كتاب ومقالات

مسيرة الإصلاح والعقبات

محمد مفتي

تشهد بعض مواقع التواصل الاجتماعي وعدد من القنوات الفضائية المعادية هجوماً حاداً على المملكة وعلى قيادتها، متخذة الإصلاحات المستمرة التي شهدتها المملكة مؤخراً ذريعة لهذا الهجوم، في محاولة لتحويل الإنجازات والمكتسبات لعيوب ونواقص، موجهة سهام نقدها بصورة رئيسية لرؤية المملكة الطموحة التي تبناها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي استهدفت إحداث تغيير جذري في العديد من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية بل وحتى السياسية للمملكة، وهي تعكس خلاصة خطة إصلاح شاملة ومتكاملة تهدف لتشكيل جميع الأنشطة والأنماط الحياتية والمعيشية للسعوديين طبقاً للنموذج الحضاري الذي يليق بالمملكة سواء على المستويين الدولي أو الإقليمي، وهو النموذج المرتكز على إرثها الحضاري العريق ومكانتها الدينية في العالمين العربي والإسلامي، والمعتمد على وزنها السياسي وثقلها الاقتصادي، وبما لا يتعارض مع تراثها وعاداتها وتقاليدها المتوارثة جيلاً بعد جيل.

من المؤكد أن مهمة استنهاض أمة بكاملها ونفض الغبار الجاثم على صدور أبنائها لعقود طويلة ليس بالمهمة البسيطة ولا الهينة، كما أنه من المؤكد أيضاً أن مسيرة الإصلاح لا بد وأن يعترضها الكثير من العقبات، فهناك فئة أوصياء الفكر الصحوي من ذوي الفكر الجامد، وهناك فئة الفاسدين والمستفيدين من الأوضاع الخاطئة، وهناك فئة الكسالى محدودي الفكر الرافضين لأي تغيير قد يمسهم أو يمس مناصبهم ومكتسباتهم، وفي الخارج هناك المتربصون والمترصدون لأي نجاح أو تنمية قد تحققها المملكة، وهناك الحاقدون والكارهون للاستقرار وللتطور وللازدهار الذي ينعم به مواطنو المملكة، وهناك الطامعون في احتلال مكانة المملكة من الراغبين في فرض نفوذهم وهيمنتهم على كامل المنطقة، ممن يرون في تطور المملكة عوائق تحد من تحقيق أطماعهم.

لا شك أن أي تغيير جذري في مسار الإصلاح والتنمية كالذي تمر به المملكة اليوم لا بد أن يخلق أعداء لها في الداخل والخارج، خاصة أن هذه التغيرات كانت سريعة لا تتجاوز سنواتها عدد أصابع اليد الواحدة، هذه التغيرات لم تكن مجرد خطط على الورق، بل تطلب تطبيقها حزماً وعزماً لا يستهان بهما؛ فمقاومة تلك الفئات التي أشرنا إليها كانت عنيفة تهز الأرض هزاً، وهي الأرض التي ظلوا واقفين عليها بكبرياء خلال عقود من الزمن، وفي مخيلتهم أن الزمن لا يتغير، وأنه لا أحد سيستطيع أن يمس ثرواتهم التي أُسست على الفساد، ولا فكرهم الذي بُني على أوهام شعبية زائفة، وعلى أتباع تم التغرير بهم من خلال منابر ظلامية ظلوا مسيطرين عليها لعقود، وهذا ما جعل نقدهم قاسياً ومقاومتهم صلبة وعنيفة، سواء للمملكة أو للقائمين على خطة التغيير، وعلى رأسهم بالتأكيد الأمير محمد بن سلمان.

من المؤكد أن الأمير محمد عندما خطا الخطوة الأولى في مسيرة الإصلاح كان يعلم مقدماً حجم سهام المقاومة التي سيواجهها، فهو يعلم جيداً أن سياساته الإصلاحية أطاحت بحائط صلب من قناعات جيل موقن بالكثير من الأفكار الخاطئة والمفاهيم المغلوطة التي تمت وراثتها، وأن خطواته لتحرير المجتمع من العادات والتقاليد الظالمة كانت بمثابة صفعة مؤلمة لفئات عديدة من معتنقي الفكر المتحجر، كما أنه يدرك أن بعض الجهات الخارجية المشبوهة تصر على توجيه التهم جزافاً للمملكة، لكنه في نفس الوقت لم يكن مفتقراً لحماس الشباب ولا لصرامة القيادة ولا لحنكة المخضرمين، فقد بدأ مسيرته الإصلاحية معلناً رؤيته الشاملة الطموح لمستقبل المملكة على المديين القريب والبعيد، ولا شك لدينا في قدرة ولي العهد على تجاوز جميع العقبات التي قد تواجهها المملكة، وإن حدثت بعض الأخطاء أثناء تنفيذ خطط ومسيرة الإصلاح فهذا ليس بغريب، بل الغريب أن نتوقع أن مسيرة بهذا الحجم لا تخلو من الأخطاء، فهذا أمر حتمي لا يمكن تلافيه أبداً.

لا جدال في أن حماية المجتمع من الأفكار الهدامة والمعتقدات الخاطئة، وإعادة بنائه مرة أخرى وفقاً لمنظومة التنمية والاستناد للمكتسبات العلمية، تتطلبان مجموعة من الإجراءات المؤقتة لكبح جماح تلك القوى المجتمعية – القليلة – الراغبة في فرض رأيها والمصرة على تجميد الوضع الراهن للمجتمع لمنع تطويره، كما تتطلبان وضع قيود على بعض وسائل التواصل المشبوهة التي لا هم لها سوى تشويه كل ما يتم إنجازه، فتحجيم مثل هذا النوع من الوسائل وكبح جماح نشطاء الظلام لا يعد تقييداً للحرية، بل إن الحرية تكمن في تقييد مثل هذه الفئات التي يتحتم التعامل معها بحسم وحزم كافيين، لأن ذلك من شأنه لجم المفسدين وردع المتطرفين فكرياً، وإن كان تقييد حرية البعض الظالم ثمناً لحرية مجتمع بأكمله، فنحن بالتأكيد واثقون من أن ثمن حرية المجتمع يفوق ثمن حرية ذلك «البعض»، خصوصا أن هذا «البعض» – كما يعرف الجميع – إقصائي ولا يؤمن حتى بحرية الآخرين في إبداء رأيهم من الأساس.

* كاتب سعودي

dr.mufti@acctecon.com