وعي جديد صاغه الإسلام لطبيعة العلاقة مع الآخر
السبت / 30 / جمادى الأولى / 1441 هـ السبت 25 يناير 2020 03:02
محمد محفوظ
من البديهي القول: إن الدين الإسلامي يملك تصورا ورؤية شاملة عن الوجود كله. عن الإنسان والطبيعة، وعن دخائل النفس ووقائع الحياة. وعليه، فإن الإسلام صاغ وعيا جديدا لأبنائه تجاه ذواتهم وتجاه علاقتهم بالآخر والطبيعة. والوعي الجديد الذي صاغه الإسلام لطبيعة العلاقة بين الذات والآخر هو الذي ساهم إلى حد بعيد في دخول الكثير من الناس في صدر الإسلام إلى الدين الجديد، وهو الذي نظم العلاقة الداخلية بين المسلمين بمختلف مكوناتهم ومشاربهم.
من هنا، فإننا لا نستطيع على المستويين القيمي والتاريخي (الواقعي) فهم الذات وسبر أغوارها، إلا بفهم الآخر. وذلك لأنه مرآة الذات، ولا وجود للذات إلا بوجود الآخر، ولا علاقة سوية مع الذات إلا بصياغة علاقة سوية وإيجابية مع الآخر.
والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصا لفئة أو شريحة أو منطقة، بل هو للناس جميعا بكل تنوعاتهم وألوانهم ومناطقهم. يقول تبارك وتعالى [قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون]. (سورة الأعراف - الآية 158).. وهو بحسب الخطاب القرآني مرسول إلى الناس كافة «بشيرا ونذيرا» (سورة سبأ - الآية 28).
و«يحتوي هذا التصور الشمولي إدراكا قويا للاختلاف بين الكائنات والأجناس واللغات والعقائد، فهناك اختلاف بين الذكر والأنثى، بين الألوان واللغات، وبين الكافرين والمؤمنين، لكن قاعدة التفاعل والتذاوت هي حجر الأساس في الاجتماع البشري، وهي التي تحدد هذا التصور والتذاوت، في التصور القرآني تعارف وترابط تسنده معايير وضوابط أخلاقية تأتي التقوى في طليعتها».. (ندوة الإسلام وحوار الحضارات - الرياض 17-20 / مارس 2002 - دراسة الإسلام والعالم - مرتكزات التصور الإسلامي للآخر - محمد نورالدين أفاية).
فالرؤية الإسلامية للآخر تتحدد على أساس وحدة الانتماء الإنساني بكل ما يحمل هذا الانتماء من مشتركات وجوامع، وعلى قاعدة الاختلاف والتمايز في اللون أو اللسان أو الدين أو المجتمع. ولكن هذا التمايز ووفق الرؤية الإسلامية، لا يقود إلى الجفاء والتباعد والنزاع، بل إلى التواصل والتعارف، ونبذ كل ما يضر بذلك على الصعد كافة.
فالانتماء الإنساني الواحد لا يعني أننا نسخة طبق الأصل من الآخر، وإنما هناك تمايزات ذاتية ومكتسبة، ولكن هذه التمايزات لا تشرع للقطيعة والنزاع والصراع، بل إلى التعارف.. يقول تبارك وتعالى [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير]. (سورة الحجرات - الآية 13).
«والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات، إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون، والبطون مع العمائر، والعمائر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب، لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها. فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاما محكما لربط أواصرهم دون مشقة.
ولا تعذر، فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل، ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل، ثم بينه وبين جماعات أكثر.
وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم، وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم». (الشيخ محمد الطاهر بن عاشور - تفسير التحرير والتنوير - المجلد الثاني عشر - ص 259).
والتنوع الموجود في الفضاء الإنساني يضفي على الحياة الإنسانية لو أحسنا إدارته روعة وجمالا.. «فالناس اختلفوا ليمارس كل دوره بحرية ولتتنامى تجربة البشرية عبر تنوعها، ولكي يغني كل فريق تجارب غيرهم بما اكتشفه من تجارب.. وبالتالي ليتعارفوا. بلى إن ذات الحكمة التي شرعت الأسرة من أجلها قائمة في بناء الوحدات الاجتماعية الأخرى كالعشيرة والقبيلة والشعب.
وهذه البصيرة تهدينا:
أولا: إلى مشروعية هذه التقسيمات الطبيعية وأنها -في الأساس- نافعة، وعلينا أن نعيدها إلى طهرها، بعيدا عن كل ألوان العصبية والتعالي لنجني ثمارها الطيبة.
وهذا ما يدعو إليه الإسلام كما جاء في النصوص الدينية من ضرورة صلة الرحم والتواصل مع العشيرة. جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يدخل الجنة قاطع رحم. وقال: لما أسري بي إلى السماء رأيت رحما متعلقة بالعرش تشكو رحما إلى ربها، فقلت لها: كم بينك وبينها من أب، فقالت: نلتقي في أربعين أبا.
وجاء في رواية مأثورة أنه خطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لا يستفني الرجل وإن كان ذا مال وولد عن عشيرته، وعن مداراتهم وكرامتهم ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، هم أعظم الناس حياطة له من ورائه، والمهم لشعثه، وأعظمهم عليه حنوا، إن أصابته مصيبة، أو نزل به يوما بعض مكاره الأمور، ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنما يقبض عنهم يدا واحدة، وتقبض عنه منهم أيد كثيرة، ومن محض عشيرته صدق المودة، وبسط عليهم يده بالمعروف إذا وجده ابتغاء وجه الله، أخلف الله له ما أنفق في دنياه، وضاعف له الأجر في آخرته.
ثانيا: إن التعارف بين الناس واحد من أهم مقاصد الشريعة الغراء، لماذا؟ لولا معرفة الناس لما اكتملت حكمة الابتلاء في الخلق، أو تدري لماذا؟ لأن الابتلاء لا يتم إلا بالحرية والمسؤولية، فلو اختلط الناس ببعضهم كيف يميز الصالح فيثاب عن المجرم فيعاقب؟ أم كيف تتراكم مكاسب المحسنين وتحصن من أن يسرفها الكسالى والمجرمون؟ كلا. لا بد أن يميز الناس عن بعضهم تمييزا كافيا ليأخذ كل ذي حق حقه، فيشجعه ذلك على المزيد من العطاء، ويأخذ التنافس دوره في دفع عجلة الحياة قدما إلى الأمام.
ثالثا: إن حكمة الاختلاف هو التكامل -بعد التنافس على الخيرات- وليس الصراع والتطاحن، وقد قال ربنا سبحانه: (وتعاونوا على البر والتقوى)، ومن دون التعارف كيف يتم التعاون، إن على الناس أن يكتشفوا إمكانات بعضهم ليتبادلوا الخيرات، أما إذا تقوقعت كل طائفة في حدودها الجغرافية أو الاجتماعية ولم يتعارفوا فكيف يمكن التعاون بينهم.
ولعل هذه البصيرة تهدينا إلى أهمية التعارف بين الشعوب في عصرنا الراهن». (السيد محمد تقي المدرسي - تفسير من هدى القرآن - المجلد الثالث عشر - ص 435).
وعليه، فإن العلاقة مع الآخر تتحدد وفق الرؤية الإسلامية من خلال القواعد التالية:
1. الانتماء الإنساني الواحد.
2. الاختلافات والتمايزات البشرية على صعيد الدين أو اللسان أو القوم أو المجتمع.
3. التواصل والتعارف.
فهذه القواعد بكل مضمونها القيمي والأخلاقي والاجتماعي هي التي تحدد طبيعة وشكل العلاقة بين الذات والآخر.
وأية علاقة بين الأنا والآخر بعيدة عن هذه القواعد والمضامين فإنها لا تنسجم ورؤية الإسلام الإنسانية والحضارية.
والنص القرآني فيه الكثير من الآيات التي تحث على صياغة العلاقة مع المختلف والمغاير على قاعدة تنمية المشتركات والاحترام الإنساني المتبادل ونبذ الإكراه بكل أشكاله.
إذ يقول عز من قائل [لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم]. (سورة البقرة - الآية 256).
والحوار بين الناس ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن والالتزام بكل مقتضيات العدالة، وذلك لأن البارئ عز وجل يأمر بالعدل والإحسان. قال تعالى [ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين]. (سورة النحل 125).
وقال تعالى [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم]. (سورة فصلت 34).
وهناك أيضا الكثير من الأحاديث الشريفة التي تؤكد ضرورة مساواة الآخر بالذات والالتزام بمقتضيات العدالة في العلاقة مع الآخر المختلف والمغاير.
فقد جاء في الحديث الشريف «ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحبه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محبا في السماء، مودودا في صدور أهل الأرض». ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: «أمرني ربي بمدارة الناس كما أمرني بأداء الفرائض».
وجاء في الحديث أيضا (الاستصلاح للأعداء بحسن المقال وجميل الأفعال أهون من ملاقاتهم ومغالبتهم بمضيض القتال). فالتنوعات الاجتماعية لا تدار إلا بالمحبة والتسامح والتفاهم والتلاقي، وأية محاولة لإدارة التنوعات الإنسانية، بعيدا عن هذه القيم والمفاهيم، فإن المحصلة هي المزيد من النزعات والتوترات والحروب.
وعليه، فإن الانفتاح على الآخر والتواصل مع قضاياه وهمومه من صميم فهمنا وإدراكنا واستيعابنا لقيم الإسلام.
إذ إننا لا نستطيع أن نعيش وحدنا، وبدون الحوار والانفتاح والتواصل ستبقى الحواجز قائمة، والجفاء متواصل، وسوء الظن هو السائد.
لذلك فإن مهمتنا الأساس هي تنقية نفوسنا وفضائنا من كل الرواسب والشوائب التي تحول دون التواصل والتعارف بين مكونات المجتمع الواحد.
من هنا، فإننا لا نستطيع على المستويين القيمي والتاريخي (الواقعي) فهم الذات وسبر أغوارها، إلا بفهم الآخر. وذلك لأنه مرآة الذات، ولا وجود للذات إلا بوجود الآخر، ولا علاقة سوية مع الذات إلا بصياغة علاقة سوية وإيجابية مع الآخر.
والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصا لفئة أو شريحة أو منطقة، بل هو للناس جميعا بكل تنوعاتهم وألوانهم ومناطقهم. يقول تبارك وتعالى [قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون]. (سورة الأعراف - الآية 158).. وهو بحسب الخطاب القرآني مرسول إلى الناس كافة «بشيرا ونذيرا» (سورة سبأ - الآية 28).
و«يحتوي هذا التصور الشمولي إدراكا قويا للاختلاف بين الكائنات والأجناس واللغات والعقائد، فهناك اختلاف بين الذكر والأنثى، بين الألوان واللغات، وبين الكافرين والمؤمنين، لكن قاعدة التفاعل والتذاوت هي حجر الأساس في الاجتماع البشري، وهي التي تحدد هذا التصور والتذاوت، في التصور القرآني تعارف وترابط تسنده معايير وضوابط أخلاقية تأتي التقوى في طليعتها».. (ندوة الإسلام وحوار الحضارات - الرياض 17-20 / مارس 2002 - دراسة الإسلام والعالم - مرتكزات التصور الإسلامي للآخر - محمد نورالدين أفاية).
فالرؤية الإسلامية للآخر تتحدد على أساس وحدة الانتماء الإنساني بكل ما يحمل هذا الانتماء من مشتركات وجوامع، وعلى قاعدة الاختلاف والتمايز في اللون أو اللسان أو الدين أو المجتمع. ولكن هذا التمايز ووفق الرؤية الإسلامية، لا يقود إلى الجفاء والتباعد والنزاع، بل إلى التواصل والتعارف، ونبذ كل ما يضر بذلك على الصعد كافة.
فالانتماء الإنساني الواحد لا يعني أننا نسخة طبق الأصل من الآخر، وإنما هناك تمايزات ذاتية ومكتسبة، ولكن هذه التمايزات لا تشرع للقطيعة والنزاع والصراع، بل إلى التعارف.. يقول تبارك وتعالى [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير]. (سورة الحجرات - الآية 13).
«والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات، إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون، والبطون مع العمائر، والعمائر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب، لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها. فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاما محكما لربط أواصرهم دون مشقة.
ولا تعذر، فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل، ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل، ثم بينه وبين جماعات أكثر.
وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم، وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم». (الشيخ محمد الطاهر بن عاشور - تفسير التحرير والتنوير - المجلد الثاني عشر - ص 259).
والتنوع الموجود في الفضاء الإنساني يضفي على الحياة الإنسانية لو أحسنا إدارته روعة وجمالا.. «فالناس اختلفوا ليمارس كل دوره بحرية ولتتنامى تجربة البشرية عبر تنوعها، ولكي يغني كل فريق تجارب غيرهم بما اكتشفه من تجارب.. وبالتالي ليتعارفوا. بلى إن ذات الحكمة التي شرعت الأسرة من أجلها قائمة في بناء الوحدات الاجتماعية الأخرى كالعشيرة والقبيلة والشعب.
وهذه البصيرة تهدينا:
أولا: إلى مشروعية هذه التقسيمات الطبيعية وأنها -في الأساس- نافعة، وعلينا أن نعيدها إلى طهرها، بعيدا عن كل ألوان العصبية والتعالي لنجني ثمارها الطيبة.
وهذا ما يدعو إليه الإسلام كما جاء في النصوص الدينية من ضرورة صلة الرحم والتواصل مع العشيرة. جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يدخل الجنة قاطع رحم. وقال: لما أسري بي إلى السماء رأيت رحما متعلقة بالعرش تشكو رحما إلى ربها، فقلت لها: كم بينك وبينها من أب، فقالت: نلتقي في أربعين أبا.
وجاء في رواية مأثورة أنه خطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لا يستفني الرجل وإن كان ذا مال وولد عن عشيرته، وعن مداراتهم وكرامتهم ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، هم أعظم الناس حياطة له من ورائه، والمهم لشعثه، وأعظمهم عليه حنوا، إن أصابته مصيبة، أو نزل به يوما بعض مكاره الأمور، ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنما يقبض عنهم يدا واحدة، وتقبض عنه منهم أيد كثيرة، ومن محض عشيرته صدق المودة، وبسط عليهم يده بالمعروف إذا وجده ابتغاء وجه الله، أخلف الله له ما أنفق في دنياه، وضاعف له الأجر في آخرته.
ثانيا: إن التعارف بين الناس واحد من أهم مقاصد الشريعة الغراء، لماذا؟ لولا معرفة الناس لما اكتملت حكمة الابتلاء في الخلق، أو تدري لماذا؟ لأن الابتلاء لا يتم إلا بالحرية والمسؤولية، فلو اختلط الناس ببعضهم كيف يميز الصالح فيثاب عن المجرم فيعاقب؟ أم كيف تتراكم مكاسب المحسنين وتحصن من أن يسرفها الكسالى والمجرمون؟ كلا. لا بد أن يميز الناس عن بعضهم تمييزا كافيا ليأخذ كل ذي حق حقه، فيشجعه ذلك على المزيد من العطاء، ويأخذ التنافس دوره في دفع عجلة الحياة قدما إلى الأمام.
ثالثا: إن حكمة الاختلاف هو التكامل -بعد التنافس على الخيرات- وليس الصراع والتطاحن، وقد قال ربنا سبحانه: (وتعاونوا على البر والتقوى)، ومن دون التعارف كيف يتم التعاون، إن على الناس أن يكتشفوا إمكانات بعضهم ليتبادلوا الخيرات، أما إذا تقوقعت كل طائفة في حدودها الجغرافية أو الاجتماعية ولم يتعارفوا فكيف يمكن التعاون بينهم.
ولعل هذه البصيرة تهدينا إلى أهمية التعارف بين الشعوب في عصرنا الراهن». (السيد محمد تقي المدرسي - تفسير من هدى القرآن - المجلد الثالث عشر - ص 435).
وعليه، فإن العلاقة مع الآخر تتحدد وفق الرؤية الإسلامية من خلال القواعد التالية:
1. الانتماء الإنساني الواحد.
2. الاختلافات والتمايزات البشرية على صعيد الدين أو اللسان أو القوم أو المجتمع.
3. التواصل والتعارف.
فهذه القواعد بكل مضمونها القيمي والأخلاقي والاجتماعي هي التي تحدد طبيعة وشكل العلاقة بين الذات والآخر.
وأية علاقة بين الأنا والآخر بعيدة عن هذه القواعد والمضامين فإنها لا تنسجم ورؤية الإسلام الإنسانية والحضارية.
والنص القرآني فيه الكثير من الآيات التي تحث على صياغة العلاقة مع المختلف والمغاير على قاعدة تنمية المشتركات والاحترام الإنساني المتبادل ونبذ الإكراه بكل أشكاله.
إذ يقول عز من قائل [لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم]. (سورة البقرة - الآية 256).
والحوار بين الناس ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن والالتزام بكل مقتضيات العدالة، وذلك لأن البارئ عز وجل يأمر بالعدل والإحسان. قال تعالى [ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين]. (سورة النحل 125).
وقال تعالى [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم]. (سورة فصلت 34).
وهناك أيضا الكثير من الأحاديث الشريفة التي تؤكد ضرورة مساواة الآخر بالذات والالتزام بمقتضيات العدالة في العلاقة مع الآخر المختلف والمغاير.
فقد جاء في الحديث الشريف «ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحبه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محبا في السماء، مودودا في صدور أهل الأرض». ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: «أمرني ربي بمدارة الناس كما أمرني بأداء الفرائض».
وجاء في الحديث أيضا (الاستصلاح للأعداء بحسن المقال وجميل الأفعال أهون من ملاقاتهم ومغالبتهم بمضيض القتال). فالتنوعات الاجتماعية لا تدار إلا بالمحبة والتسامح والتفاهم والتلاقي، وأية محاولة لإدارة التنوعات الإنسانية، بعيدا عن هذه القيم والمفاهيم، فإن المحصلة هي المزيد من النزعات والتوترات والحروب.
وعليه، فإن الانفتاح على الآخر والتواصل مع قضاياه وهمومه من صميم فهمنا وإدراكنا واستيعابنا لقيم الإسلام.
إذ إننا لا نستطيع أن نعيش وحدنا، وبدون الحوار والانفتاح والتواصل ستبقى الحواجز قائمة، والجفاء متواصل، وسوء الظن هو السائد.
لذلك فإن مهمتنا الأساس هي تنقية نفوسنا وفضائنا من كل الرواسب والشوائب التي تحول دون التواصل والتعارف بين مكونات المجتمع الواحد.