الإصلاح الإداري.. ودخل المواطن!

سمير عابد شيخ

صدق من قال ان الغربة تجمع وتفرّق بين الناس! ولقد شاءت أقدار الله تبارك وتعالى أن تمتد سنوات غربتي لتشمل سنوات التعليم المتوسط والثانوي، فضلا على الدراسات الجامعية. وكان من زملاء الدراسة شاب مسلم متوسط الحال أو ما دونه، ولكنّه كان مجتهدا وحريصا على ألاّ تفوته فائتة. بعد عقدين من الزمان، التقيته صدفة في مطار وطنه وفرحنا باللقاء. أصرّ على دعوتي لمنزله، فذهبت في الليلة التالية وشاهدت العجب العجاب!
شهدت بذخا وثراء مرسومين على كل شيء، حتى دورات المياه كانت مقابضها مذهّبة الطلاء. وعندما رفعت حاجبيّ تعجباً، قال سأخبرك قصّتي عندما ينصرف الضيوف. فلقد تخرّج صديقي بدرجة عالية في الهندسة المدنية وتقلّد منصبا جيدا في بيروقراطية بلده. المهم أنّه أصبح مسؤولا عن عدد من مشاريع البنية التحتية التي تكلّف عشرات الملايين من الدولارات. واستطرد زميلي بأن كلّ لبنة بهذا القصر هي هدية من المقاولين، حتى تذاكر سفره وفنادق إقامته وأسرته في الخارج هي كذلك هدايا رمزية على حد قوله.
وفي يوم الأحد الماضي الموافق 25\5\2008 كتبت مقالا عن الإصلاح الإداري، وأحببت أن أعلّم نفسي شيئا عن قضايا الاصلاح الإداري. فعدت لأدرس أوراق منظّمة (الشفافية الدولية)، لعلّي أجد خيوطا تقودني لبعض الحلول لوباء الفساد الذي أصبح ينبت كالعشب أو يتناثر كحبات الثرى في الدول النامية. فوجدت دراسة أعجبتني تتحدّث عن علاقة الفساد بدخل المواطن. ولقد استوقفتني عبارة تقول إنّه من السذاجة والغباء أن نقوم بتكليف شخص ما بمسؤولية كبيرة وفي المقابل تخصيص مرتب متواضع أو متدنٍ له! فالمرتبات والمزايا يجب أن تتناسب مع المسؤوليات، وإغفال هذا التناسب أو اهماله هو أحد مداخل الفساد في الدول النامية.
فهذا زميل الدّراسة إنسان ذكي مجتهد وكان يحافظ على صلاة الجمعة بانتظام، ويواد الطلبة الجدد ويساعدهم في التسجيل في الجامعة وإيجاد مساكن لهم وحتى شراء سيّاراتهم. ولكنّه بعد مصارعة الكتب ولوحات الرسوم الهندسية والآلات الحاسبة لسنوات، عاد ليتفاجأ بأن مرتبات موظفي الحكومة لا يكاد يفي بمتطلّبات الحياة ابتداءً من علاج أطفاله وتعليمهم ومرورا بايجاد سكن مناسب لأسرته وانتهاءً بتأمين مستقبلهم. كما أنّ فرص العمل البديلة في القطاع الخاص لم تكن متوفّرة، أو انّها متوفّرة أكثر لأقارب أصحاب الشركات وأنسابهم! وهكذا انزلقت قدما زميلي في مستنقعات الرشاوى والفساد.
وبديهي أنّ هذه القصّة ليست نادرة مثل قصص زيارات المركبات الفضائية للأرض، لأنّها تتكرّر في كثير من مجتمعات العالم. ولقد أخذت منظمة (الشفافية الدولية) بدراسة هذه الظاهرة، واستعرضت مداخيل الموطنين بعدد من الدول النّامية لتلمس تأثير ذلك على درجات الفساد هناك. ومّما لفت انتباه هذه المنظّمة أنّه كلّما ضاقت الفجوة بين مرتّبات القطاع العام ومرتبات القطاع الخاص، تقلّصت احتمالات الفساد الاداري.
ومعلوم أن هذه المنظمة لديها معايير لتصنيف الفساد بمعظم الدول. وممّا كشفته المنظمة أن دولة سنغافورا هي من أبرز الدول من حيث النزاهة والنظافة وحسن الأداء. ولقد برّرت المنظّمة ذلك بحرص الحكومة هناك على تقارب مرتّبات القطاع العام مع القطاع الخاص. بل إنّ الحكومة السنغافورية تمعن في هذا التقارب حتى أنّها تسترشد بأعلى مرتبات القطاع الخاص وهو البنوك، وتحرص على أن تخصص نفس المرتبات والمزايا لموظفيها، كي لا يكون لأحد عذر بتعاطي الرشاوى بسبب ضيق ذات اليد أو غلاء المعيشة. وكم أتمنّى أن يقوم مجلس الشورى الموقّر بدراسة هذه الظاهرة، والرفع الى المقام السامي بتوصياته، عسى أن يكون في هذا فرج لمئات آلاف المواطنين ومكافحة لآفة الفساد أجارنا الله جميعا منها.

للتواصل ارسل sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 117 مسافة ثم الرسالة