فهد العرابي: قائد تجربتَي سقف الحرية الأعلى صحافياً
حكاية بدوي في باريس
الأربعاء / 07 / جمادى الأولى / 1441 هـ الخميس 02 يناير 2020 00:50
تركي الدخيل
لو حِرتَ في يومٍ، وأنتَ تُحَدّثُ الناسَ، عن التعدّدِ، والتَنَوُّعِ، والإبداعِ، في المجتمع السعودي، وطلبكَ أحَدُهُم المثال؛ فبإمكانكَ أن تقول للناسِ: إنّ لنا ألفَ وجهٍ مشرقٍ، ولذلك يستعصي وضعُ مُبدعينا في قوالب التصنيف والنمطية.
وليس يمنحك برهان التفرّد السعودي هذا، شاهدٌ حيّ، مثل أنموذج الدكتور فهد العرابي الحارثي؛ فهو متعدد المواهب والملكات، واسع المعرفة والتجربة، أكاديمي جاد، ومثقفٌ شامل، وإداري ناجح، وقائد مركز أبحاث ناجح، وصاحب مؤتمر دولي سنوي بات يُشار له بالبنان، خلال بضعة أعوام.
لا يمكن أن تذكر التجربة الصحافية الحديثة في السعودية، دون أن يرد اسم الدكتور فهد العرابي، ضمن أهم أسماء الرواد.
ساهم صاحبنا في إدارة تجربتين رئيسيتين، ربما كانتا، الأهم في رفع سقف الحرية، في الصحافة السعودية، صحيفة (الوطن)، المشروع الأثير للأمير خالد الفيصل (أمير منطقة عسير آنذاك)، مستشار خادم الحرمين الشريفين، وأمير منطقة مكة المكرمة، والتي ظهرت فكرةً، ثم صحيفةً ألقت جبلاً، لا صخرةً، في مياه الصحافة السعودية، بنيت على دراساتٍ، أوكل إعدادها وتهيئتها للظهور إلى الدكتور فهد العرابي الحارثي، الذي قاد فريقاً من المختصين، في مركز أسبار للدراسات، الذي يملكه ويديره الدكتور فهد، عمل سنوات لتقديم دراسات للصحيفة الجريئة، حتى صدورها، وتولى العرابي الحارثي، لسنواتً، منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة عسير للصحافة، التي تُصدر (الوطن)، خلال الفترة (١٩٩٧-٢٠٠٣)، وأشرف على تحرير الجريدة عام ٢٠٠٢، بالإضافة إلى رئاسته مجلس الإدارة.
يعتبر الدكتور العرابي مرحلة عمله في تأسيس (الوطن)، منذ أن كانت فكرة، فدراسة، فمشروعاً في المخاض، فمولودةً بكراً، حتى أصبحت فتاةً جميلةً، شَبَّت عن الطوق، هي أهم مراحل حياته المهنية، كما في موقعه الإلكتروني.
يعزو الدكتور فهد، تربع تلك المرحلة، على أهمية مراحل حياته المتعددة، إلى كون (الوطن)، هي أول صحيفة سعودية جديدة، تظهر في السوق (صدرت العام ٢٠٠٠)، بعد أربعين سنة منذ صدور آخر صحيفة بالمملكة، وهو ما جعل منافسة صحفٍ أصغرها عمراً، يبلغ أربعة عقودٍ، مخاطرةً مهنيةً وتجاريةً، في آنٍ؛ لكن العرابي يعتقدُ أنها مخاطرةٌ تستحقُ ما بُذل من أجلها.
كما أن الدكتور فهد العرابي الحارثي، قاد تجربة صحافية، شبابية، فيها من المهنية، والجمال، والجرأة، والاختلاف، وبعضاً من العقل، وشيئاً من الجنون اللذيذ، لما كان رئيساً لتحرير مجلة (اليمامة)، خلال الفترة ١٩٨٠-١٩٩٢، وهي مرحلةٌ، كانت (اليمامة) فيها مجلةً، وَلّادةً، للأفكارِ، والموضوعاتِ، والصحافيينَ المُبدِعين. خلاصة تجربة الدكتور فهد العرابي آنذاك، أن منح زملاءه كل واحدٍ من الصحافيين الشباب، في (اليمامة)، رئةً ثالثةً!
وحيدُ الشيخين!
كان للكاتب الكبير، عباس محمود العقاد، في عَبقَرِيَاتِهِ، منهجاً لسبر أغوارِ الشخصياتِ التي يترجم لها؛ فيمخرُ عُبَابَها، على سفينةٍ هذا المنهج، الذي يُطلِقُ عليه؛ «مفتاح الشخصية»، ويُعَرِّفُهُ بأنه: «الأداةُ الصغيرةُ، التي تَفتَحُ لنا أَبوابَها، وتَنفُذُ بِنا وَراءَ أَسوَارِها وَجُدرَانِها».
ويرى العبدُ الفقيرُ إلى الله، أن لشخصِياتِنا السعوديةِ مفاتِح عِدّة؛ مُبَعثَرَةً في مراحِلِ العُمُرِ، وأولُ هذهِ المفاتِحُ نَصِيحَةُ أُمٍ، أو تَوجِيهُ أَبٍ. ولطالما وجدنا مفتاح شخصية الكثير من أبطالنا، في ذكرياتِ طُفُولَتِهِم، وتَكوِينِهِم الأُسَرِيِّ، أو الجَمَعِيِّ. فمن أين نبدأ رحلتنا مع فهد العرابي الحارثي؟!
وُلد فهد، لأبٍ بلغ الستين من عمره قبل ولادة فتاة، ولأُمٍّ في بداية عقدها الخامس؛ فكان الابن المُدَلَلَ لَهُمَا، وانصَّبَ تركيزُ والديهِ عليهِ بالكُلِيَّةِ، يَحُفّانِهِ بالعنايَةِ، ويُطَوِقانِهِ بالاهتمام. ولَكَ، أَيُها القارئُ الكريم، أن تتخيل، حظوة أبوين في سن الشيخوخة بوليدهما الوحيد، إذ تَخَطّفَ الموتُ جميع إخوته، وكان له أختٌ، فلم تسلم من الموتِ، هي الأُخرى، فكان فهد، هو سلوَتَهُمَا.
في العالم ١٩٤٥، وُلد صاحبنا، بوادي المُرَيفِق، جنوب شرق الطائف، والذي ظلّ «الأرومة والجذوة الأصيلة في هويّته الوطنية»، ولا يزال يُعبِّر عن الوادي بقوله: «مسافة لا محدودة بيني وبين الكون كله». ظلّ يسكنه الحنين إليه في كل مراحله... يقول: «كنت في باريس، لكن قلبي وعقلي، تركته في بلدي ووطني، وخصوصاً في المريفق». انتقل في صباه من المريفق، إلى الطائف، ولكنه ظلّ يزور المريفق دائماً، ولسان حاله:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
في منزلته الأولى، ومَدرسته الأُسريّة، تعلّم فهد من والده ما يُسمِيهِ: «أُصول الرجولة»؛ مثل أدب الحوار والحديث إلى من يكبُرهُ سناً، أو من يصغُرهُ أيضاً. أما والدتُهُ، فقد حفَّزَت فيه حُبّ التَعَلُمِ. لازمه هذا التشجيع، حتى جعل منه، مثقّفاً يُشار إليه بالبنان، وأَولد في نفسه امتناناً لوالدته؛ ظهرَ في مواضعَ، بينها ما سَطَرَهُ عام ١٩٩٥ في كتابهِ: «قال ابن عباس.. حدّثتنا عائشة»، إهداءً: «إلى المرأةِ التي حاصرت وحيدها بالحب، والدفء، والدعاء المبارك».
استحقاق أكاديمي.. وتميّز صحافي
درس فهد، مراحله التعليمية، بدار التوحيد بالطائف، وحصل منها على الشهادة الثانوية، بتفوّقٍ في ١٩٦٥. ثم التحق بكلية الشريعة والدراسات الإِسلامية بمكة المكرمة، وحصل منها على البكالوريوس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى في تخصص الآداب عام ١٩٦٦، وعُيِّنَ أوّل تخرجه مُعِيدًا بجامعة الملك سعود.
شَغَفُ الدكتور فهد العرابي الحارثي بالصحافة، جَعَلَهُ مُحَرِّراً ثقافياً، بصحيفة (الرياض)؛ يوم كان مقرُّها بحي المرقب. وبعد فترة قصيرة صار رئيساً للقسم الثقافي.
ولما سنَحَت فُرصةُ المعيدِ بالجامعة، للابتعاث، نَصَحَهُ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الفَدّا، عميد كلية التربية آنذاك، أن يُيَمِمَ وجهته نحو باريس تحديدًا، بدلاً من أمريكا التي كانت قبلةَ المبتعثين السعوديين آنذاك!
كان الفدّا، بنى اقتراحَهُ في العام ١٩٧٣، لأنه يعتبر باريس عاصمة الثقافة والأدب، ويرى في فهد العرابي، رئيس القسم الثقافي بصحيفة (الرياض)؛ محبةَ الأدب والقصة والنقد، ما سُيكسِبُ فهداً، بالتجربة الفرنسية، حضوراً ثقافياً وأدبياً، نافعاً له شخصياً، ولبلاده بالضرورة.
امتلأتْ نفسُ المعيد المتوقِّد، بالفكرة الجديدة، وهيّأ نفسه لها، وكادت أنفاسه تتقطّع، لما فَجَعَهُ وكيل الجامعة، آنذاك، الدكتور عبدالعزيز الخويطر؛ إذ وقف عند عنصر في لائحة الابتعاث، يشترط أن يجيد المُبتَعَثُ لغة الدولة التي سيقصدها. ولم يكن فهد يجيد الفرنسية بعد، وكاد هذا الشرط، يحرمه حلم بلوغ باريس، ودخول السوربون؛ خاصةً وأن الخويطر، عُرِف بالصرامة في تنفيذ اللوائح، ولا أحد عنده «فوق اللائحة».
لم يرفع صاحبنا الراية البيضاء؛ فهو يؤمنُ بأن هِمّةَ المرءِ، لو تعلّقَت بالثريا لنالها، كما في الأثر. وصار يبحث عن قبولٍ خاصٍ، يتكفّلُ هو بنفقته، وعزم على زيادة تعامله مع الصحف، ليوفر نفقاتِ ذهابهِ بدايةً، حتى هبطَت يوماً، زخّةُ حظٍ سعيدٍ على صاحبنا، فالتقى بالوجيه عبدالمجيد شبشكي، الذي توسّط له عند القنصل الفرنسي بجدة؛ فحصل العرابي، على منحة من الجمهورية الفرنسية، سنةً لتَعَلُّمِ اللغة الفرنسية. فاجتازها بتفوّقٍ، وانضم إلى البعثة السعودية، فإتقانهُ اللغة الفرنسية، جعله فوق اللائحة!
بدويٌ في السوربون
لطالما تخيّلتُ رحلة فهد العرابي الحارثي الأولى إلى باريس؛ أراه ينظر إلى جناح الطائرة فيتذكّر معطف والده، وشيلة (غطاء الرأس) والدته، ويمتد بصرهُ إلى المدى الذي تأفُلُ فيه الشمس بكسلٍ، وتستحيلُ أشِعّتُها الصفراء لوناً أحمر قانياً؛ فيتذكر لون رمال الصحراء وفيافيها. تحت الجناحِ، سحابةٌ كثيفةٌ مثلَ رغوةِ البحرِ، تحجب عنه الأرض البعيدة. وكالقطن الأبيض، الذي يراكمه الحاصدون تتكاثر الغيوم؛ فيتذكر شتاء الطائف، وزخات مطرها. وفي السماء فوق الجناح؛ تداعبه نجمةٌ، يرى فيها اسمَهُ فريداً، سابراً أغوار الكون؛ ملتحماً بالطبيعة، معتصماً بالاستقلال!
كان عقله المتّقد، ورُوحُهُ المَرِحَةَ، متأهبتين للتجربة الباريسية، وكأنما رحلته إلى الهدا، لا إلى عاصمة الأنوار!
هبطت الطائرة في مطار شارل ديغول؛ وفي حقيبة الشاب السعودي، كتبٌ قليلةٌ، وفي رأسهِ طموحاتٍ لا سَقفَ لها، فالسماء كانت على قريبة من الطائف!
توجّه إلى السوربون ليدرس النقد، واختار لبحثه موضوعاً فريدًا عنوانهُ: «الروابط بين الشعر العربي كشكلٍ قولي وخطابي منفرد عند العرب، وبين الإسلام في بداياته». أشرف عليه المستشرق البروفيسور شارل بيللا، وأكمل الإشراف عليه أستاذ الفكر المعاصر بالجامعة آنذاك المفكر المعروف البروفيسور محمد أركون، رحمه الله.
وبذا يكون فهد العرابي الحارثي، صاحبَ سندٍ عالٍ في الحداثة العربية والغربية، ما أهله لنيل الدكتوراه بتقدير مشرف جداً في ١٩٨٠، قبل الحصول على الدكتوراه، لم يتوقف صاحبنا، عن العمل مديرا لمكتب جريدة (الرياض) بباريس، خلال فترة دراسته بفرنسا كلها.
يقول فهد: «عند العودة من الابتعاث؛ كان الانضمام لعضوية هيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة الملك سعود، وتَوَلّيتُ، في الوقت نفسه، رئاسة تحرير مجلة (اليمامة) الأسبوعية».
يمامةُ الحداثة والجُرأة والتنوير
لم تكن (اليمامة)، قبل فهد الحارثي، مجلة الثقافة السعودية الأولى، فحسب، ولا مجرّد تجربة صحافية تعكس اهتمامات السعوديين فقط، بل حَوَت المشروع الثقافي، الذي يصهر الجزيرة العربية، في مشروع الدولة السعودية، تحت قيادة المؤسس؛ فقدّمت القوائم الأساسية التي تقف عليها تطلّعات جيل التأسيس من السعوديين. لذلك لم يكن تسنم الدكتور فهد العرابي الحارثي لرئاسة تحريرها أمراً يمر عليه السارد لسيرته دون تأملٍ وتفكير.
إذ تقف عند (اليمامة)، تقف عند فكرتها أولاً، تقف عند شيخ المؤرّخين، وعلّامة الجزيرة العربية، تقف عند حمد الجاسر، رحمه الله، ولعمري إنّ الجاسر؛ هو أطلال العرب، وأخبار الجزيرة وآدابها، ولا تلمني إن أوقفتك عنده طويلاً، فحالي عند هذا الرجل؛ كحال الموصوف عند المتنبي:
بَليتُ بِلى الأَطلالِ إِن لَم أَقِف بِها وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التَربِ خاتَمُه
يستحضر فهد العرابي الحارثي، ذكريات مجلة (اليمامة)، بزهوٍ وفخر واعتداد؛ لريادتها وعراقتها، ولأنها كما يقول: «ابنة حمد الجاسر»، الذي «ماتَ وهو يُحِسُ بأنَ اليمامةَ يَمَامَتُهُ».
اختطّ العرابي في مسيرته خطاً نقدياً واضحاً، وعمل ضمن كوكبة من المبدعين الذين لا يمكن أن يضمّهم سوى العمل الحر؛ فقد أجادوا جميعا خلق هامش واسع، تحوّل إلى متنٍ للحرية، ووسِع مجرى تنسُّم الناس لها، وحفر بيد من حديد؛ لإقناع المجتمع والدولة معًا: أنّ الشخصية الثقافية القوية، وحدها ما يدعم خطط قادة البلاد، للانتقال بها من مجتمع هشّ ومهدّد، إلى دولةٍ قوية.
يقول الدكتور فهد، حكاية عن أيام (اليمامة): «المسؤولون عدُّوا أن هدفنا هو التشكيك في مشروع التنمية الذي كان على أشُدِّه، والمحافظون، من جهتهم، اعتقدوا بأن غايتنا هي الإجهاز على ثقافة العرب وعلى تراثهم!.. وكان حل مشكلتنا مع المسؤولين أسهل بكثير منه مع الآخرين».
من صفات الدكتور العرابي، التي لك أن تُصَنِّفَها كيفما شئت، أنّه عنيدٌ وحادٌ وذكيٌ، ولا يمكن أن يخاف بسهولة، وبوصفه رئيساً فهو مُتعِبٌ لفريقه، فلا يرضيه العملُ التقليدي، فما بالك بنصف العملِ، أو ربعه؟!
كان خصمًا قوياً، صبورًا، لا ينزوي عن واجبه، أو يتراجع عن قناعاته، ما دامت لا تصادم المجتمع أو الدولة. يصف فهد العرابي، هوجة التيارات والمعارك، التي لم يكن منها بعيداً، بعبارته الأنيقة، فيقول: «فأُخرِجَ يومها من المِلّة من أُخرِجَ، وفُسِّقَّ من فُسِّقَ، ولم يكن هناك، في هذا الضجيج المُحتدِم، من صوتٍ عاقلٍ واحدٍ، يدعو إلى شيءٍ من الهدوء، ومن العلمية، ومن الالتقاء حول مفاهيمٍ، أكثر وضوحاً، تنشلنا من هذا التيه العجيب»!
معركتنا مع التخلّف يا أصدقاء
اتخيل فهد العرابي الحارثي، في كل اجتماع تحرير مع خيرة شباب الصحافة السعودية آنذاك، يذكرهم كل مرة: «معركتنا مع التخلّف يا أصدقاء».
وإذا أردت أن تتخيّل سقف الحرية، ومدى الرؤية التي كانت توفرها (اليمامة)، فليس عليك سوى أن تتأمّل معي، كوكبة الأسماء التي عملت مع فهد العرابي، وأبدأ بمدير التحرير الأستاذ داود الشريان، الذي أطلق عليه الصحافي الجميل الراحل صالح العزاز: «الثاخب جداً، والصحافي جداً، الزميل داود الشريان، الذي قرر أن يكون مندوب الضعفاء والمستضعفين، ضد الوزراء والبيروقراطيين».
ولنستمع إلى قائد أوركسترا (اليمامة) الدكتور فهد العرابي، وهو يروي عن تيك الأيام الخوالي، ويتذكّر بحنين نجومها، فيذكر: «إدريس الدريس؛ مدير التحرير، ثم نائب رئيس التحرير، لم يكن قبل سنوات سوى متعاون في صفحات الرياضة. وعبدالله الصيخان (يتولى الآن الإشراف على اليمامة في محاولة صادقة لانتشالها مجدداً)؛ الشاعر الذي هبط علينا من تبوك، فلم يلبث أن أصبح هو الآخر مديراً للتحرير. وفهد العبدالكريم؛ سكرتير التحرير التنفيذي، دخل علينا محرراً صغيراً لـ(رحاب الإيمان). وعبدالعزيز السويد؛ سكرتير التحرير أيضاً، اكتشَفَته اليمامة، قبل أعوام قليلة، كاتباً في أول الطريق في صفحات قلم وحبر. ومثله جاسر الجاسر؛ كان رئيس القسم الثقافي، والناقد المعروف»، وبعد ذكر كوكبة من الأسماء يضيف إليهم «علي العميم؛ محرِّر المحلّيات المبتدئ، الذي أمسى الآن من أبرز كُتّاب الجيل الأخير من الشباب».
يقول صالح العزاز، عن يمامة فهد العرابي: «هنا في الرياض، مع بداية عهد جديد، وأحلام جديدة، وتجربة مختلفة: مجلة اليمامة؛ غابة الوعول والخيول والأحصنة، وشمس ومدفأة».
يضيف العزاز: «إنها اليمامة؛ فيها شارع الخبيب في بريدة، والشانزليزيه في باريس؛ فيها جبة وأمستردام؛ فيها تعرّفتُ على ظاهرة سعد الدوسري؛ هذا الأبيض الذي قرّر أن يكون مندوب أطفال العالم وكأنه منهم، والأستاذ الفاضل فهد العريفي، المدير العام الذي يقول لك إنه أبوك، أردتَ أم لم تُرِد».
نجح فهد في شهور، وحقّق الصيت، وتلقّى الهجمات تلو الهجمات، على شخصه ومجلّته، ردًا على ما يقوله في ندوات أو يكتبه في مقالات. وما أجمل الراحل العزيز، الدكتور غازي القصيبي، الذي كتب إلى الدكتور فهد العرابي، يواسيه، برسالة رقيقة مؤرّخة في ٢٧ يناير (كانون الثاني) ١٩٨٢، بعد شهور من تولّي فهد، رئاسة تحرير (اليمامة)، قائلاً: «عزيزي الدكتور فهد، أحسستُ وأنا أقرأ مقالك أنك تشعر بشيء من المرارة، إثر تعليقات الندوة. أؤكد لك أن هذه التعليقات ليس لها أي علاقة بما قلته أو لم تقله. الموضوع هو فهد، ونجاح فهد الكبير في هذه الفترة القصيرة. وهذه هي القضية باختصار، صدق أو لا تصدق»!!
ويضيف «لازلت بعض الأحيان أتألّم، لأني أرى إنساناً يتعذّب لنجاح الآخرين، ولكن هذه هي الحقيقة المُرة، في كل زمان ومكان للأسف».
تقدّم الدكتور فهد باستقالته، في العام ١٩٩١، بعد 12 عاماً، وجاءته رسالة لطيفة من الملك سلمان حينها، فهم البعض أنها محاولة لإثنائه عن الاستقالة، ولكن الدكتور فهد العرابي الحارثي، قال: «أعتبرها فخراً واعتزازاً لي شخصيًا، وقد كان (حفظه الله) يوليني الكثير من الرعاية والاهتمام، طوال فترة رئاستي لتحرير مجلة (اليمامة)، وهو الذي رشّحني لرئاسة تحريرها، وبالتالي؛ فعندما خرجتُ من المجلة أنعم عليَّ بهذا الخطاب».
3 دورات شورية
في العام ١٩٩٢، وبأمر من الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، اختير الدكتور فهد العرابي الحارثي واحداً من 60 عضواً في مجلس الشورى، الذي أعيد تشكيله في هيئته الجديدة، بعد عقود من توقفه، وكان نظام مجلس الشورى، آنذاك، ضمن مجموعة أنظمة حديثة، صدرت في السعودية، ضمنها النظام الأساسي للحكم، الذي يمكن اعتباره، بمثابة دستور للبلاد.
عضوية مجلس الشورى في كل دورة 4 سنوات، لكن الدكتور فهد استمرّ عضواً في مجلس الشورى ثلاث دورات متعاقبة، (مجموع سنواتها ١٢عاماً)، عمل فيها نائباً لرئيس لجنة التعليم، والثقافة والإعلام، ورئيسًا للجنة ذاتها في مجلس الشورى.
وانحنى القلب مرتين!
ارتبطَت الوطن بالأمير خالد الفيصل، وهو المثقّف صاحب الرؤية الجادة والمستقبلية، فكأنه أراد لمنطقة عسير، التي كان الفيصل أميراً لها، أن تدخل المنافسة من بوابة الإعلام... أن تتقدّم بالثقافة والأدب.
وقع اختيار الأمير خالد على الدكتور فهد العرابي الحارثي، ليقود فريق دراسات التحضير لصدور (الوطن)، صحيفة عسير، ذات المطمح العسير، وعاصمتها الأبهى، أبها. ودخل العرابي ضمن مجلس إدارة مؤسسة عسير للصحافة، ناشر الصحيفة الوليدة آنذاك.
العرابي، انتُخب أوّل رئيـس لمجلـس إدارة مؤسـسة عسـير للصحافة والنشـر، قبل الصدور بثلاثة أعوام في 1997، وجدد انتخابه في 2002.
فهد، صاحب الرؤية التحديثية التي يُمكِنها وضع دراسة تَعبُر بالتجربة إلى درب النجاح. يقول إنه نصح الأمير، في المجلس الأول، بأن تَصدُر المطبوعة مجلةً أسبوعية، بل شهرية، تختص بالسياحة في عسير، ولكنّ الأمير خالد الفيصل قطع بأنّه يريدها صحيفة يومية، وأن صدورها من أبها لا يعني أن يقتصر اهتمامها بمنطقة عسير، بل يشمل السعودية كلها، ويهتم بالعالم العربي في الوقت نفسه!
لكل.. «الوطن»
يحكي الدكتور فهد، أن اللجنة التأسيسية ذهبت للسلام على الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ولي العهد آنذاك، رحمه الله، لشكره على التفضّل بدعم مرحلة الترخيص، فقال للجنة التأسيسية: أنا لا أريد أن تكون الجريدة التي ستصدر من عسير هي جريدة لعسير، لا أريدها أن تكون إقليمية، لأننا نحن لا نريد أن نكرس الإقليميات في المملكة العربية السعودية؛ نحن وطن واحد. فأخبروه بأن الجريدة ستعنى بشؤون المملكة العربية السعودية كلها وشؤون الوطن. فقال الأمير عبدالله: حسنًا نسميها «الوطن».
دعم العرابي، فكرة تدريب صحافيي (الوطن)، وابتعثت بعضهم لصحف عالمية لاكتساب الخبرة، بغية نقلها للصحيفة الحديثة.
صدرت (الوطن) في سبتمبر ٢٠٠٠، فكانت صحيفة مختلفة، وكأن القائمين عليها يراهنون على إثارتها النقع، كما راهن أجدادهم الأوائل على خيلهم:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تُثيرُ النقعَ موعدها كداءُ
ظلّت الظروف المتباينة تدفع العرابي للاستقالة مرة بعد أخرى، وظل هو يدفع بالعمل إلى الأمام، إلى أن قدم استقالته من مؤسسة عسير للصحافة والنشر، ورئاسة مجلس الإدارة، فردّ عليه الأمير خالد الفيصل بلطفه المعهود، حافظاً له فضل التأسيس، ودراسة الجدوى، والإدارة الحسنة. وكتب الأستاذ قينان الغامدي، رئيس التحرير حينها، في الثاني من أبريل (نيسان) ٢٠٠٤، مقاله الشهير: «استقالة فهد الحارثي.. الذبح قليل فيك»، ذكر فيه أنه لما قرأ استقالة الحارثي، قال: «انحنى القلب بحثاً عما فقد»، وأردف: «فهد الحارثي لم يترك وردة بيضاء على مكتبه؛ بل ترك تاريخًا أبيض، بناه بإخلاص، وشيّده بدعم خالد الفيصل».
النخبة اليوم هي كل الناس
فهد العرابي الحارثي، الرجل الذي نظَر يومًا إلى عصر الإنترنت وصحافة الجميع، والتحوّلات الجوهرية التي تجتاح التفكير، وهي تغيّرات أصابت الجميع بالصدمة؛ إذ سرعان ما تحوّل القارئ الذي لا يتفاعل مع المادة المطبوعة إلا بالقراءة إلى مرسِلٍ قد يكون أكثر تأثيرا من الكاتب الأوّل، دعا بداية العام 2019 إلى الاندماج الكامل بين وسائل الإعلام المختلفة، فلا تكون هناك فروق أو فواصل نظرية أو عملية بين الصحافة والإذاعة والتلفزيون، بل تكامل بينها، وهو ما يتطلب إعداد صحافيين وإعلاميين بمواصفات جديدة، ومهارات مختلفة، لإنتاج محتوى يعتمد على الوسائط المتعددة، وعلى البرامج والتطبيقات الحديثة.
نتاجٌ ثري
أصدر فهد العرابي الحارثي، في العام ١٩٩١ كتاباً عن غزو صدام للكويت، عنونه بـ«وقت للعار»؛ عَبّر فيه عن الألم العربي، إثر الغزو، الذي أحدث شرخاً أخوياً، وجرحاً غائراً، وفي ١٩٩٥ أصدر كتاب: «قال ابن عباس.. حدثتنا عائشة»، حاول فيه إثبات تآخي الشرعي والأدبي، بمنهج لطيف، لا يخلو من اتصالٍ بصراع الحداثة آنذاك. ولاحقاً أصدر كتابه المثير للجدل «أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية»، وانتقد فيه مشروع الشرق الأوسط الكبير.
أما كتابه: «هؤلاء.. وأنا» (٢٠١٣)، فسرد فيه حكايات شخصية مع قادة وأمراء ومثقفين؛ فالأسماء التي تعبر الذاكرة كثيرة، وهو حاول إعادة الاتصال، بما علق بالذاكرة من تلك الأسماء، مجدداً الحوار معها، محاولاً استفزازها، لأنها تستفزه، بدورها للتفكير والكتابة، واكتشاف هواجس الناس.
يقول الدكتور فهد: «نحن معرضون للتعلم، ممن نتفق معهم في الأفكار، وفي المزاج، كما نتعلم في الوقت ذاته، من الذين نختلف معهم».
كما أصدر كتباً:
- «وجوهٌ وأمكنة» (٢٠١٤).
- «أنتِ قبيحةٌ هذا الصباح» (٢٠١٣).
- «المعرفة قوة والحرية أيضاً» (٢٠١٠).
- «المملكة العربية السعودية ماضياً وحاضراً (الأرض، الإنسان، الحضارة)»، مشاركة مع آخرين (٢٠١٣).
- «اتجاهات الكتاب السعوديين والمطبوعات السعودية نحو الحرب على العراق»، مشاركة مع آخرين (٢٠٠٤).
حيث لا مكان للسكون!
في العام ٢٠١٦ أسس الدكتور فهد العرابي الحارثي «منتدى أسبار الدولي» ليعمل على نقل المجتمع إلى مجتمع المعرفة، ودعم فرص التحول الرقمي والاقتصادات الجديدة، وكان الدكتور فهد أسس في العام ٢٠١٥ ملتقى أسبار، ليكون ملتقى فكرياً يناقش قضايا المجتمع السعودي والوطن العربي، ويصدر من الملتقى كل شهر تقرير يلخص نقاشات نحو 70 باحثاً، من مختلف التوجهات، في الموضوعات كافة، والتي يتم اختيارها، من قبل الباحثين، في أوقات متقدمة.
منتدى أسبار، وملتقى أسبار، هما من أفكار ومشاريع مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، الذي أسسه مالكه ورئيسه الدكتور فهد في العام ٢٠١٤، أي بعد عامين من انتهاء عضويته في مجلس الشورى. والمركز، بحسب تعريف رئيسه، أُنشئ «دعماً لصانع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو كما قدم دراسات لإصدار صحف (الوطن)، وصحيفة (البلاد)، و(الشرق)، أصدر موسوعات مهمة، منها: -
- موسوعة أسبار للعلماء والمتخصصين في الشريعة الإسلامية في السعودية.
- معجم أسبار للنساء السعوديات.
- موسوعة الدبلوماسيين السعوديين.
حراك الدكتور فهد العرابي الحارثي، الثقافي، والمعرفي، في المجتمع، لا يُنكره إلا جاحد، أو مُكابر، وهو حراكٌ إيجابي، يستثمر عقولاً أكاديمية ومتخصصة، في الدراسات والمنتجات التي تقدمها (أسبار)، بمختلف مناشطها، خلافاً لنتاجه النشط في التأليف.
الثقافة الباريسية الفرانكفونية، وشهادة الدكتوراه بتفوق من جامعة السوربون العريقة، والنجاحات الصحافية التي أثارت النقع، والمعارك الفكرية الشرسة، و١٢ عاماً تحت قبة الشورى، ونشاطات أسبار التي لا تعرف معنى السكون... كل ذلك لم تغير ابن المريفق، أو تمنعه لحظة من الفخر بمسقط رأسه... لذلك يقول: «أشعر بأن قامتي تطول، كلما صرت في المُريفق».
لذلك، وغيره، فهد العرابي الحارثي، قامة فارعة، حيثما كان!
وليس يمنحك برهان التفرّد السعودي هذا، شاهدٌ حيّ، مثل أنموذج الدكتور فهد العرابي الحارثي؛ فهو متعدد المواهب والملكات، واسع المعرفة والتجربة، أكاديمي جاد، ومثقفٌ شامل، وإداري ناجح، وقائد مركز أبحاث ناجح، وصاحب مؤتمر دولي سنوي بات يُشار له بالبنان، خلال بضعة أعوام.
لا يمكن أن تذكر التجربة الصحافية الحديثة في السعودية، دون أن يرد اسم الدكتور فهد العرابي، ضمن أهم أسماء الرواد.
ساهم صاحبنا في إدارة تجربتين رئيسيتين، ربما كانتا، الأهم في رفع سقف الحرية، في الصحافة السعودية، صحيفة (الوطن)، المشروع الأثير للأمير خالد الفيصل (أمير منطقة عسير آنذاك)، مستشار خادم الحرمين الشريفين، وأمير منطقة مكة المكرمة، والتي ظهرت فكرةً، ثم صحيفةً ألقت جبلاً، لا صخرةً، في مياه الصحافة السعودية، بنيت على دراساتٍ، أوكل إعدادها وتهيئتها للظهور إلى الدكتور فهد العرابي الحارثي، الذي قاد فريقاً من المختصين، في مركز أسبار للدراسات، الذي يملكه ويديره الدكتور فهد، عمل سنوات لتقديم دراسات للصحيفة الجريئة، حتى صدورها، وتولى العرابي الحارثي، لسنواتً، منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة عسير للصحافة، التي تُصدر (الوطن)، خلال الفترة (١٩٩٧-٢٠٠٣)، وأشرف على تحرير الجريدة عام ٢٠٠٢، بالإضافة إلى رئاسته مجلس الإدارة.
يعتبر الدكتور العرابي مرحلة عمله في تأسيس (الوطن)، منذ أن كانت فكرة، فدراسة، فمشروعاً في المخاض، فمولودةً بكراً، حتى أصبحت فتاةً جميلةً، شَبَّت عن الطوق، هي أهم مراحل حياته المهنية، كما في موقعه الإلكتروني.
يعزو الدكتور فهد، تربع تلك المرحلة، على أهمية مراحل حياته المتعددة، إلى كون (الوطن)، هي أول صحيفة سعودية جديدة، تظهر في السوق (صدرت العام ٢٠٠٠)، بعد أربعين سنة منذ صدور آخر صحيفة بالمملكة، وهو ما جعل منافسة صحفٍ أصغرها عمراً، يبلغ أربعة عقودٍ، مخاطرةً مهنيةً وتجاريةً، في آنٍ؛ لكن العرابي يعتقدُ أنها مخاطرةٌ تستحقُ ما بُذل من أجلها.
كما أن الدكتور فهد العرابي الحارثي، قاد تجربة صحافية، شبابية، فيها من المهنية، والجمال، والجرأة، والاختلاف، وبعضاً من العقل، وشيئاً من الجنون اللذيذ، لما كان رئيساً لتحرير مجلة (اليمامة)، خلال الفترة ١٩٨٠-١٩٩٢، وهي مرحلةٌ، كانت (اليمامة) فيها مجلةً، وَلّادةً، للأفكارِ، والموضوعاتِ، والصحافيينَ المُبدِعين. خلاصة تجربة الدكتور فهد العرابي آنذاك، أن منح زملاءه كل واحدٍ من الصحافيين الشباب، في (اليمامة)، رئةً ثالثةً!
وحيدُ الشيخين!
كان للكاتب الكبير، عباس محمود العقاد، في عَبقَرِيَاتِهِ، منهجاً لسبر أغوارِ الشخصياتِ التي يترجم لها؛ فيمخرُ عُبَابَها، على سفينةٍ هذا المنهج، الذي يُطلِقُ عليه؛ «مفتاح الشخصية»، ويُعَرِّفُهُ بأنه: «الأداةُ الصغيرةُ، التي تَفتَحُ لنا أَبوابَها، وتَنفُذُ بِنا وَراءَ أَسوَارِها وَجُدرَانِها».
ويرى العبدُ الفقيرُ إلى الله، أن لشخصِياتِنا السعوديةِ مفاتِح عِدّة؛ مُبَعثَرَةً في مراحِلِ العُمُرِ، وأولُ هذهِ المفاتِحُ نَصِيحَةُ أُمٍ، أو تَوجِيهُ أَبٍ. ولطالما وجدنا مفتاح شخصية الكثير من أبطالنا، في ذكرياتِ طُفُولَتِهِم، وتَكوِينِهِم الأُسَرِيِّ، أو الجَمَعِيِّ. فمن أين نبدأ رحلتنا مع فهد العرابي الحارثي؟!
وُلد فهد، لأبٍ بلغ الستين من عمره قبل ولادة فتاة، ولأُمٍّ في بداية عقدها الخامس؛ فكان الابن المُدَلَلَ لَهُمَا، وانصَّبَ تركيزُ والديهِ عليهِ بالكُلِيَّةِ، يَحُفّانِهِ بالعنايَةِ، ويُطَوِقانِهِ بالاهتمام. ولَكَ، أَيُها القارئُ الكريم، أن تتخيل، حظوة أبوين في سن الشيخوخة بوليدهما الوحيد، إذ تَخَطّفَ الموتُ جميع إخوته، وكان له أختٌ، فلم تسلم من الموتِ، هي الأُخرى، فكان فهد، هو سلوَتَهُمَا.
في العالم ١٩٤٥، وُلد صاحبنا، بوادي المُرَيفِق، جنوب شرق الطائف، والذي ظلّ «الأرومة والجذوة الأصيلة في هويّته الوطنية»، ولا يزال يُعبِّر عن الوادي بقوله: «مسافة لا محدودة بيني وبين الكون كله». ظلّ يسكنه الحنين إليه في كل مراحله... يقول: «كنت في باريس، لكن قلبي وعقلي، تركته في بلدي ووطني، وخصوصاً في المريفق». انتقل في صباه من المريفق، إلى الطائف، ولكنه ظلّ يزور المريفق دائماً، ولسان حاله:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
في منزلته الأولى، ومَدرسته الأُسريّة، تعلّم فهد من والده ما يُسمِيهِ: «أُصول الرجولة»؛ مثل أدب الحوار والحديث إلى من يكبُرهُ سناً، أو من يصغُرهُ أيضاً. أما والدتُهُ، فقد حفَّزَت فيه حُبّ التَعَلُمِ. لازمه هذا التشجيع، حتى جعل منه، مثقّفاً يُشار إليه بالبنان، وأَولد في نفسه امتناناً لوالدته؛ ظهرَ في مواضعَ، بينها ما سَطَرَهُ عام ١٩٩٥ في كتابهِ: «قال ابن عباس.. حدّثتنا عائشة»، إهداءً: «إلى المرأةِ التي حاصرت وحيدها بالحب، والدفء، والدعاء المبارك».
استحقاق أكاديمي.. وتميّز صحافي
درس فهد، مراحله التعليمية، بدار التوحيد بالطائف، وحصل منها على الشهادة الثانوية، بتفوّقٍ في ١٩٦٥. ثم التحق بكلية الشريعة والدراسات الإِسلامية بمكة المكرمة، وحصل منها على البكالوريوس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى في تخصص الآداب عام ١٩٦٦، وعُيِّنَ أوّل تخرجه مُعِيدًا بجامعة الملك سعود.
شَغَفُ الدكتور فهد العرابي الحارثي بالصحافة، جَعَلَهُ مُحَرِّراً ثقافياً، بصحيفة (الرياض)؛ يوم كان مقرُّها بحي المرقب. وبعد فترة قصيرة صار رئيساً للقسم الثقافي.
ولما سنَحَت فُرصةُ المعيدِ بالجامعة، للابتعاث، نَصَحَهُ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الفَدّا، عميد كلية التربية آنذاك، أن يُيَمِمَ وجهته نحو باريس تحديدًا، بدلاً من أمريكا التي كانت قبلةَ المبتعثين السعوديين آنذاك!
كان الفدّا، بنى اقتراحَهُ في العام ١٩٧٣، لأنه يعتبر باريس عاصمة الثقافة والأدب، ويرى في فهد العرابي، رئيس القسم الثقافي بصحيفة (الرياض)؛ محبةَ الأدب والقصة والنقد، ما سُيكسِبُ فهداً، بالتجربة الفرنسية، حضوراً ثقافياً وأدبياً، نافعاً له شخصياً، ولبلاده بالضرورة.
امتلأتْ نفسُ المعيد المتوقِّد، بالفكرة الجديدة، وهيّأ نفسه لها، وكادت أنفاسه تتقطّع، لما فَجَعَهُ وكيل الجامعة، آنذاك، الدكتور عبدالعزيز الخويطر؛ إذ وقف عند عنصر في لائحة الابتعاث، يشترط أن يجيد المُبتَعَثُ لغة الدولة التي سيقصدها. ولم يكن فهد يجيد الفرنسية بعد، وكاد هذا الشرط، يحرمه حلم بلوغ باريس، ودخول السوربون؛ خاصةً وأن الخويطر، عُرِف بالصرامة في تنفيذ اللوائح، ولا أحد عنده «فوق اللائحة».
لم يرفع صاحبنا الراية البيضاء؛ فهو يؤمنُ بأن هِمّةَ المرءِ، لو تعلّقَت بالثريا لنالها، كما في الأثر. وصار يبحث عن قبولٍ خاصٍ، يتكفّلُ هو بنفقته، وعزم على زيادة تعامله مع الصحف، ليوفر نفقاتِ ذهابهِ بدايةً، حتى هبطَت يوماً، زخّةُ حظٍ سعيدٍ على صاحبنا، فالتقى بالوجيه عبدالمجيد شبشكي، الذي توسّط له عند القنصل الفرنسي بجدة؛ فحصل العرابي، على منحة من الجمهورية الفرنسية، سنةً لتَعَلُّمِ اللغة الفرنسية. فاجتازها بتفوّقٍ، وانضم إلى البعثة السعودية، فإتقانهُ اللغة الفرنسية، جعله فوق اللائحة!
بدويٌ في السوربون
لطالما تخيّلتُ رحلة فهد العرابي الحارثي الأولى إلى باريس؛ أراه ينظر إلى جناح الطائرة فيتذكّر معطف والده، وشيلة (غطاء الرأس) والدته، ويمتد بصرهُ إلى المدى الذي تأفُلُ فيه الشمس بكسلٍ، وتستحيلُ أشِعّتُها الصفراء لوناً أحمر قانياً؛ فيتذكر لون رمال الصحراء وفيافيها. تحت الجناحِ، سحابةٌ كثيفةٌ مثلَ رغوةِ البحرِ، تحجب عنه الأرض البعيدة. وكالقطن الأبيض، الذي يراكمه الحاصدون تتكاثر الغيوم؛ فيتذكر شتاء الطائف، وزخات مطرها. وفي السماء فوق الجناح؛ تداعبه نجمةٌ، يرى فيها اسمَهُ فريداً، سابراً أغوار الكون؛ ملتحماً بالطبيعة، معتصماً بالاستقلال!
كان عقله المتّقد، ورُوحُهُ المَرِحَةَ، متأهبتين للتجربة الباريسية، وكأنما رحلته إلى الهدا، لا إلى عاصمة الأنوار!
هبطت الطائرة في مطار شارل ديغول؛ وفي حقيبة الشاب السعودي، كتبٌ قليلةٌ، وفي رأسهِ طموحاتٍ لا سَقفَ لها، فالسماء كانت على قريبة من الطائف!
توجّه إلى السوربون ليدرس النقد، واختار لبحثه موضوعاً فريدًا عنوانهُ: «الروابط بين الشعر العربي كشكلٍ قولي وخطابي منفرد عند العرب، وبين الإسلام في بداياته». أشرف عليه المستشرق البروفيسور شارل بيللا، وأكمل الإشراف عليه أستاذ الفكر المعاصر بالجامعة آنذاك المفكر المعروف البروفيسور محمد أركون، رحمه الله.
وبذا يكون فهد العرابي الحارثي، صاحبَ سندٍ عالٍ في الحداثة العربية والغربية، ما أهله لنيل الدكتوراه بتقدير مشرف جداً في ١٩٨٠، قبل الحصول على الدكتوراه، لم يتوقف صاحبنا، عن العمل مديرا لمكتب جريدة (الرياض) بباريس، خلال فترة دراسته بفرنسا كلها.
يقول فهد: «عند العودة من الابتعاث؛ كان الانضمام لعضوية هيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة الملك سعود، وتَوَلّيتُ، في الوقت نفسه، رئاسة تحرير مجلة (اليمامة) الأسبوعية».
يمامةُ الحداثة والجُرأة والتنوير
لم تكن (اليمامة)، قبل فهد الحارثي، مجلة الثقافة السعودية الأولى، فحسب، ولا مجرّد تجربة صحافية تعكس اهتمامات السعوديين فقط، بل حَوَت المشروع الثقافي، الذي يصهر الجزيرة العربية، في مشروع الدولة السعودية، تحت قيادة المؤسس؛ فقدّمت القوائم الأساسية التي تقف عليها تطلّعات جيل التأسيس من السعوديين. لذلك لم يكن تسنم الدكتور فهد العرابي الحارثي لرئاسة تحريرها أمراً يمر عليه السارد لسيرته دون تأملٍ وتفكير.
إذ تقف عند (اليمامة)، تقف عند فكرتها أولاً، تقف عند شيخ المؤرّخين، وعلّامة الجزيرة العربية، تقف عند حمد الجاسر، رحمه الله، ولعمري إنّ الجاسر؛ هو أطلال العرب، وأخبار الجزيرة وآدابها، ولا تلمني إن أوقفتك عنده طويلاً، فحالي عند هذا الرجل؛ كحال الموصوف عند المتنبي:
بَليتُ بِلى الأَطلالِ إِن لَم أَقِف بِها وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التَربِ خاتَمُه
يستحضر فهد العرابي الحارثي، ذكريات مجلة (اليمامة)، بزهوٍ وفخر واعتداد؛ لريادتها وعراقتها، ولأنها كما يقول: «ابنة حمد الجاسر»، الذي «ماتَ وهو يُحِسُ بأنَ اليمامةَ يَمَامَتُهُ».
اختطّ العرابي في مسيرته خطاً نقدياً واضحاً، وعمل ضمن كوكبة من المبدعين الذين لا يمكن أن يضمّهم سوى العمل الحر؛ فقد أجادوا جميعا خلق هامش واسع، تحوّل إلى متنٍ للحرية، ووسِع مجرى تنسُّم الناس لها، وحفر بيد من حديد؛ لإقناع المجتمع والدولة معًا: أنّ الشخصية الثقافية القوية، وحدها ما يدعم خطط قادة البلاد، للانتقال بها من مجتمع هشّ ومهدّد، إلى دولةٍ قوية.
يقول الدكتور فهد، حكاية عن أيام (اليمامة): «المسؤولون عدُّوا أن هدفنا هو التشكيك في مشروع التنمية الذي كان على أشُدِّه، والمحافظون، من جهتهم، اعتقدوا بأن غايتنا هي الإجهاز على ثقافة العرب وعلى تراثهم!.. وكان حل مشكلتنا مع المسؤولين أسهل بكثير منه مع الآخرين».
من صفات الدكتور العرابي، التي لك أن تُصَنِّفَها كيفما شئت، أنّه عنيدٌ وحادٌ وذكيٌ، ولا يمكن أن يخاف بسهولة، وبوصفه رئيساً فهو مُتعِبٌ لفريقه، فلا يرضيه العملُ التقليدي، فما بالك بنصف العملِ، أو ربعه؟!
كان خصمًا قوياً، صبورًا، لا ينزوي عن واجبه، أو يتراجع عن قناعاته، ما دامت لا تصادم المجتمع أو الدولة. يصف فهد العرابي، هوجة التيارات والمعارك، التي لم يكن منها بعيداً، بعبارته الأنيقة، فيقول: «فأُخرِجَ يومها من المِلّة من أُخرِجَ، وفُسِّقَّ من فُسِّقَ، ولم يكن هناك، في هذا الضجيج المُحتدِم، من صوتٍ عاقلٍ واحدٍ، يدعو إلى شيءٍ من الهدوء، ومن العلمية، ومن الالتقاء حول مفاهيمٍ، أكثر وضوحاً، تنشلنا من هذا التيه العجيب»!
معركتنا مع التخلّف يا أصدقاء
اتخيل فهد العرابي الحارثي، في كل اجتماع تحرير مع خيرة شباب الصحافة السعودية آنذاك، يذكرهم كل مرة: «معركتنا مع التخلّف يا أصدقاء».
وإذا أردت أن تتخيّل سقف الحرية، ومدى الرؤية التي كانت توفرها (اليمامة)، فليس عليك سوى أن تتأمّل معي، كوكبة الأسماء التي عملت مع فهد العرابي، وأبدأ بمدير التحرير الأستاذ داود الشريان، الذي أطلق عليه الصحافي الجميل الراحل صالح العزاز: «الثاخب جداً، والصحافي جداً، الزميل داود الشريان، الذي قرر أن يكون مندوب الضعفاء والمستضعفين، ضد الوزراء والبيروقراطيين».
ولنستمع إلى قائد أوركسترا (اليمامة) الدكتور فهد العرابي، وهو يروي عن تيك الأيام الخوالي، ويتذكّر بحنين نجومها، فيذكر: «إدريس الدريس؛ مدير التحرير، ثم نائب رئيس التحرير، لم يكن قبل سنوات سوى متعاون في صفحات الرياضة. وعبدالله الصيخان (يتولى الآن الإشراف على اليمامة في محاولة صادقة لانتشالها مجدداً)؛ الشاعر الذي هبط علينا من تبوك، فلم يلبث أن أصبح هو الآخر مديراً للتحرير. وفهد العبدالكريم؛ سكرتير التحرير التنفيذي، دخل علينا محرراً صغيراً لـ(رحاب الإيمان). وعبدالعزيز السويد؛ سكرتير التحرير أيضاً، اكتشَفَته اليمامة، قبل أعوام قليلة، كاتباً في أول الطريق في صفحات قلم وحبر. ومثله جاسر الجاسر؛ كان رئيس القسم الثقافي، والناقد المعروف»، وبعد ذكر كوكبة من الأسماء يضيف إليهم «علي العميم؛ محرِّر المحلّيات المبتدئ، الذي أمسى الآن من أبرز كُتّاب الجيل الأخير من الشباب».
يقول صالح العزاز، عن يمامة فهد العرابي: «هنا في الرياض، مع بداية عهد جديد، وأحلام جديدة، وتجربة مختلفة: مجلة اليمامة؛ غابة الوعول والخيول والأحصنة، وشمس ومدفأة».
يضيف العزاز: «إنها اليمامة؛ فيها شارع الخبيب في بريدة، والشانزليزيه في باريس؛ فيها جبة وأمستردام؛ فيها تعرّفتُ على ظاهرة سعد الدوسري؛ هذا الأبيض الذي قرّر أن يكون مندوب أطفال العالم وكأنه منهم، والأستاذ الفاضل فهد العريفي، المدير العام الذي يقول لك إنه أبوك، أردتَ أم لم تُرِد».
نجح فهد في شهور، وحقّق الصيت، وتلقّى الهجمات تلو الهجمات، على شخصه ومجلّته، ردًا على ما يقوله في ندوات أو يكتبه في مقالات. وما أجمل الراحل العزيز، الدكتور غازي القصيبي، الذي كتب إلى الدكتور فهد العرابي، يواسيه، برسالة رقيقة مؤرّخة في ٢٧ يناير (كانون الثاني) ١٩٨٢، بعد شهور من تولّي فهد، رئاسة تحرير (اليمامة)، قائلاً: «عزيزي الدكتور فهد، أحسستُ وأنا أقرأ مقالك أنك تشعر بشيء من المرارة، إثر تعليقات الندوة. أؤكد لك أن هذه التعليقات ليس لها أي علاقة بما قلته أو لم تقله. الموضوع هو فهد، ونجاح فهد الكبير في هذه الفترة القصيرة. وهذه هي القضية باختصار، صدق أو لا تصدق»!!
ويضيف «لازلت بعض الأحيان أتألّم، لأني أرى إنساناً يتعذّب لنجاح الآخرين، ولكن هذه هي الحقيقة المُرة، في كل زمان ومكان للأسف».
تقدّم الدكتور فهد باستقالته، في العام ١٩٩١، بعد 12 عاماً، وجاءته رسالة لطيفة من الملك سلمان حينها، فهم البعض أنها محاولة لإثنائه عن الاستقالة، ولكن الدكتور فهد العرابي الحارثي، قال: «أعتبرها فخراً واعتزازاً لي شخصيًا، وقد كان (حفظه الله) يوليني الكثير من الرعاية والاهتمام، طوال فترة رئاستي لتحرير مجلة (اليمامة)، وهو الذي رشّحني لرئاسة تحريرها، وبالتالي؛ فعندما خرجتُ من المجلة أنعم عليَّ بهذا الخطاب».
3 دورات شورية
في العام ١٩٩٢، وبأمر من الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، اختير الدكتور فهد العرابي الحارثي واحداً من 60 عضواً في مجلس الشورى، الذي أعيد تشكيله في هيئته الجديدة، بعد عقود من توقفه، وكان نظام مجلس الشورى، آنذاك، ضمن مجموعة أنظمة حديثة، صدرت في السعودية، ضمنها النظام الأساسي للحكم، الذي يمكن اعتباره، بمثابة دستور للبلاد.
عضوية مجلس الشورى في كل دورة 4 سنوات، لكن الدكتور فهد استمرّ عضواً في مجلس الشورى ثلاث دورات متعاقبة، (مجموع سنواتها ١٢عاماً)، عمل فيها نائباً لرئيس لجنة التعليم، والثقافة والإعلام، ورئيسًا للجنة ذاتها في مجلس الشورى.
وانحنى القلب مرتين!
ارتبطَت الوطن بالأمير خالد الفيصل، وهو المثقّف صاحب الرؤية الجادة والمستقبلية، فكأنه أراد لمنطقة عسير، التي كان الفيصل أميراً لها، أن تدخل المنافسة من بوابة الإعلام... أن تتقدّم بالثقافة والأدب.
وقع اختيار الأمير خالد على الدكتور فهد العرابي الحارثي، ليقود فريق دراسات التحضير لصدور (الوطن)، صحيفة عسير، ذات المطمح العسير، وعاصمتها الأبهى، أبها. ودخل العرابي ضمن مجلس إدارة مؤسسة عسير للصحافة، ناشر الصحيفة الوليدة آنذاك.
العرابي، انتُخب أوّل رئيـس لمجلـس إدارة مؤسـسة عسـير للصحافة والنشـر، قبل الصدور بثلاثة أعوام في 1997، وجدد انتخابه في 2002.
فهد، صاحب الرؤية التحديثية التي يُمكِنها وضع دراسة تَعبُر بالتجربة إلى درب النجاح. يقول إنه نصح الأمير، في المجلس الأول، بأن تَصدُر المطبوعة مجلةً أسبوعية، بل شهرية، تختص بالسياحة في عسير، ولكنّ الأمير خالد الفيصل قطع بأنّه يريدها صحيفة يومية، وأن صدورها من أبها لا يعني أن يقتصر اهتمامها بمنطقة عسير، بل يشمل السعودية كلها، ويهتم بالعالم العربي في الوقت نفسه!
لكل.. «الوطن»
يحكي الدكتور فهد، أن اللجنة التأسيسية ذهبت للسلام على الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ولي العهد آنذاك، رحمه الله، لشكره على التفضّل بدعم مرحلة الترخيص، فقال للجنة التأسيسية: أنا لا أريد أن تكون الجريدة التي ستصدر من عسير هي جريدة لعسير، لا أريدها أن تكون إقليمية، لأننا نحن لا نريد أن نكرس الإقليميات في المملكة العربية السعودية؛ نحن وطن واحد. فأخبروه بأن الجريدة ستعنى بشؤون المملكة العربية السعودية كلها وشؤون الوطن. فقال الأمير عبدالله: حسنًا نسميها «الوطن».
دعم العرابي، فكرة تدريب صحافيي (الوطن)، وابتعثت بعضهم لصحف عالمية لاكتساب الخبرة، بغية نقلها للصحيفة الحديثة.
صدرت (الوطن) في سبتمبر ٢٠٠٠، فكانت صحيفة مختلفة، وكأن القائمين عليها يراهنون على إثارتها النقع، كما راهن أجدادهم الأوائل على خيلهم:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تُثيرُ النقعَ موعدها كداءُ
ظلّت الظروف المتباينة تدفع العرابي للاستقالة مرة بعد أخرى، وظل هو يدفع بالعمل إلى الأمام، إلى أن قدم استقالته من مؤسسة عسير للصحافة والنشر، ورئاسة مجلس الإدارة، فردّ عليه الأمير خالد الفيصل بلطفه المعهود، حافظاً له فضل التأسيس، ودراسة الجدوى، والإدارة الحسنة. وكتب الأستاذ قينان الغامدي، رئيس التحرير حينها، في الثاني من أبريل (نيسان) ٢٠٠٤، مقاله الشهير: «استقالة فهد الحارثي.. الذبح قليل فيك»، ذكر فيه أنه لما قرأ استقالة الحارثي، قال: «انحنى القلب بحثاً عما فقد»، وأردف: «فهد الحارثي لم يترك وردة بيضاء على مكتبه؛ بل ترك تاريخًا أبيض، بناه بإخلاص، وشيّده بدعم خالد الفيصل».
النخبة اليوم هي كل الناس
فهد العرابي الحارثي، الرجل الذي نظَر يومًا إلى عصر الإنترنت وصحافة الجميع، والتحوّلات الجوهرية التي تجتاح التفكير، وهي تغيّرات أصابت الجميع بالصدمة؛ إذ سرعان ما تحوّل القارئ الذي لا يتفاعل مع المادة المطبوعة إلا بالقراءة إلى مرسِلٍ قد يكون أكثر تأثيرا من الكاتب الأوّل، دعا بداية العام 2019 إلى الاندماج الكامل بين وسائل الإعلام المختلفة، فلا تكون هناك فروق أو فواصل نظرية أو عملية بين الصحافة والإذاعة والتلفزيون، بل تكامل بينها، وهو ما يتطلب إعداد صحافيين وإعلاميين بمواصفات جديدة، ومهارات مختلفة، لإنتاج محتوى يعتمد على الوسائط المتعددة، وعلى البرامج والتطبيقات الحديثة.
نتاجٌ ثري
أصدر فهد العرابي الحارثي، في العام ١٩٩١ كتاباً عن غزو صدام للكويت، عنونه بـ«وقت للعار»؛ عَبّر فيه عن الألم العربي، إثر الغزو، الذي أحدث شرخاً أخوياً، وجرحاً غائراً، وفي ١٩٩٥ أصدر كتاب: «قال ابن عباس.. حدثتنا عائشة»، حاول فيه إثبات تآخي الشرعي والأدبي، بمنهج لطيف، لا يخلو من اتصالٍ بصراع الحداثة آنذاك. ولاحقاً أصدر كتابه المثير للجدل «أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية»، وانتقد فيه مشروع الشرق الأوسط الكبير.
أما كتابه: «هؤلاء.. وأنا» (٢٠١٣)، فسرد فيه حكايات شخصية مع قادة وأمراء ومثقفين؛ فالأسماء التي تعبر الذاكرة كثيرة، وهو حاول إعادة الاتصال، بما علق بالذاكرة من تلك الأسماء، مجدداً الحوار معها، محاولاً استفزازها، لأنها تستفزه، بدورها للتفكير والكتابة، واكتشاف هواجس الناس.
يقول الدكتور فهد: «نحن معرضون للتعلم، ممن نتفق معهم في الأفكار، وفي المزاج، كما نتعلم في الوقت ذاته، من الذين نختلف معهم».
كما أصدر كتباً:
- «وجوهٌ وأمكنة» (٢٠١٤).
- «أنتِ قبيحةٌ هذا الصباح» (٢٠١٣).
- «المعرفة قوة والحرية أيضاً» (٢٠١٠).
- «المملكة العربية السعودية ماضياً وحاضراً (الأرض، الإنسان، الحضارة)»، مشاركة مع آخرين (٢٠١٣).
- «اتجاهات الكتاب السعوديين والمطبوعات السعودية نحو الحرب على العراق»، مشاركة مع آخرين (٢٠٠٤).
حيث لا مكان للسكون!
في العام ٢٠١٦ أسس الدكتور فهد العرابي الحارثي «منتدى أسبار الدولي» ليعمل على نقل المجتمع إلى مجتمع المعرفة، ودعم فرص التحول الرقمي والاقتصادات الجديدة، وكان الدكتور فهد أسس في العام ٢٠١٥ ملتقى أسبار، ليكون ملتقى فكرياً يناقش قضايا المجتمع السعودي والوطن العربي، ويصدر من الملتقى كل شهر تقرير يلخص نقاشات نحو 70 باحثاً، من مختلف التوجهات، في الموضوعات كافة، والتي يتم اختيارها، من قبل الباحثين، في أوقات متقدمة.
منتدى أسبار، وملتقى أسبار، هما من أفكار ومشاريع مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، الذي أسسه مالكه ورئيسه الدكتور فهد في العام ٢٠١٤، أي بعد عامين من انتهاء عضويته في مجلس الشورى. والمركز، بحسب تعريف رئيسه، أُنشئ «دعماً لصانع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو كما قدم دراسات لإصدار صحف (الوطن)، وصحيفة (البلاد)، و(الشرق)، أصدر موسوعات مهمة، منها: -
- موسوعة أسبار للعلماء والمتخصصين في الشريعة الإسلامية في السعودية.
- معجم أسبار للنساء السعوديات.
- موسوعة الدبلوماسيين السعوديين.
حراك الدكتور فهد العرابي الحارثي، الثقافي، والمعرفي، في المجتمع، لا يُنكره إلا جاحد، أو مُكابر، وهو حراكٌ إيجابي، يستثمر عقولاً أكاديمية ومتخصصة، في الدراسات والمنتجات التي تقدمها (أسبار)، بمختلف مناشطها، خلافاً لنتاجه النشط في التأليف.
الثقافة الباريسية الفرانكفونية، وشهادة الدكتوراه بتفوق من جامعة السوربون العريقة، والنجاحات الصحافية التي أثارت النقع، والمعارك الفكرية الشرسة، و١٢ عاماً تحت قبة الشورى، ونشاطات أسبار التي لا تعرف معنى السكون... كل ذلك لم تغير ابن المريفق، أو تمنعه لحظة من الفخر بمسقط رأسه... لذلك يقول: «أشعر بأن قامتي تطول، كلما صرت في المُريفق».
لذلك، وغيره، فهد العرابي الحارثي، قامة فارعة، حيثما كان!