المخرج والكاتب الفرنسي رحيمي.. هل عثر على وطنه في جماليات الخط؟
الجمعة / 07 / جمادى الآخرة / 1441 هـ السبت 01 فبراير 2020 00:34
لينا بدر
ما الحنين إلى الوطن إلا ذاك العضو غير المرئي الذي يولد معنا لحظة الولادة وليس بوسعنا تحديد مكانه، كما نجهل وجوده. عضو وجداني لا تبدأ وظيفته إلا حين يبتعد الجسد عن الوطن الأم، لتظهر آثاره الفيزيولوجية والنفسية بشكلها المدهش بحيث توقظ الذكريات والصور والروائح والنكهات، وكل ما يمتّ إلى الماضي بصلة قبل الرحيل. لا بل تجعل الجسم سقيماً، ألا يطلق في اللغة الإنجليزية على الحنين (home sick) مريض الوطن؟ قد يحاول البعض بتر هذا العضو وإن كان غير مرئي، لكن البتر أليم وموجع، وهل يتخلى الجسد عن أحد أعضائه طوعاً؟
ليس من السهل أن يقارب الكتّاب في المهجر موضوع المنفى، لكنه يبقى الهاجس الذي يخيم على حياتهم في كل لحظة وفي كل حين، فتراهم وإن كتبوا لا يكتبون إلا عن أرضهم، وإن روَوا لا يروون إلا قصص وحكايات أهلهم في الوطن.
هذا ما يعترف به المخرج السينمائي والكاتب الفرنسي من أصل أفغاني عتيق رحيمي، الذي غادر أفغانستان وهو في الثانية والعشرين من عمره إلى باكستان، ومنها إلى فرنسا التي لجأ إليها لجوءاً ثقافياً كما يقول. بعد أن نال رسالة الدكتوراه في الاتصالات البصرية، كان شغفه السينما والإخراج، فقام بإخراج روايته «أرض ورماد». حاز الفيلم على إحدى جوائز مهرجان كان عام ۲۰۰٤. ثم تابع إخراج الأفلام الوثائقية عن أفغانستان بالتوازي مع كتابة روايته «حجر الصبر» عام ۲۰۰۸ مالغونكور، الرواية إلى أن نالت الجائزة الأدبية الأبرز في فرنسا واستحقت نجاحاً باهراً. ثم تبناها في فيلم جديد بالتعاون مع الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير.
ذات يوم طلبت منه مديرة أعماله في دار النشر أن يكتب عن تجربته في المنفى. وكم صعب عليه أن يجد معالمه في أرض الاغتراب، فكان لا بد من العودة إلى أصوله التي شكلته كي يقبض على لحظة الحاضر على نحو أفضل. «يقول حكماء الإغريق: حين تتوه في الصحراء، حريّ بك البحث عن آثار خطاك من حيث أتيت».
يقدم لنا عتيق رحيمي في صفحات كتابه «أنشودة القلم» الصادر عن دار مدارك رسالة حميمية عن منفاه وحياته وتوهانه، هو الذي «ولد في الهند وتأنّس في أفغانستان، وتجدّد في فرنسا». ضاع في المهجر تلهمه الأحزان وأحوال أهله المعذّبين الذين بدأت معاناتهم منذ اجتياح السوفييت بلادهم حتى استيلاء حركة طالبان على أركان الحكم.
هو الواقع في الحيرة والقلق أمام الورقة البيضاء التي يراها كخواء حياته في المنفى، صعب عليه إيجاد الكلمات. أمسك اليراع، واليراع أداة مستدقة تصنع من سوق القصب وتقلّم بصبر وأناة، كان يستخدمه التلاميذ الأفغان لكتابة الأحرف بطريقة فنية فوق ألواحهم المدرسية بعد غمسه بالطباشير السائل. هذا اليراع الذي يحتفظ بنماذج منه على طاولة الكتابة لديه يخط به خطوطاً تساعده على التركيز والعمل. راح يرسم به ويملأ أوراقه بالرسوم والنقوش والحروف. هذا الفن الذي هدهد طفولته حين كان يتوجب عليه نسخ الأحرف المقدسة فوق لوحه الأسود. يعود إلى ذاك الزمن ويكتشف أسرار الأبجدية العربية واللغة الفارسية، ويتأمل في مكانة الكتابة في حياة الشعوب ودياناتها حيث يبدأ كل شيء بالكلمة وللأحرف أهمية لا يفهمها إلا قلة من البشر. هي في بلاده تعاويذ ورقيّات، ولها قوة روحية وشفائية لا يدركها سوى من آمن بها، فكان للكلمة الأثر الكبير في نشأته الفكرية. «أنتمي إلى ثقافة الكلمة، والكلمة تأخذني دوماً إلى الصورة. قادم من بلاد ومن دين يصعب فيهما التعبير عن دواخل المرء وفكره الجواني. بسبب الحياء أو التحريم، لا يهمّ. الكلمة لها أهمية كبرى بحيث يصعب إدراكها. في الغرب الشعار: أكون أو لا أكون. وهناك في وطني الشعار: أقول أو لا أقول».
بعد زمن طويل، حين هرب منه الإلهام وتوارت الكلمات، سارع الرسم وفن الخط إلى مساندة الصمت القابع في داخله. حين خطّ حرف «الألف» (أول حرف من كلمة الله ومن وطنه أفغانستان)، استعاد إحساسه القديم وفتح لنفسه باباً جديداً. وهكذا كتب هذا الكتاب الذي يقدم فيه صورة شخصية مصوغة من الذكريات والتساؤلات.
يسير القارئ في الكتاب كمن يلعب لعبة اقتفاء الأثر. من بحث إلى آخر، ومن لغز إلى اكتشاف، ومن حكاية إلى أسطورة، في طريق يحوي الكثير من المنعطفات التي تحفها بعض الأحداث التي تركت أثراً على حياته: اعتقال والده، اجتياز الحدود إلى باكستان، رحيله إلى فرنسا ثم عودته إلى كابول في العام ۲۰۰۲. هذ الطواف ولّد نصاً أدبياً حرّاً، شاعرياً ومؤثراً، تتردد فيه باستمرار كلمة المنفى، ولكن أيضاً «ألف»، أول حرف في الأبجدية. وهكذا نجد الكاتب في رحلة بحث عن ذاته وعما شكّله وصاغه. إلى أن أوصله التفكير إلى المكانة المقدسة للكتابة في ثقافته العربية الإسلامية.
لا يتحدث عن المنفى كمنفى. يتطرق إلى ذكرياته دون حنين. يشرح لنا أن الخصوصية غير موجودة في ثقافته الأصلية ولا أهمية للكلام عنها. يذكر الأحداث دون انطباعات، فهو يحتفظ بمشاعره التي تقيم في حديقته السرية ولا رغبة لديه في الإفصاح عنها. لا يريد أن يعرض بشيء من عدم الاحتشام انكساراته ونقاط ضعفه. «المنفى لا يُكتب، المنفى يُعاش. تضيع منا المفاتيح في ظلمة الغربة ولا نعود نجد الباب وإن عدنا وعثرنا عليها لن تفتح الباب الذي تركناه». يحدثنا أولاً عن طفولته وعائلته وعن الحضارات المختلفة التي كوّنت بلاده، ثم عن أهمية الهند في تطور شخصيته. إلى أن يصل إلى فرنسا وينهل من علوم الغرب وثقافته ويؤكد على أن الغربة صنعت منه ما آل إليه. لقد «بنى نفسه» بفضل المنفى.
يحملنا عتيق رحيمي إلى عالمه وقد دسّ بين الصفحات رسومه «الكاليمورفي»، كلمة ابتكرها لتشير إلى رسوم الأجساد التي بالكاد استهل بها، ولدت على شكل حرف، مزيج بين فن الخط العربي والصيني والفن الغربي. رسمها باليراع والفحم كي يصوّر أجساد نساء تتوضع على الحروف، وحروفا على الأجساد. أجساد هائمة فوق بياض الورقة، شبه شفافة وغائمة، لكن سواد الحبر يبرز معالمها وحناياها على نحو عاطفي رقيق لتبدو الأنوثة فيها هي الرمز ولا شيء آخر. بالنسبة إليه كل شيء موجود من خلال العناق، العناق الذي نراه في الفن الإسلامي (يكفي أن نلقي نظرة على الزخرفة فوق قباب المساجد ومآذنها). تتشابك الخطوط في رسومه الكاليمورفية، تتلوّى وتنعطف وتتعانق كأنها ترقص لتبدو معلقة في الفراغ الأزلي غير خاضعة للجاذبية، كائنات محكومة بالسفر عبر الزمكان ولا تجد لنفسها موطئ قدم. أوليس هذه حال المنفى؟
وللكاتب قراءاته العديدة بتنوعها الفريد من حيث المصادر. يستشهد بعبارة فيلسوف من الغرب وشاعر فارسي من الشرق. ثم خطّاط من الصين وبعدها مفكر من الهند. تلك المراجع والقراءات أثرت الكتاب وأكدت فكرة رحيمي الذي يقول عن نفسه: «أنا شخص محبوك وهجين من كل الثقافات ومختلف الفنون».
ولأن الحكاية تمنح الحقيقة للحدث وكل شيء يحيا من خلال الحكاية، كان لا بد له من أن يروي قصته ليكتب لها الحياة، لهذا اغتنم الكلام والخط على طريقته لإظهار الغائب وغير المرئي من حياته الماضية.
أنشودة القلم تدعونا إلى عالم الكاتب المؤثر في حيرته. رسالة سيرة ذاتية، تأملات في المنفى والفن والخط الجميل. دعوة رائعة للسفر عبر الكتابة والحلم والشعر والفلسفة والفنون.
إن أصخنا السمع في هدأة الليل لا شك أن أنشودة رحيمي يرددها اليوم آلاف المبعدين عن أوطانهم في زمن كان للنزوح واللجوء والتهجير ما يجعل جبين الإنسانية يندى بالخزي والعار.
ليس من السهل أن يقارب الكتّاب في المهجر موضوع المنفى، لكنه يبقى الهاجس الذي يخيم على حياتهم في كل لحظة وفي كل حين، فتراهم وإن كتبوا لا يكتبون إلا عن أرضهم، وإن روَوا لا يروون إلا قصص وحكايات أهلهم في الوطن.
هذا ما يعترف به المخرج السينمائي والكاتب الفرنسي من أصل أفغاني عتيق رحيمي، الذي غادر أفغانستان وهو في الثانية والعشرين من عمره إلى باكستان، ومنها إلى فرنسا التي لجأ إليها لجوءاً ثقافياً كما يقول. بعد أن نال رسالة الدكتوراه في الاتصالات البصرية، كان شغفه السينما والإخراج، فقام بإخراج روايته «أرض ورماد». حاز الفيلم على إحدى جوائز مهرجان كان عام ۲۰۰٤. ثم تابع إخراج الأفلام الوثائقية عن أفغانستان بالتوازي مع كتابة روايته «حجر الصبر» عام ۲۰۰۸ مالغونكور، الرواية إلى أن نالت الجائزة الأدبية الأبرز في فرنسا واستحقت نجاحاً باهراً. ثم تبناها في فيلم جديد بالتعاون مع الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير.
ذات يوم طلبت منه مديرة أعماله في دار النشر أن يكتب عن تجربته في المنفى. وكم صعب عليه أن يجد معالمه في أرض الاغتراب، فكان لا بد من العودة إلى أصوله التي شكلته كي يقبض على لحظة الحاضر على نحو أفضل. «يقول حكماء الإغريق: حين تتوه في الصحراء، حريّ بك البحث عن آثار خطاك من حيث أتيت».
يقدم لنا عتيق رحيمي في صفحات كتابه «أنشودة القلم» الصادر عن دار مدارك رسالة حميمية عن منفاه وحياته وتوهانه، هو الذي «ولد في الهند وتأنّس في أفغانستان، وتجدّد في فرنسا». ضاع في المهجر تلهمه الأحزان وأحوال أهله المعذّبين الذين بدأت معاناتهم منذ اجتياح السوفييت بلادهم حتى استيلاء حركة طالبان على أركان الحكم.
هو الواقع في الحيرة والقلق أمام الورقة البيضاء التي يراها كخواء حياته في المنفى، صعب عليه إيجاد الكلمات. أمسك اليراع، واليراع أداة مستدقة تصنع من سوق القصب وتقلّم بصبر وأناة، كان يستخدمه التلاميذ الأفغان لكتابة الأحرف بطريقة فنية فوق ألواحهم المدرسية بعد غمسه بالطباشير السائل. هذا اليراع الذي يحتفظ بنماذج منه على طاولة الكتابة لديه يخط به خطوطاً تساعده على التركيز والعمل. راح يرسم به ويملأ أوراقه بالرسوم والنقوش والحروف. هذا الفن الذي هدهد طفولته حين كان يتوجب عليه نسخ الأحرف المقدسة فوق لوحه الأسود. يعود إلى ذاك الزمن ويكتشف أسرار الأبجدية العربية واللغة الفارسية، ويتأمل في مكانة الكتابة في حياة الشعوب ودياناتها حيث يبدأ كل شيء بالكلمة وللأحرف أهمية لا يفهمها إلا قلة من البشر. هي في بلاده تعاويذ ورقيّات، ولها قوة روحية وشفائية لا يدركها سوى من آمن بها، فكان للكلمة الأثر الكبير في نشأته الفكرية. «أنتمي إلى ثقافة الكلمة، والكلمة تأخذني دوماً إلى الصورة. قادم من بلاد ومن دين يصعب فيهما التعبير عن دواخل المرء وفكره الجواني. بسبب الحياء أو التحريم، لا يهمّ. الكلمة لها أهمية كبرى بحيث يصعب إدراكها. في الغرب الشعار: أكون أو لا أكون. وهناك في وطني الشعار: أقول أو لا أقول».
بعد زمن طويل، حين هرب منه الإلهام وتوارت الكلمات، سارع الرسم وفن الخط إلى مساندة الصمت القابع في داخله. حين خطّ حرف «الألف» (أول حرف من كلمة الله ومن وطنه أفغانستان)، استعاد إحساسه القديم وفتح لنفسه باباً جديداً. وهكذا كتب هذا الكتاب الذي يقدم فيه صورة شخصية مصوغة من الذكريات والتساؤلات.
يسير القارئ في الكتاب كمن يلعب لعبة اقتفاء الأثر. من بحث إلى آخر، ومن لغز إلى اكتشاف، ومن حكاية إلى أسطورة، في طريق يحوي الكثير من المنعطفات التي تحفها بعض الأحداث التي تركت أثراً على حياته: اعتقال والده، اجتياز الحدود إلى باكستان، رحيله إلى فرنسا ثم عودته إلى كابول في العام ۲۰۰۲. هذ الطواف ولّد نصاً أدبياً حرّاً، شاعرياً ومؤثراً، تتردد فيه باستمرار كلمة المنفى، ولكن أيضاً «ألف»، أول حرف في الأبجدية. وهكذا نجد الكاتب في رحلة بحث عن ذاته وعما شكّله وصاغه. إلى أن أوصله التفكير إلى المكانة المقدسة للكتابة في ثقافته العربية الإسلامية.
لا يتحدث عن المنفى كمنفى. يتطرق إلى ذكرياته دون حنين. يشرح لنا أن الخصوصية غير موجودة في ثقافته الأصلية ولا أهمية للكلام عنها. يذكر الأحداث دون انطباعات، فهو يحتفظ بمشاعره التي تقيم في حديقته السرية ولا رغبة لديه في الإفصاح عنها. لا يريد أن يعرض بشيء من عدم الاحتشام انكساراته ونقاط ضعفه. «المنفى لا يُكتب، المنفى يُعاش. تضيع منا المفاتيح في ظلمة الغربة ولا نعود نجد الباب وإن عدنا وعثرنا عليها لن تفتح الباب الذي تركناه». يحدثنا أولاً عن طفولته وعائلته وعن الحضارات المختلفة التي كوّنت بلاده، ثم عن أهمية الهند في تطور شخصيته. إلى أن يصل إلى فرنسا وينهل من علوم الغرب وثقافته ويؤكد على أن الغربة صنعت منه ما آل إليه. لقد «بنى نفسه» بفضل المنفى.
يحملنا عتيق رحيمي إلى عالمه وقد دسّ بين الصفحات رسومه «الكاليمورفي»، كلمة ابتكرها لتشير إلى رسوم الأجساد التي بالكاد استهل بها، ولدت على شكل حرف، مزيج بين فن الخط العربي والصيني والفن الغربي. رسمها باليراع والفحم كي يصوّر أجساد نساء تتوضع على الحروف، وحروفا على الأجساد. أجساد هائمة فوق بياض الورقة، شبه شفافة وغائمة، لكن سواد الحبر يبرز معالمها وحناياها على نحو عاطفي رقيق لتبدو الأنوثة فيها هي الرمز ولا شيء آخر. بالنسبة إليه كل شيء موجود من خلال العناق، العناق الذي نراه في الفن الإسلامي (يكفي أن نلقي نظرة على الزخرفة فوق قباب المساجد ومآذنها). تتشابك الخطوط في رسومه الكاليمورفية، تتلوّى وتنعطف وتتعانق كأنها ترقص لتبدو معلقة في الفراغ الأزلي غير خاضعة للجاذبية، كائنات محكومة بالسفر عبر الزمكان ولا تجد لنفسها موطئ قدم. أوليس هذه حال المنفى؟
وللكاتب قراءاته العديدة بتنوعها الفريد من حيث المصادر. يستشهد بعبارة فيلسوف من الغرب وشاعر فارسي من الشرق. ثم خطّاط من الصين وبعدها مفكر من الهند. تلك المراجع والقراءات أثرت الكتاب وأكدت فكرة رحيمي الذي يقول عن نفسه: «أنا شخص محبوك وهجين من كل الثقافات ومختلف الفنون».
ولأن الحكاية تمنح الحقيقة للحدث وكل شيء يحيا من خلال الحكاية، كان لا بد له من أن يروي قصته ليكتب لها الحياة، لهذا اغتنم الكلام والخط على طريقته لإظهار الغائب وغير المرئي من حياته الماضية.
أنشودة القلم تدعونا إلى عالم الكاتب المؤثر في حيرته. رسالة سيرة ذاتية، تأملات في المنفى والفن والخط الجميل. دعوة رائعة للسفر عبر الكتابة والحلم والشعر والفلسفة والفنون.
إن أصخنا السمع في هدأة الليل لا شك أن أنشودة رحيمي يرددها اليوم آلاف المبعدين عن أوطانهم في زمن كان للنزوح واللجوء والتهجير ما يجعل جبين الإنسانية يندى بالخزي والعار.