أجله تقصف دول، وتقهر شعوب، وتحتل بلاد، ويقتل الآلاف من الأبرياء، وتحاك المؤامرات والدسائس، ضد من «يجرؤ» على معاداة الصهيونية، أو الإشارة إلى جرائمها وأكاذيبها، وأباطيلها. ورغم أن هذا الحب الأمريكي الأعمى يعود لعقود خلت، إلا أن أكثر «الإدارات» الأمريكية خضوعا للصهيونية هي إدارة الرئيس ترمب التي تتفانى في دعم إسرائيل وعدوانها المشهود، وتحاول جهدها «تبرير» جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، وضد المنطقة ككل، مما أصبح معروفا لدى جميع المعنيين.

****

لقد عانى العرب بخاصة من السياسات التوسعية الإيرانية، ومن سياسات التحالف «الاستعماري – الصهيوني»، مر الأمرين. وما زال العرب عاجزين عن اتخاذ سياسة محددة وفعالة لمواجهة هذين التحديين الكبيرين، ناهيك عن وضع «إستراتيجية» عربية موحدة، لمواجهة آثارهما وتداعياتهما، بالغة السلبية على الأمن القومي العربي، والمصالح العربية العليا. أمست إسرائيل تمتلك ترسانة ضاربة من السلاح النووي، موجهة ضد التجمعات السكانية العربية، وتستخدمها، على مدار الساعة، لردع وإرهاب وابتزاز العرب.

ومن الناحية الأخرى، فإن قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم مودعة في صدور علمائها النوويين الكثر. وهذا ما قد يجعل إيران قاب قوسين أو أدنى من عضوية «النادي النووي». وبالنسبة لمهاجمة إيران، سبق أن أعدت أمريكا وحلفاؤها، في عهد الرئيس السابق أوباما، العدة لتوجيه ضربة عسكرية كاسحة ضد المنشآت النووية الإيرانية، وبخاصة أهم ثمانية مواقع نووية، في طول إيران وعرضها. وحبس العالم أنفاسه أيضا، ذعراً وهلعاً من حدوث كارثة ذلك الهجوم... لأن شنه ربما كان سيقود العالم إلى حرب عالمية، ودمار اقتصادي شامل... يلحق بمعظم أرجاء العالم، بما فيه أمريكا. لذلك استبعد ذلك الهجوم. ولكن الأخذ به أصبح الآن أمراً وارداً ومحتملاً، بعد كل هذه التطورات.

****

لا شك أن احتمالات الحرب قد أصبحت أكثر ورودا الآن. بينما يتوقع البعض أن تتراجع أمريكا عن الهجوم، إن وافقت إيران على إعادة التفاوض، وقبلت الشروط الأمريكية، أو ببعضها. ويصعب الآن تصور أن التوتر الحالي سينتهي بلا حرب، ولا اتفاق. الاحتمال الأكثر ورودا (حتى هذه اللحظة) هو الحرب، بالأصالة أو الوكالة، أو قبول النظام الإيراني (قبولا مشروطا) بإعادة التفاوض على برنامجه النووي. وتظل المنطقة على صفيح ساخن متواصل... طالما بقيت «أسباب» اضطرابها وعدم استقرارها (الذاتية والخارجية) قائمة ومتفاقمة. حمى الله بلادنا من كل سوء.

* كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com