كتاب ومقالات

الخليفة الموسيقي

عبدالله الرشيد

عبدالله الرشيد

في كتاب بعنوان «الحكومة النبوية» المعروف بـ: التراتيب الإدارية، لعبدالحي الكتاني (وهو محدث ومؤرخ مغربي ولد عام ١٨٨٤، وعُمر طويلاً، أكثر من ١٣٠ عاما) وفيه أفرد فصلاً بعنوان: «هل كان لبعض السلف اعتناء بعلم الموسيقى»، قال فيه: «لقد كان علم الموسيقى في الصدر الأول من الإسلام عند من يعلم مقداره من أجل العلوم، ولم يكن يتناوله إلا أعيان العلماء وأشرافهم»، وفي هذا السياق ترد قصة العالم الموسيقي الشهير إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وهو أحد رموز وعلماء العهد العباسي، كان عالماً بالأدب وأصول الدين وعلم الكلام، والشعر والغناء، نديماً للخلفاء، وصفه الإمام الذهبي بـ«الإمام العلامة الحافظ ذو الفنون، صاحب الموسيقى والشعر الرائق، والتصانيف الأدبية مع الفقه واللغة، كان ثقة عالماً»، ومما يروى أن الخليفة الرشيد خرج يوماً للعلماء، وأمر بإحضارهم، وإدخال كل طبقة وحدها، وجعلوا يدخلون زمراً، وكان إسحاق الموصلي كلما دخلت طائفة دخل معها.

هذه الإشارة من عبدالحي الكتاني حول قيمة الموسيقى في العصور الإسلامية المبكرة تشير إلى أن هذا الفن في أصله لم يكن مرتبطاً بالمجون أو الفجور والتهتك، بقدر ما كان علماً له احترامه وتقديره، ومكانته الرفيعة في نخبة المجتمع، وبلاط السلطان. والعارفون بفنه يكونون من أكابر العلماء في فنون اللغة والصوت، والأدب، ولذلك شهدت الموسيقى العربية ازدهاراً كبيراً في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، بدأت طلائعها بشكل مبكر منذ العصر الأموي، حيث كان الخلفاء يتذوقون تلك الفنون، ومما يروى عن الخليفة الأموي الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، فيما ذكره ابن قتيبة في كتاب «الرخصة في السماع»، أنه دخل على عبدالله بن جعفر يعوده، فوجد عنده جارية في حجرها عود، فقال: ما هذا يا ابن جعفر؟ قال: هذه جارية أرويها رقيق الشعر فتزيده حسنا، قال: فلتقل، فحركت العود وغنت شعرا، فحرك معاوية رجله فقال له عبدالله: لم حركت رجلك؟ فقال: إن الكريم لطروب.

هذه الحظوة الفنية لعلم الموسيقى على بلاط النخبة والعلماء، أدت إلى تطور الموسيقى العربية بشكل كبير، فتوسعت ألحانها وإيقاعاتها، وبلغت أوجها في العصر العباسي، وإن كان الخلفاء العباسيون منذ المهدي، وهارون الرشيد، والأمين، والمأمون، قد تذوقوا الموسيقى، ونالت عندهم المكانة الرفيعة الجليلة، فإن أحد خلفاء بني العباس وهو الخليفة العباسي الواثق بالله، قد تجاوز التذوق والاستماع، واحترف بنفسه الموسيقى، فأصبح ملحناً بارعاً، وعازفاً ماهراً على العود، ونبغ في الفن والموسيقى حتى وضع مائة لحن، وأغانيه مذكورة في كتاب الأغاني للأصفهاني، وشهد له حماد بن إسحاق الموصلي بأنه أعلم الخلفاء بهذا الفن، ولقيت الموسيقى على بلاطه من التشجيع والكرم، لدرجة وصفها المؤرخون بأن بلاطه قد تحول إلى معهد خاص للموسيقى.