حميدان.. رجل القانون والدبلوماسية والفكر المستنير
الأحد / 17 / جمادى الأولى / 1441 هـ الاحد 12 يناير 2020 03:02
بقلم: د. عبدالله المدني - أستاذ العلاقات الدولية في مملكة البحرين abu_taymour@
إذا كان السياسي العراقي عدنان الباجه جي (توفي في 2017) هو أول من رفع علم دولة الإمارات العربية المتحدة في نيويورك إلى جانب أعلام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في التاسع من ديسمبر 1971 بتكليف من الراحل الكبير المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في أعقاب موافقة المجتمع الدولي السريعة والسهلة على انضمام الكيان الوليد إلى المنظمة الدولية، فإن أول سفير للإمارات في الخارج وأول مندوب لها لدى الأمم المتحدة هو السفير الدكتور «علي محمد حميدان» الذي كرمته بلاده في عام 2014 ضمن كوكبة أوائل الإمارات التي شملت 43 شخصية وطنية من أوائل الجامعيين والأطباء والمهندسين والعسكريين والمصرفيين والإعلاميين والمعلمين وغيرهم، ممن مُنحوا ميدالية أوائل الإمارات، إضافة إلى تخليد أسمائهم في ذاكرة الإمارات عبر أرشفة حكومية وكتاب حكومي خاص بهم.
وقتها صرح حميدان للصحافة ووكالة أنباء الإمارات (انظر صحيفة البيان الصادرة في 2/12/2014) قائلا إن: «اختياره ضمن كوكبة أوائل الإمارات يعكس تقدير وفخر واعتزاز الدولة بأحد أبنائها الذين بذلوا الجهد في مسيرة العمل الدبلوماسي وتحمل مسؤولية وأعباء هذا العمل في بدايات تأسيس الدولة»، مضيفا أن: «هذا التكريم يشجع ويحفز جميع أبناء الوطن الغالي كلاً في موقع عمله على أنْ يتفانى ويقدم المزيد من العطاء من أجل بناء الوطن وإسعاد أبنائه»، وموجهاً شكره إلى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، على المبادرة غير المسبوقة التي تزامنت مع احتفالات الإمارات بيومها الوطني. هذا علما أنه تمّ في سنة 2015 تكريم أسرة السفير حميدان من قبل ممثل الحاكم في المنطقة الغربية بدولة الإمارات الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، بحضور وزير الخارجية سمو الشيخ عبدالله بن زايد، وذلك بمناسبة يوم الشهيد.
ابن المنامة
ولد علي محمد حميدان بمدينة المنامة في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين ابناً لعائلة بحرينية معروفة قدمت العديد من الأعلام في مجالات مختلفة، وتلقى تعليمه الثانوي بالمدرسة الغربية بالمنامة التي تخرج منها في عام 1951. بعد ذلك بدأ مشواره الطويل للتحصيل العلمي فارتحل أولا إلى بغداد التي عاش ودرس في جامعتها في الفترة من عام 1952 حتى عام 1956 الذي نال فيه ليسانس القانون من كلية الحقوق. في هذا المنعطف من حياته كانت لديه الرغبة، وكذا الاستعداد لإكمال دراسته الجامعية العليا، غير أن أحواله المادية وقفت حائلا دون تحقيق طموحاته، الأمر الذي قرر معه الاستقرار في الكويت التي كانت تعيش آنذاك بدايات نهضتها ونموها. وهكذا سافر إلى هناك واستثمر تخصصه في القانون بالعمل في المحاكم الكويتية في الفترة ما بين عامي 1957 و1958 من أجل توفير قدر من المال يستطيع به مواصلة دراسته العليا. وحينما نجح في توفير المال المطلوب ترك عمله في الكويت وحط رحاله في العاصمة الفرنسية، باريس، ليبدأ من هناك مرحلة أخرى من مراحل كفاحه العلمي والمعرفي تمثلت في التحاقه بجامعة السوربون في الفترة ما بين عامي 1959 1967، وحصوله منها على دكتوراه الدولة في القانون الدولي عن أطروحة قدمها بعنوان «التطور السياسي لدول الخليج العربي في العصر الحديث»، ونشرها في عام 1967. بعد ذلك بقي في باريس باحثا عن وظيفة، فرتبت له الأقدار عملا لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)، وهو العمل الذي بقي فيه عامين ما بين سنة 1967 و1969.
بحصوله على درجة الدكتوراه من واحدة من أعرق الجامعات الفرنسية والأوروبية بات حميدان مؤهلا لدخول الحقل الأكاديمي. وتشاء الصدف في هذه الفترة تدشين جامعة الكويت لأولى كلياتها وهي كلية الحقوق التي فتحت أبوابها في أبريل سنة 1967، فمهدت هذه الصدفة الطريق أمامه للعودة مجددا إلى الكويت، لكن ليس للعمل في محاكمها وإنما لتدريس القانون لأبنائها في جامعتهم الفتية.
لم تطل إقامة حميدان في الكويت هذه المرة، حيث أمضى بها سنة يتيمة هي سنة 1969، قرر في نهايتها السفر إلى إمارات الساحل (تحديدا إلى إمارة أبوظبي)، حيث كانت تجربة اتحادية فريدة في طور النشوء بعد قرار لندن في يناير 1968 إنهاء معاهدات الحماية البريطانية مع مشيخات الخليج وسحب قواتها من شرق السويس في موعد أقصاه نهاية عام 1971. في أبوظبي تم تعيينه في بادئ الأمر مستشارا قانونيا للشؤون الاتحادية لحكومة الإمارة، وهي الوظيفة التي مارسها خلال عامي 1971 و1972.
محطة الدبلوماسية
في أعقاب قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، ومع وجود نقص في الكوادر المؤهلة لتمثيل الدولة خارجيا، تمت الاستعانة بخبرات حميدان السياسية والقانونية والأكاديمية وتقرر تكليفه بمنصب دبلوماسي هام تمثل في إرساله إلى نيويورك لترؤوس البعثة الدائمة للإمارت لدى الأمم المتحدة. وهكذا دخل الرجل التاريخ، بعد نيله شرف حمل الجنسية الإماراتية، كأول سفير للإمارات في الخارج، وأول مندوب لها لدى الأمم المتحدة. وأثناء شغله لهذا المنصب، عين سفيرا غير مقيم للإمارات في كندا، من عام 1976 إلى عام 1980. والحقيقة أن انتقاله للعمل الدبلوماسي شكل منعطفا هاما وخصبا في حياته العملية.
عاد حميدان إلى أبوظبي بعد رحلة دبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة امتدت لنحو عقد من الزمن اكتسب خلالها المزيد من الخبرات وتعرف أثناءها على العديد من الشخصيات الدولية المؤثرة، فشغل منصب مدير الدائرة القانونية في ديوان وزارة الخارجية، لكنه سرعان ما عاد إلى الحقل الدبلوماسي بقرار أصدره الشيخ زايد بن سلطان -رحمه الله- تضمن نقله إلى دمشق سفيرا للإمارات لدى الجمهورية العربية السورية في الفترة، حيث ظل هناك ما بين عامي 1987 و1989، يؤدي عمله بتفان وإخلاص في مرحلة دقيقة في التاريخ العربي المعاصر. كان عمله في دمشق خاتمة رحلته في العمل الحكومي، قبل تقاعده وانصرافه إلى العمل الخاص من خلال مكتب افتتحه لنفسه في أبوظبي للمحاماة والاستشارات القانونية.
المرحلة الباريسية
وبالعودة إلى الحوار الذي أجراه معه الكاتب كمال الذيب، نجد أن الأخير استدرج حميدان للحديث عن مرحلته الباريسية وما أضافته هذه المرحلة على رؤاه ومعتقداته الفكرية ونظرته للحياة، وأيضا للحديث عن الخلل والانكسار الذي تسببت فيه هزيمة يونيو 1967 وقيادة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. فكان رده حول حياته في باريس هو «لقد اقتطفت من العمر عشراً من السنين، عشتها بحرية عاقلة، حرية الباحث، حرية الإنسان الباحث عن كمال الوجود الحي (...)».
أما عن هزيمة حزيران فقد أفاد أنه استقبل أخبارها وهو في باريس وتركت في نفسه صدمة وآثارا لا تنمحي. وفي هذا لم يختلف حميدان عن الكثيرين من أبناء جيله في طول العالم العربي وعرضه ممن منوا النفس بالانتصارات فإذا بهزيمة نكراء تحل عليهم لتزلزل كيانهم وقناعاتهم وتحيل آمالهم إلى يأس وقنوط.
وفي رده حول عبدالناصر، لم يتردد حميدان في الإشارة إلى المؤخذات الكثيرة التي أخذها العرب عليه، قائلا «إن مشكلة عبدالناصر هي أنه لم يبن حزبا قوميا، ولم ينشر القومية العربية داخل مصر، ولذلك تلاحظ أن الناصرية انتشرت خارج مصر أكثر من انتشارها في الداخل، وأن العرب خارج مصر مؤمنون برسالة عبدالناصر أكثر من المصريين أنفسهم»، مضيفا أن عبدالناصر: «كان رجل شعارات، لم يكن يعمل على أرضية ثابتة داخل مصر، كان يعمل برفقة مجموعة غير متجانسة من الرجال فكريا وسياسيا من غير حزب». ثم راح يستطرد ويقول: «كان عبدالناصر يتصرف بعفوية واندفاع، وكانت النظرة الموضوعية شبه غائبة وخالية من حسن ترتيب وتقدير.. لقد كان يتصرف بعقلية الفارس العربي القديم.. الفارس البطل الشجاع المقدام الذي ينتظره الإنسان العربي». واختتم كلامه باستنتاج مفاده أن كل ما سبق يقودنا بالضرورة إلى إعادة صياغة بعض المفاهيم وعدم الخلط بينها لأن الخلط والغموض يولد ممارسات خاطئة تجر بدورها الكوارث والويلات والأزمات وتعقد المشهد العام على حساب الاستقرار والانشغال بالتنمية وإحداث نقلات معيشية. وهنا ضرب حميدان مثلا بالوحدة العربية فقال إنها فكرة «بحاجة إلى إعادة تأسيس موضوعية. الدولة هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة في الوطن العربي حالياً، ويجب أن نؤسس البنيان على أساس موضوعي، أي يجب أن ننطلق إلى فكرة الدولة أولاً، أي أنْ نبني دولنا محلياً، ثم نفكِّر في ما بعد في البُعد الإقليمي، ثم في البعد القومي الشامل. فوحدة 1958 بين مصر وسورية مثل على الارتجال العربي، والحماسة غير الموضوعية. إذ لم يكن من الممكن دمج بلدين متباعدين جغرافياً في وحدة واحدة، متباعدين اقتصادياً وسياسياً أيضاً، وكان الفشل نهاية طبيعية لمثل هذا القفز على الوقائع».
كم كان موفقا ذلك الكاتب البحريني الذي كتب في الثاني من مايو 2017 عن قصة حميدان قائلا: «ليست قصة كفاح وتحدٍّ ومثابرة، وانتصار على الذات والظروف المحيطة فحسب. إنها قصة صناعة نجاح لا يمكن التعامل معه باعتباره نموذجاً فحسب، بل باعتباره ممكن التحقق، إذا ما وضع الإنسان نصب عينيه ما يتطلَّع إليه من أهداف، وعزَّز ذلك التطلُّع بالأدوات التي توصله إلى ذلك الهدف».
أفكار حميدان ورؤاه الاستشرافية
* ومن يتمعن في سيرة السفير حميدان يكتشف سريعا كم كافح الرجل وعانى حتى أكمل دراسته ونال أعلى الشهادات الجامعية (وهو في هذه المعاناة والكفاح لا يختلف كثيرا عن زميله الشهيد سيف بن غباش أول وزير للدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات الذي أصدر حميدان حوله كتابا في عام 1991 سماه «سيف غباش.. مسيرة العلم والسياسة»). كما يكتشف المتمعن مدى إيمانه العميق بالوطن الخليجي الواحد، فهو -إن صح التعبير- مثال للرجال الأوائل الذين لم تقيدهم ظروف بلدانهم من عبور حدودها السياسية والجغرافية إلى دول الجوار بحثا عن الرزق لدى أبناء العمومة دون حساسية. وآية ذلك أنه ولد ونشأ ودرس في البحرين، وهاجرللعمل في الكويت، ثم نال شرف حمل جنسية دولة الإمارات حيث صنع قصة نجاحه ومجده. غير أن البحرين، باعتبارها مكان الميلاد ومربع ذكريات الصبا والشباب، ظلت تسكنه دائما بدليل تردده عليها من حين إلى آخر. وفي زيارته لها سنة 1990 أجرى حوارا نادرا مع الكاتب والصحافي كمال الذيب، ضمه الأخير إلى كتابه الهام الجميل الموسوم «مساءلات في الثقافة البحرينية... عشرون عاماً من الصحافة الثقافية»، الصادر عن مجلة البحرين الثقافية في عام 2015. والحقيقة أن هذا الحوار الموسع يصلح للاطلاع على الكثير من أفكار حميدان ورؤاه الاستشرافية التي لم يُكشف عنها من قبل.
* ففي موضوع الديمقراطية، حذر مبكرا من الخطورة المتأتية من اضطرار بعض الأحزاب والتيارات للعمل من تحت الأرض، بدلا من العمل فوقها علانية وفقا للقانون، مشيرا إلى الجزائر كمثال صارخ على منع التيارات الديمقراطية من العمل العلني لفترة طويلة، الأمر الذي تسبب في نمو القوى الظلامية المتطرفة من تلك التي حاولت السيطرة على البلاد وتلوينها بطابعها الأصولي الخاص بالقوة والانقلاب أو عبر صناديق الاقتراع بعد السماح للديمقراطية. وحينما طرح عليه محاوره المأزق القائم بين الرغبة في دخول العصر بإطلاق المزيد من الحريات بما فيها السماح بأنواع من المشاركة الشعبية، وبين الخوف من أن فتح الباب يمكن أن يفضي إلى وصول قوى تعود بنا إلى الوراء، أكد حميدان بوجود مثل هذا المأزق بوضوح في بلدان المغرب العربي والسودان والأردن ومصر، لافتا النظر إلى ضرورة التدرُّج نحو الممارسة والمشاركة بإطلاق مزيد من الحريات، وتوفير حد أدنى من المشاركة المنظَّمة في حالة البلدان الخليجية، مضيفا: «إذا ما حدث مثل هذا، فإنه سيفضي تدريجياً إلى فضح المتاجرين بطاقات المجتمع العربي، وسيتحرَّر حتماً من الأصولية، لأنها ظاهرة مرَضية مرتبطة بأزمة الحريات وبأزمة الهوية، وبأزمة الحيرة والتنمية، والبحث عن الذات الضائعة».
* وحول مفهوم ومستقبل الدولة في العالم العربي، عبر عن رأيه بصراحة ودون مواربة أو تحفظ بالقول: «لا يمكننا ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين أن نؤسِّس دولة أصولية. هذا غير ممكن لأنه منافٍ للتاريخ والعصر. وهذا لا يعني أن لنا خلافاً مع الدِّين الحنيف، ولكن أن نعوِّض دكتاتورية عسكرية بأخرى دينية، نكون قد حكمنا على حياتنا العربية بالعقم والانفصال عن العصر». ثم أضاف قائلا: «وصول أي فئة إسلامية إلى السلطة مستفيدة من أي مناخ ديمقراطي يعتبر كارثة فعلية، لأنها وصولها إلى السلطة سيعني باختصار سقوط أي تجربة ديمقراطية أو تعدُّدية على حد سواء». كما استطرد موضحا أن الدولة لا يمكن أن تعرف استقرارا وبناء ونهضة وتنمية ما لم يتم التعامل مع الخطر والتهديد الذي تمثله التيارات والجماعات المتشددة التي وصلت إلى العمقين الأوروبي والأمريكي.
وقتها صرح حميدان للصحافة ووكالة أنباء الإمارات (انظر صحيفة البيان الصادرة في 2/12/2014) قائلا إن: «اختياره ضمن كوكبة أوائل الإمارات يعكس تقدير وفخر واعتزاز الدولة بأحد أبنائها الذين بذلوا الجهد في مسيرة العمل الدبلوماسي وتحمل مسؤولية وأعباء هذا العمل في بدايات تأسيس الدولة»، مضيفا أن: «هذا التكريم يشجع ويحفز جميع أبناء الوطن الغالي كلاً في موقع عمله على أنْ يتفانى ويقدم المزيد من العطاء من أجل بناء الوطن وإسعاد أبنائه»، وموجهاً شكره إلى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، على المبادرة غير المسبوقة التي تزامنت مع احتفالات الإمارات بيومها الوطني. هذا علما أنه تمّ في سنة 2015 تكريم أسرة السفير حميدان من قبل ممثل الحاكم في المنطقة الغربية بدولة الإمارات الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، بحضور وزير الخارجية سمو الشيخ عبدالله بن زايد، وذلك بمناسبة يوم الشهيد.
ابن المنامة
ولد علي محمد حميدان بمدينة المنامة في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين ابناً لعائلة بحرينية معروفة قدمت العديد من الأعلام في مجالات مختلفة، وتلقى تعليمه الثانوي بالمدرسة الغربية بالمنامة التي تخرج منها في عام 1951. بعد ذلك بدأ مشواره الطويل للتحصيل العلمي فارتحل أولا إلى بغداد التي عاش ودرس في جامعتها في الفترة من عام 1952 حتى عام 1956 الذي نال فيه ليسانس القانون من كلية الحقوق. في هذا المنعطف من حياته كانت لديه الرغبة، وكذا الاستعداد لإكمال دراسته الجامعية العليا، غير أن أحواله المادية وقفت حائلا دون تحقيق طموحاته، الأمر الذي قرر معه الاستقرار في الكويت التي كانت تعيش آنذاك بدايات نهضتها ونموها. وهكذا سافر إلى هناك واستثمر تخصصه في القانون بالعمل في المحاكم الكويتية في الفترة ما بين عامي 1957 و1958 من أجل توفير قدر من المال يستطيع به مواصلة دراسته العليا. وحينما نجح في توفير المال المطلوب ترك عمله في الكويت وحط رحاله في العاصمة الفرنسية، باريس، ليبدأ من هناك مرحلة أخرى من مراحل كفاحه العلمي والمعرفي تمثلت في التحاقه بجامعة السوربون في الفترة ما بين عامي 1959 1967، وحصوله منها على دكتوراه الدولة في القانون الدولي عن أطروحة قدمها بعنوان «التطور السياسي لدول الخليج العربي في العصر الحديث»، ونشرها في عام 1967. بعد ذلك بقي في باريس باحثا عن وظيفة، فرتبت له الأقدار عملا لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)، وهو العمل الذي بقي فيه عامين ما بين سنة 1967 و1969.
بحصوله على درجة الدكتوراه من واحدة من أعرق الجامعات الفرنسية والأوروبية بات حميدان مؤهلا لدخول الحقل الأكاديمي. وتشاء الصدف في هذه الفترة تدشين جامعة الكويت لأولى كلياتها وهي كلية الحقوق التي فتحت أبوابها في أبريل سنة 1967، فمهدت هذه الصدفة الطريق أمامه للعودة مجددا إلى الكويت، لكن ليس للعمل في محاكمها وإنما لتدريس القانون لأبنائها في جامعتهم الفتية.
لم تطل إقامة حميدان في الكويت هذه المرة، حيث أمضى بها سنة يتيمة هي سنة 1969، قرر في نهايتها السفر إلى إمارات الساحل (تحديدا إلى إمارة أبوظبي)، حيث كانت تجربة اتحادية فريدة في طور النشوء بعد قرار لندن في يناير 1968 إنهاء معاهدات الحماية البريطانية مع مشيخات الخليج وسحب قواتها من شرق السويس في موعد أقصاه نهاية عام 1971. في أبوظبي تم تعيينه في بادئ الأمر مستشارا قانونيا للشؤون الاتحادية لحكومة الإمارة، وهي الوظيفة التي مارسها خلال عامي 1971 و1972.
محطة الدبلوماسية
في أعقاب قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، ومع وجود نقص في الكوادر المؤهلة لتمثيل الدولة خارجيا، تمت الاستعانة بخبرات حميدان السياسية والقانونية والأكاديمية وتقرر تكليفه بمنصب دبلوماسي هام تمثل في إرساله إلى نيويورك لترؤوس البعثة الدائمة للإمارت لدى الأمم المتحدة. وهكذا دخل الرجل التاريخ، بعد نيله شرف حمل الجنسية الإماراتية، كأول سفير للإمارات في الخارج، وأول مندوب لها لدى الأمم المتحدة. وأثناء شغله لهذا المنصب، عين سفيرا غير مقيم للإمارات في كندا، من عام 1976 إلى عام 1980. والحقيقة أن انتقاله للعمل الدبلوماسي شكل منعطفا هاما وخصبا في حياته العملية.
عاد حميدان إلى أبوظبي بعد رحلة دبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة امتدت لنحو عقد من الزمن اكتسب خلالها المزيد من الخبرات وتعرف أثناءها على العديد من الشخصيات الدولية المؤثرة، فشغل منصب مدير الدائرة القانونية في ديوان وزارة الخارجية، لكنه سرعان ما عاد إلى الحقل الدبلوماسي بقرار أصدره الشيخ زايد بن سلطان -رحمه الله- تضمن نقله إلى دمشق سفيرا للإمارات لدى الجمهورية العربية السورية في الفترة، حيث ظل هناك ما بين عامي 1987 و1989، يؤدي عمله بتفان وإخلاص في مرحلة دقيقة في التاريخ العربي المعاصر. كان عمله في دمشق خاتمة رحلته في العمل الحكومي، قبل تقاعده وانصرافه إلى العمل الخاص من خلال مكتب افتتحه لنفسه في أبوظبي للمحاماة والاستشارات القانونية.
المرحلة الباريسية
وبالعودة إلى الحوار الذي أجراه معه الكاتب كمال الذيب، نجد أن الأخير استدرج حميدان للحديث عن مرحلته الباريسية وما أضافته هذه المرحلة على رؤاه ومعتقداته الفكرية ونظرته للحياة، وأيضا للحديث عن الخلل والانكسار الذي تسببت فيه هزيمة يونيو 1967 وقيادة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. فكان رده حول حياته في باريس هو «لقد اقتطفت من العمر عشراً من السنين، عشتها بحرية عاقلة، حرية الباحث، حرية الإنسان الباحث عن كمال الوجود الحي (...)».
أما عن هزيمة حزيران فقد أفاد أنه استقبل أخبارها وهو في باريس وتركت في نفسه صدمة وآثارا لا تنمحي. وفي هذا لم يختلف حميدان عن الكثيرين من أبناء جيله في طول العالم العربي وعرضه ممن منوا النفس بالانتصارات فإذا بهزيمة نكراء تحل عليهم لتزلزل كيانهم وقناعاتهم وتحيل آمالهم إلى يأس وقنوط.
وفي رده حول عبدالناصر، لم يتردد حميدان في الإشارة إلى المؤخذات الكثيرة التي أخذها العرب عليه، قائلا «إن مشكلة عبدالناصر هي أنه لم يبن حزبا قوميا، ولم ينشر القومية العربية داخل مصر، ولذلك تلاحظ أن الناصرية انتشرت خارج مصر أكثر من انتشارها في الداخل، وأن العرب خارج مصر مؤمنون برسالة عبدالناصر أكثر من المصريين أنفسهم»، مضيفا أن عبدالناصر: «كان رجل شعارات، لم يكن يعمل على أرضية ثابتة داخل مصر، كان يعمل برفقة مجموعة غير متجانسة من الرجال فكريا وسياسيا من غير حزب». ثم راح يستطرد ويقول: «كان عبدالناصر يتصرف بعفوية واندفاع، وكانت النظرة الموضوعية شبه غائبة وخالية من حسن ترتيب وتقدير.. لقد كان يتصرف بعقلية الفارس العربي القديم.. الفارس البطل الشجاع المقدام الذي ينتظره الإنسان العربي». واختتم كلامه باستنتاج مفاده أن كل ما سبق يقودنا بالضرورة إلى إعادة صياغة بعض المفاهيم وعدم الخلط بينها لأن الخلط والغموض يولد ممارسات خاطئة تجر بدورها الكوارث والويلات والأزمات وتعقد المشهد العام على حساب الاستقرار والانشغال بالتنمية وإحداث نقلات معيشية. وهنا ضرب حميدان مثلا بالوحدة العربية فقال إنها فكرة «بحاجة إلى إعادة تأسيس موضوعية. الدولة هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة في الوطن العربي حالياً، ويجب أن نؤسس البنيان على أساس موضوعي، أي يجب أن ننطلق إلى فكرة الدولة أولاً، أي أنْ نبني دولنا محلياً، ثم نفكِّر في ما بعد في البُعد الإقليمي، ثم في البعد القومي الشامل. فوحدة 1958 بين مصر وسورية مثل على الارتجال العربي، والحماسة غير الموضوعية. إذ لم يكن من الممكن دمج بلدين متباعدين جغرافياً في وحدة واحدة، متباعدين اقتصادياً وسياسياً أيضاً، وكان الفشل نهاية طبيعية لمثل هذا القفز على الوقائع».
كم كان موفقا ذلك الكاتب البحريني الذي كتب في الثاني من مايو 2017 عن قصة حميدان قائلا: «ليست قصة كفاح وتحدٍّ ومثابرة، وانتصار على الذات والظروف المحيطة فحسب. إنها قصة صناعة نجاح لا يمكن التعامل معه باعتباره نموذجاً فحسب، بل باعتباره ممكن التحقق، إذا ما وضع الإنسان نصب عينيه ما يتطلَّع إليه من أهداف، وعزَّز ذلك التطلُّع بالأدوات التي توصله إلى ذلك الهدف».
أفكار حميدان ورؤاه الاستشرافية
* ومن يتمعن في سيرة السفير حميدان يكتشف سريعا كم كافح الرجل وعانى حتى أكمل دراسته ونال أعلى الشهادات الجامعية (وهو في هذه المعاناة والكفاح لا يختلف كثيرا عن زميله الشهيد سيف بن غباش أول وزير للدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات الذي أصدر حميدان حوله كتابا في عام 1991 سماه «سيف غباش.. مسيرة العلم والسياسة»). كما يكتشف المتمعن مدى إيمانه العميق بالوطن الخليجي الواحد، فهو -إن صح التعبير- مثال للرجال الأوائل الذين لم تقيدهم ظروف بلدانهم من عبور حدودها السياسية والجغرافية إلى دول الجوار بحثا عن الرزق لدى أبناء العمومة دون حساسية. وآية ذلك أنه ولد ونشأ ودرس في البحرين، وهاجرللعمل في الكويت، ثم نال شرف حمل جنسية دولة الإمارات حيث صنع قصة نجاحه ومجده. غير أن البحرين، باعتبارها مكان الميلاد ومربع ذكريات الصبا والشباب، ظلت تسكنه دائما بدليل تردده عليها من حين إلى آخر. وفي زيارته لها سنة 1990 أجرى حوارا نادرا مع الكاتب والصحافي كمال الذيب، ضمه الأخير إلى كتابه الهام الجميل الموسوم «مساءلات في الثقافة البحرينية... عشرون عاماً من الصحافة الثقافية»، الصادر عن مجلة البحرين الثقافية في عام 2015. والحقيقة أن هذا الحوار الموسع يصلح للاطلاع على الكثير من أفكار حميدان ورؤاه الاستشرافية التي لم يُكشف عنها من قبل.
* ففي موضوع الديمقراطية، حذر مبكرا من الخطورة المتأتية من اضطرار بعض الأحزاب والتيارات للعمل من تحت الأرض، بدلا من العمل فوقها علانية وفقا للقانون، مشيرا إلى الجزائر كمثال صارخ على منع التيارات الديمقراطية من العمل العلني لفترة طويلة، الأمر الذي تسبب في نمو القوى الظلامية المتطرفة من تلك التي حاولت السيطرة على البلاد وتلوينها بطابعها الأصولي الخاص بالقوة والانقلاب أو عبر صناديق الاقتراع بعد السماح للديمقراطية. وحينما طرح عليه محاوره المأزق القائم بين الرغبة في دخول العصر بإطلاق المزيد من الحريات بما فيها السماح بأنواع من المشاركة الشعبية، وبين الخوف من أن فتح الباب يمكن أن يفضي إلى وصول قوى تعود بنا إلى الوراء، أكد حميدان بوجود مثل هذا المأزق بوضوح في بلدان المغرب العربي والسودان والأردن ومصر، لافتا النظر إلى ضرورة التدرُّج نحو الممارسة والمشاركة بإطلاق مزيد من الحريات، وتوفير حد أدنى من المشاركة المنظَّمة في حالة البلدان الخليجية، مضيفا: «إذا ما حدث مثل هذا، فإنه سيفضي تدريجياً إلى فضح المتاجرين بطاقات المجتمع العربي، وسيتحرَّر حتماً من الأصولية، لأنها ظاهرة مرَضية مرتبطة بأزمة الحريات وبأزمة الهوية، وبأزمة الحيرة والتنمية، والبحث عن الذات الضائعة».
* وحول مفهوم ومستقبل الدولة في العالم العربي، عبر عن رأيه بصراحة ودون مواربة أو تحفظ بالقول: «لا يمكننا ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين أن نؤسِّس دولة أصولية. هذا غير ممكن لأنه منافٍ للتاريخ والعصر. وهذا لا يعني أن لنا خلافاً مع الدِّين الحنيف، ولكن أن نعوِّض دكتاتورية عسكرية بأخرى دينية، نكون قد حكمنا على حياتنا العربية بالعقم والانفصال عن العصر». ثم أضاف قائلا: «وصول أي فئة إسلامية إلى السلطة مستفيدة من أي مناخ ديمقراطي يعتبر كارثة فعلية، لأنها وصولها إلى السلطة سيعني باختصار سقوط أي تجربة ديمقراطية أو تعدُّدية على حد سواء». كما استطرد موضحا أن الدولة لا يمكن أن تعرف استقرارا وبناء ونهضة وتنمية ما لم يتم التعامل مع الخطر والتهديد الذي تمثله التيارات والجماعات المتشددة التي وصلت إلى العمقين الأوروبي والأمريكي.