الكونجرس.. معضلة العدالة السياسية
الثلاثاء / 03 / جمادى الآخرة / 1441 هـ الثلاثاء 28 يناير 2020 01:53
طلال صالح بنان
يوم الثلاثاء الماضي، بدأت في مجلس الشيوخ إجراءات محاكمة الرئيس دونالد ترمب. كان اليوم الأول طويلاً ومرهقاً للشيوخ المائة، الذين تتجاوز أعمار 66 منهم الستين سنة. لم ينجح الديمقراطيون في تعديل أي قاعدة إجرائية، مقدمة من الجمهوريين، حيث كان التصويت يعكس الواقع الحزبي في المجلس: 53 جمهورياً 47 ديمقراطياً، عدا تعديل واحد يتيم، صوت فيه: 52 لصالح الجمهوريين و48 للديمقراطيين.
سيطر الجمهوريون على مجريات ذلك اليوم بإحكام، لدرجة التحكّم في النقل المباشر للحدث، الذي استمر لـ 13 ساعة متواصلة حتى الساعات الأولى من اليوم التالي. من الناحية الإخراجية: حال الجمهوريون دون أن تتجول الكاميرا في قاعة المجلس، واُكْتُفِيَ بنقل «كادر» عريض للقاعة، حتى لا ينقل بالتفصيل ما يجري فيها للجمهور الأمريكي الذي كان معظمه نائماً في أهم أحداث الجلسة!
المشكلة الأساسية هنا: أنه مهما قيل عن الموقف القانوني والأخلاقي وحتى الدستوري للديمقراطيين في القضية، فإن محاكمة الرئيس ترمب هي محاكمة سياسية بامتياز. إستراتيجية، كلا الطرفين، للتعامل مع القضية تختلف من الناحية المنهجية، وكذا من ناحية المرجعية الدستورية وتفسيرها. واضعو الدستور الرواد قصدوا أن تكون محاكمة الرئيس سياسية، إمعاناً في تأكيد مرجعية الفصل بين السلطات، وإلا كانوا أحالوا مثل هذا الأمر للسلطة القضائية. كما أن أولئك الرواد الأوائل سيطرت عليهم مثالية سياسية، بعيداً عن احتمال التطور الحزبي في الحياة السياسية الأمريكية. لقد تصوروا أن حلف اليمين لأعضاء مجلس الشيوخ، سيخلصهم من أي تحيزات سياسية، غير الولاء للدستور ومصلحة البلاد.
كلا الطرفين يزعمان ولاءهما وحرصهما على الدستور، لكن بمنطق حزبي ضيق. الجمهوريون يزعمون: حماية مؤسسة الرئاسة، وليس بالضرورة حماية الرئيس.. بينما الديمقراطيون يخشون من «توغل» مؤسسة الرئاسة، بالمبالغة في سلطات وامتيازات الرئيس، بالزعم، كما يقول الرئيس ترمب: إن حصانة الرئيس مطلقة، حتى لو أقدم على جريمة القتل! الديمقراطيون في هذا حجتهم دستوريا أقوى.. فإذا كانت حصانة الرئيس مطلقة، ما كان الدستور نفسه سمح بعزل الرئيس بجرائم حددها، مثل: الخيانة والرشوة وجرائم كبرى أخرى، لم يحددها تفصيلاً.. الأمر الذي استند إليه مجلس النواب في عزل الرئيس.
ما يحدد في النهاية مصير الرئيس ترمب، ليست قضية ما إذا كان أقدم على فعل يسوغ عزله، كما يجادل الديمقراطيون.. أو أنه أخطأ وأساء التقدير والتصرف بالإقدام على ما أقدم عليه، بما لا يستوجب العزل، كما يجادل الجمهوريون. ما قد تتمخض عنه الأزمة يخضع لمنطق السياسة، بمساوماتها وتسوياتها، بكل ما تعنيه السياسة بطبيعتها المصلحية واللا أخلاقية، بشراستها وخبثها، بل وحتى شرورها.
في النهاية: ما يتحكم في مسار محاكمة الرئيس ترمب في مجلس الشيوخ.. وما قد تتمخض عنه نتيجتها هي: «العدالة السياسية».. وما أدراك، ما «عدالة» السياسة.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com
سيطر الجمهوريون على مجريات ذلك اليوم بإحكام، لدرجة التحكّم في النقل المباشر للحدث، الذي استمر لـ 13 ساعة متواصلة حتى الساعات الأولى من اليوم التالي. من الناحية الإخراجية: حال الجمهوريون دون أن تتجول الكاميرا في قاعة المجلس، واُكْتُفِيَ بنقل «كادر» عريض للقاعة، حتى لا ينقل بالتفصيل ما يجري فيها للجمهور الأمريكي الذي كان معظمه نائماً في أهم أحداث الجلسة!
المشكلة الأساسية هنا: أنه مهما قيل عن الموقف القانوني والأخلاقي وحتى الدستوري للديمقراطيين في القضية، فإن محاكمة الرئيس ترمب هي محاكمة سياسية بامتياز. إستراتيجية، كلا الطرفين، للتعامل مع القضية تختلف من الناحية المنهجية، وكذا من ناحية المرجعية الدستورية وتفسيرها. واضعو الدستور الرواد قصدوا أن تكون محاكمة الرئيس سياسية، إمعاناً في تأكيد مرجعية الفصل بين السلطات، وإلا كانوا أحالوا مثل هذا الأمر للسلطة القضائية. كما أن أولئك الرواد الأوائل سيطرت عليهم مثالية سياسية، بعيداً عن احتمال التطور الحزبي في الحياة السياسية الأمريكية. لقد تصوروا أن حلف اليمين لأعضاء مجلس الشيوخ، سيخلصهم من أي تحيزات سياسية، غير الولاء للدستور ومصلحة البلاد.
كلا الطرفين يزعمان ولاءهما وحرصهما على الدستور، لكن بمنطق حزبي ضيق. الجمهوريون يزعمون: حماية مؤسسة الرئاسة، وليس بالضرورة حماية الرئيس.. بينما الديمقراطيون يخشون من «توغل» مؤسسة الرئاسة، بالمبالغة في سلطات وامتيازات الرئيس، بالزعم، كما يقول الرئيس ترمب: إن حصانة الرئيس مطلقة، حتى لو أقدم على جريمة القتل! الديمقراطيون في هذا حجتهم دستوريا أقوى.. فإذا كانت حصانة الرئيس مطلقة، ما كان الدستور نفسه سمح بعزل الرئيس بجرائم حددها، مثل: الخيانة والرشوة وجرائم كبرى أخرى، لم يحددها تفصيلاً.. الأمر الذي استند إليه مجلس النواب في عزل الرئيس.
ما يحدد في النهاية مصير الرئيس ترمب، ليست قضية ما إذا كان أقدم على فعل يسوغ عزله، كما يجادل الديمقراطيون.. أو أنه أخطأ وأساء التقدير والتصرف بالإقدام على ما أقدم عليه، بما لا يستوجب العزل، كما يجادل الجمهوريون. ما قد تتمخض عنه الأزمة يخضع لمنطق السياسة، بمساوماتها وتسوياتها، بكل ما تعنيه السياسة بطبيعتها المصلحية واللا أخلاقية، بشراستها وخبثها، بل وحتى شرورها.
في النهاية: ما يتحكم في مسار محاكمة الرئيس ترمب في مجلس الشيوخ.. وما قد تتمخض عنه نتيجتها هي: «العدالة السياسية».. وما أدراك، ما «عدالة» السياسة.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com