الإخـوان النازيـون
عملية «شرفة قصر عابدين».. وثائق جاسوسية البنا لصالح هتلر
الجمعة / 20 / جمادى الآخرة / 1441 هـ الجمعة 14 فبراير 2020 02:47
إعداد: خالد عباس طاشكندي Khalid_Tashkndi@
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية مع دخول العقد الرابع من القرن العشرين، خاض النظام الألماني النازي حروبا عديدة على جبهات كان المسلمون يتواجدون فيها، إما كفئات مستضعفة أو تحت وطأة الاستعمار الغربي، ومن بينها البلقان وشمال أفريقيا والقرم والقوقاز، وهو الأمر الذي دفع بألمانيا النازية إلى محاولات توظيف الدين الإسلامي سياسياً، باعتباره عاملاً مهماً في دعم سيطرتها على مناطق الصراعات التي تخوضها، ومن هنا شرعت برلين في التحالف مع العرب والمسلمين ضد أعدائها الذين هم أيضاً عدو مشترك مع هؤلاء المسلمين في ذلك الوقت، وهم بريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفييتي، وهو ما جعل الفرصة مواتية لكسب هذه الفئات في صفوف النازيين. وعلى إثر ذلك، قام الجيش الألماني النازي منذ مطلع العام 1941 بحملات دعائية تروج للنازية بأنها حامية للإسلام، كما قامت قيادات الجيش النازي بتوزيع منشورات تثقيفية عن الإسلام على الجنود الألمان، ونشأت حينها وحدات وفيالق عسكرية إسلامية تعمل تحت لواء الجيش النازي مكونة من عشرات الآلاف من المقاتلين المسلمين داخل صفوف الجيش الألماني النازي.
وكان من بين هذه الفرق العسكرية الإسلامية في الجيش النازي «الفيلق التركستاني - النازي» الذي تكون من 16 كتيبة و16 ألف جندي تم نشرهم على الجبهة الغربية في فرنسا وإيطاليا، و«الفيلق القوقازي - المحمدي - النازي» الذي يتألف من مسلمي عرقيات الأبخاز والشركس والقبردي وبلكار والقراشاي والشيشان والأنغوش وشعوب داغستان، إضافة إلى الأكراد، وبلغ تعدادهم نحو 30 ألف مقاتل، وقاتل هؤلاء في جبهات ستالينغراد، ووارسو، وحتى في الدفاع عن برلين، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الفيالق من المسلمين لم تكن معادية للسامية، وقد تطرق إلى هذا الشأن العديد من الباحثين، ومن بينهم أستاذ التاريخ الدولي ديفيد موتاديل في كتابه «من أجل الرسول والقائد»، وأشار فيه إلى أن هدف انضمام هؤلاء المقاتلين هو التخلص من قمع ستالين، وفي تلك المناطق تعايش المسلمون واليهود على مدى قرون، وحين حطت الحرب الكونية أوزارها ساعد الكثير من المسلمين اليهود في تلك البقاع على الاختباء عن الألمان النازيين، كما أكد الباحث المتخصص في التاريخ الإسلامي البروفيسور أليكس مالاشينكو على أن هؤلاء المسلمين لم يكونوا على علم بقضية القدس وأهميتها، ولم يكن هدفهم من الانضمام للنازية سوى التخلص من عدو مشترك وهو ستالين.
وبالنسبة للعالم العربي، كان مفتي القدس محمد أمين الحسيني وممثل الإخوان المسلمين في فلسطين هو حلقة الوصل في إدارة تجنيد المقاتلين العرب تحت لواء الجيش النازي، فبعد أن أصدر المندوب السامي البريطاني أمراً بإقالة الحسيني والقبض عليه عام 1940، خاض رحلة هروب طويلة من لبنان إلى العراق ثم تركيا وأخيراً إلى ألمانيا التي أقام فيها 4 سنوات، ومنها ساهم مع صديقه مؤسس وقائد جماعة الإخوان حسن البنا في تجنيد جيش إخواني من مصريين وعرب، تم جمعهم من دور الأيتام والمناطق الريفية الفقيرة، للعمل تحت لواء الجيش النازي بقيادة الفوهرر الألماني أدولف هتلر، وكان قوام ذلك الجيش نحو 55 ألف مقاتل بينهم 15 ألف مقاتل مصري، وبالرغم من أن البنا كان يعمل لفترات طويلة لصالح الاستخبارات البريطانية إلا أنه عمل أيضاً في الفترة ما بين 1940-1945 جاسوساً مزدوجاً لصالح ألمانيا النازية، وفقاً لوثائق سرية من الأرشيف البريطاني تم الإفصاح عنها في السنوات القليلة الماضية، وكانت الغاية من ذلك، هو العمل في جميع الاتجاهات، وبناء شتى التحالفات مع المخابرات الأجنبية، واستغلال الدعم المقدم وتوظيفه في السيطرة على مفاصل الدولة المصرية والوصول لسدة الحكم بأي طريقة كانت.
اهتمام القيادة النازية بالإسلام
كانت هناك جملة من الأسباب الأساسية لدى ألمانيا النازية تقف وراء قيامها بتجنيد المقاتلين المسلمين في صفوف جيشها خلال الحرب العالمية الثانية، فمن ناحية كانت تدرك أن تظلم المسلمين في عدد من البقاع الإسلامية القابعة تحت الاحتلال وسلطة الاستعمار سيسهل من مسألة استقطابها، ومن ناحية أخرى كانت ترى أن المسلمين مقاتلين أشداء ومستعدين للتضحية بحياتهم من أجل عقيدتهم، ولهذا قال وزير داخلية الرايخ الألماني وقائد القوات الخاصة الألمانية والبوليس السري المعروف بـ«الجيستابو» هاينريش هيملر الذي كان أقوى رجال هتلر وأكثرهم شراسة، معلقا عن الدين الاسلامي وانضمام الجنود المسلمين ضمن صفوف القوات النازية «يجب القول إننى لست ضد الإسلام بشيء فهو يأتيني بمقاتلين ويعدهم بالجنة إذا قاتلوا وقتلوا في المعركة إنه دين عملي وجذاب جدا بالنسبة للجنود».
ولذلك اهتم القائد النازي أدولف هتلر عبر تصريحاته وآرائه بالتقارب مع العالم الإسلامي لخدمة أهدافه السياسية والعسكرية، وعلى رأسها تأليب المسلمين في البلقان ودول الاتحاد السوفيتي وشمال أفريقيا ضد أعدائه، ولهذا كانت له تصريحات مثيرة عن الإسلام من بينها: «دين محمد الإسلامي من أكثر الأديان التي كانت ستلائم -أيضاً- الأهداف التي نسعى لتحقيقها؛ أكثر من المسيحية نفسها. فلماذا يتوجب علينا أن نعتنق المسيحية بكل الخنوع والهوان اللذين تتصف بهما»، وفي كتابه الشهير «كفاحي» قال: «أما رجال الكنائس فكانوا منصرفين عن هذه الأعمال التخريبية داخل البلاد، التسابق إلى هدي زنوج أفريقيا، هذا التسابق الذي لم يؤدِ إلى أي نتيجة بالنسبة إلى النتائج الباهرة التي حققها الإسلام هناك»، وهو ما يعطي تصوراً واضحاً عن أسباب اهتمامه ومحاولة تقاربه مع العالم الإسلامي.
ارتماء البنا في أحضان النازيين
كان مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا على صلات سرية بعدد من الاستخبارات الأجنبية بهدف دعم أجنداته السياسية الرامية إلى السيطرة على الحكم وتوسيع نطاق نفوذه وتحقيق طموحاته السياسية في إطار الوصول إلى «أستاذية العالم» المشار إليها في مذكراته «الدعوة والداعية»، وقد فجر الخلاف بينه وبين نائبه في الجماعة أحمد السكري عام 1947 أو ما يعرف بـ«فتنة السكري» في كشف بعض الحقائق عن هذه العلاقات المشبوهة، إذ نشر السكري عبر صحيفة «صوت الأمة» سلسلة مقالات عن الرشاوى التي تلقاها البنا من الاستخبارات البريطانية ثم توقف عن استكمال الحلقات بضغوطات من والد البنا.
وفي السياق ذاته، لم يكن مستغرباً أن يعرض البنا خدماته على الزعيم النازي أدولف هتلر، فوفقاً لوثائق ومستندات تلك الحقبة المحفوظة في الأرشيف الفيدرالي الألماني (Bundesaschiv)، وقد ألقى الضوء عليها الباحث والكاتب المصري توحيد مجدي وجمعها في كتاب «أسرار حسن البنا في الرايخ الثالث» الذي صدر عام 2018، وتبين هذه الوثائق أن البنا حرر رسائل خطية أرسلها من القاهرة إلى برلين، إضافة إلى أسطوانة تحتوي على 3 تسجيلات صوتية لمحادثات هاتفية أجراها حسن البنا من مصر مع القائد النازي أدولف هتلر الذي تلقاها في مقر قيادته في برلين، وكانت في الفترة ما بين 1938 و1940، وانتهت بتوقيع البنا على وثيقة تعهد بالالتزام والتعاون مع قيادة الرايخ الثالث النازي، وكان التعهد من طرف البنا فقط، وورد في نص التعهد العمل لحساب النازية من القاهرة، كما عرض البنا تجنيد 50 ألف مقاتل من جماعة الإخوان في مصر والعالم العربي للقتال كنازيين مسلمين في الحرب العالمية الثانية، مشترطاً أمرين؛ الأول: أن تسمى الفرقة العسكرية الإخوانية «الفيلق الإخواني العربي الحر»، والثاني: أن يتولى البنا انتقاء عناصر جماعته المشاركة في القوة وليس قيادات الجيش النازي، مع الالتزام بتلقينهم خطاباً دينياً يحث على الولاء للجيش النازي. وقد شاركت لاحقاً هذه الفرقة العسكرية بالفعل مع القوات النازية ضد جيوش دول الحلفاء، وسقط منها آلاف القتلى ومئات الأسرى الذين احتفظت أرشيفات ألمانيا وبريطانيا بوثائق استسلامهم وتسليمهم في ميناء الإسكندرية بمصر.
وقبل ارتباط البنا بالمهمة الجاسوسية التي اطلق عليها لاحقاً كود «شرفة القصر»، قام هتلر بتكليف وزير الدعاية النازية باول جويبلز بمهمة الاتصال السري مع حسن البنا، وحصل ذلك خلال زيارة منسقة إلى مصر في عهد رئاسة عبدالفتاح يحيى إبراهيم للوزراء، وسجلت زيارة جويبلز إلى مصر بغرض «غير سياسي» وهو زيارة الآثار الفرعونية وذلك حتى لا تتسبب زيارته في خلافات دبلوماسية بين الملك فاروق وبريطانيا، وخلال تلك الزيارة استطاع أن يلتقي بحسن البنا بعيداً عن أعين رقابة المخابرات البريطانية وقام بالترتيب معه ليكون بذلك المرشد الأول في تاريخ جماعة الإخوان الذي عمل جاسوساً لصالح ألمانيا النازية.
عملية شرفة القصر
يزخر الفصلان الثاني والثالث من كتاب «أسرار حسن البنا في الرايخ الثالث» بتفاصيل دقيقة منقولة عن أرشيف الوثائق الألمانية في الحقبة النازية، حول كيفية تجنيد حسن البنا وتوظيفه للتجسس لصالح المخابرات النازية والآليات التي اتبعها للهروب من أعين رقابة المخابرات البريطانية، واختصاراً لتفاصيل العملية؛ أفصحت السلطات البريطانية عن وثائق لهذه العملية في السنوات القليلة الماضية تكشف عن كيفية تجسس البنا لصالح المخابرات البريطانية، حيث تقول الوثيقة السرية الصادرة عن مكتب الخارجية البريطانية والكومونولث بتاريخ 28 أغسطس 1945 وعليها دمغة «سري للغاية» وتحمل عنوان «معلومات عن الشيخ المصري حسن البنا خلال الحرب العالمية الثانية»، وجاء فيها: «اشترى حسن البنا شقة في عام 1940، أطلت شرفتها على قصر عابدين ومنها عمل جاسوساً لخمسة أعوام كاملة لحساب الرايخ الثالث في عملية سرية تحت كود (شرفة القصر) دار خلال الحرب العالمية الثانية. وعملت تلك الشقة كواجهة تحت لافتة (مكتب قانوني ومحاماة) لصالح الاستخبارات النازية السرية في القاهرة وذلك من عام 1940 إلى عام 1945، حيث بدأت في إرسال البث المشفر لرسائل التجسس في ديسمبر 1940، وذلك بعدما تدرب البنا نفسه على يد ضباط الاستخبارات النازية في القاهرة لمدة شهرين، حتى أمكنه إدارة تلك الشقة والاستمرار في أعمال التجسس. وكل الأسرار التي بثها البنا إلى برلين كانت ترسل أولاً إلى جهاز ألماني مشفر، كان مخبأ في مركب صيد مدني خاص، رسا داخل ميناء أبي قير بالإسكندرية وقد تم ضبط المركب على يد الاستخبارات البريطانية في نوفمبر 1943، لكنها أخفقت في إخضاع طاقمه للتحقيق، بعدما قتل أفراده خلال محاولة الهرب».
طموحات البنا والحسيني
كانت علاقة مفتي فلسطين محمد أمين الحسيني بالسلطات النازية وطيدة وقديمة، إذ نشأت خلال حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين، وبعد أن اصدرت سلطات الانتداب البريطاني أوامرها بالقبض على الحسيني، هرب إلى ألمانيا بعد أن تنقل من لبنان إلى العراق ثم تركيا وأخيراً وصل إلى عاصمة الرايخ الثالث وأقام فيها 4 سنوات، وكان يسعى من تحالفه لاحقاً مع جماعة الإخوان وألمانيا النازية في توظيف هذا التحالف لصالح طرد القوات البريطانية من فلسطين.
ووفقاً لسلسة طويلة من الوثائق، لعب الحسيني دوراً في التقارب بين الزعيم النازي أدولف هتلر ومرشد الإخوان حسن البنا، وكان للأخير مخطط بعيد عن توجهات الحسيني، حيث كان يهدف إلى إعلان الخلافة في مصر والسيطرة على الحكم فيها ومن ثم التوسع في السيطرة على العالم العربي والإسلامي.
وكان لافتاً أن لا يكون حسن البنا وأمين الحسيني على علم مسبق بأن هتلر قبل فتح قنوات التواصل معهما بعدة سنوات، كان معجباً للغاية بطرح المفكر الألماني باول لاجارد في كتاب يحمل عنوان (كتابات ألمانية) صادر في برلين عام 1934 والذي يقترح حلولاً لمشكلة التواجد اليهودي في أوروبا، حيث أوصى لاجارد في كتابه بنقل اليهود الألمان والنمساويين إلى فلسطين، قائلاً: «يجب علينا إعادة زرع يهود ألمانيا والنمسا في فلسطين حتى تنقل هذه المياه الملوثة من شوارعنا وبحيراتنا»، وإذا كانا على علم بأن مثل هذه الأفكار تصب ضمن اهتمامات هتلر، فهذا الأمر يقدم دلالات على أن مسألة الوجود اليهودي بشكل عام لم تكن ذات أهمية بالنسبة للبنا على أقل تقدير.
والمثير في الأمر، أن قوة «الفيلق الإخواني» التي جندها البنا لصالح الجيش النازي، لم تعمل لخدمة أي من الأهداف التي سعى لها البنا والحسيني على السواء، حيث تمركزت تلك القوات في سورية بتاريخ 21 يونيو 1941 بغرض التدريب والتجهيز ثم انتقلت تلك القوة فور سيطرة بريطانيا على الأراضي السورية إلى إحدى جزر اليونان وتبعد مسافة نحو 70 كيلومتراً جنوب شرق العاصمة أثينا، حيث استقر الفيلق الإخواني داخل قاعدة ألمانية للمشاركة في المعارك الشرسة غرب أوروبا، وكانت القوة المكونة من 55 ألف مقاتل بينهم 15 ألف مصري، قتلوا في المعارك ولم يتبق بحسب الوثائق البريطانية سوى 939 مقاتلاً تسلمت مصر منهم 56 فرداً.
موقف هتلر من البنا
كان واضحاً لدى السلطات النازية منذ البداية أن غاية مرشد الإخوان حسن البنا من التواصل معها وتقديم عرضه بتجنيد شباب الإخوان في الجيش النازي، تكمن في أن يستغل الفرقة الإخوانية النازية للانقلاب على الملك فاروق والسيطرة على مصر، كما أنه كان واضحاً أن البنا عرض نفسه عليهم لأنه تيقن من أن عمالته للإنجليز لن توصله للحكم وأنه استخدم فقط كورقة ضغط ضد القصر المالي، ولذلك قطعت السلطات النازية الطريق أمام أن تكون القوة المشكلة من عناصر إخوانية (الفيلق الإخواني) تقع تحت سيطرة البنا والولاء له، واكتفوا بتقديم الامتيازات المالية وتمويل الجماعة وتأمين حمايته.
ووفقاً لسجلات ووثائق الأرشيف الألماني، أكد الزعيم النازي أدولف هتلر خلال نقاشه مع هاينريش هيملر قائد فرق سلاح الدفاع والاستخبارات (S.S) التابعة للحزب النازي، حول عملية تجنيد حسن البنا لصالح الرايخ الثالث، أنه لا يهدف من التعاون مع مرشد جماعة الإخوان أن يلبي له أي طموحات سياسية بإزاحة ملك مصر من أجله، قائلاً بالنص: «عزيزي هيملر لا تقلق فأنا لن أستبدل ملكاً حقيقياً يدين بالولاء والحب والتأييد لألمانيا، تعتبره أمة عربية كبرى قائداً لها، بشيخ يدين له بعض الآلاف بالولاء، والفارق بينهما أن الملك الحقيقي شعبه ليس مستعداً للتضحية لأجله.. لكن أتباع ذلك الرجل لديهم الاستعداد الكامل للموت من أجل أفكاره، وكن متأكداً هيملر أنه لا يمكن وضع التاج على رأس مهرج ومن ثم انتظار أن يصبح ملكاً حقيقياً، لقد عرفت ذلك الرجل عن طريق وسطاء وما عرضه كان فرصة، بل ضرورة لاستمرار سير العمليات في الشرق الأوسط على الأقل.. وكان من الواجب الحتمي استغلالها».
وفي هذا الصدد، عقب الباحث المتخصص في التاريخ الإسلامي البروفيسور أليكس مالاشينكو عبر برنامج وثائقي على قناة روسيا اليوم، العام الماضي، قائلاً إن كثيراً من القوميين العرب والمعارضين سعوا للتواصل مع السلطات النازية ظناً منهم أن الفوهرر قد يقدمهم كزعماء بدلاء للأنظمة الحاكمة في العالم العربي، ولكن لم تكن هذه الرؤية حاضرة لدى الزعيم النازي أدولف هتلر بقدر ما سعى إلى توظيفهم ككيانات موالية وداعمة له خلال الحرب العالمية الثانية، وهذا ما حدث مع البنا تماماً الذي لم يكن في نظر الزعيم النازي سوى عميل يقدم له مقاتلين مرتزقة مقابل المال.
وكان من بين هذه الفرق العسكرية الإسلامية في الجيش النازي «الفيلق التركستاني - النازي» الذي تكون من 16 كتيبة و16 ألف جندي تم نشرهم على الجبهة الغربية في فرنسا وإيطاليا، و«الفيلق القوقازي - المحمدي - النازي» الذي يتألف من مسلمي عرقيات الأبخاز والشركس والقبردي وبلكار والقراشاي والشيشان والأنغوش وشعوب داغستان، إضافة إلى الأكراد، وبلغ تعدادهم نحو 30 ألف مقاتل، وقاتل هؤلاء في جبهات ستالينغراد، ووارسو، وحتى في الدفاع عن برلين، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الفيالق من المسلمين لم تكن معادية للسامية، وقد تطرق إلى هذا الشأن العديد من الباحثين، ومن بينهم أستاذ التاريخ الدولي ديفيد موتاديل في كتابه «من أجل الرسول والقائد»، وأشار فيه إلى أن هدف انضمام هؤلاء المقاتلين هو التخلص من قمع ستالين، وفي تلك المناطق تعايش المسلمون واليهود على مدى قرون، وحين حطت الحرب الكونية أوزارها ساعد الكثير من المسلمين اليهود في تلك البقاع على الاختباء عن الألمان النازيين، كما أكد الباحث المتخصص في التاريخ الإسلامي البروفيسور أليكس مالاشينكو على أن هؤلاء المسلمين لم يكونوا على علم بقضية القدس وأهميتها، ولم يكن هدفهم من الانضمام للنازية سوى التخلص من عدو مشترك وهو ستالين.
وبالنسبة للعالم العربي، كان مفتي القدس محمد أمين الحسيني وممثل الإخوان المسلمين في فلسطين هو حلقة الوصل في إدارة تجنيد المقاتلين العرب تحت لواء الجيش النازي، فبعد أن أصدر المندوب السامي البريطاني أمراً بإقالة الحسيني والقبض عليه عام 1940، خاض رحلة هروب طويلة من لبنان إلى العراق ثم تركيا وأخيراً إلى ألمانيا التي أقام فيها 4 سنوات، ومنها ساهم مع صديقه مؤسس وقائد جماعة الإخوان حسن البنا في تجنيد جيش إخواني من مصريين وعرب، تم جمعهم من دور الأيتام والمناطق الريفية الفقيرة، للعمل تحت لواء الجيش النازي بقيادة الفوهرر الألماني أدولف هتلر، وكان قوام ذلك الجيش نحو 55 ألف مقاتل بينهم 15 ألف مقاتل مصري، وبالرغم من أن البنا كان يعمل لفترات طويلة لصالح الاستخبارات البريطانية إلا أنه عمل أيضاً في الفترة ما بين 1940-1945 جاسوساً مزدوجاً لصالح ألمانيا النازية، وفقاً لوثائق سرية من الأرشيف البريطاني تم الإفصاح عنها في السنوات القليلة الماضية، وكانت الغاية من ذلك، هو العمل في جميع الاتجاهات، وبناء شتى التحالفات مع المخابرات الأجنبية، واستغلال الدعم المقدم وتوظيفه في السيطرة على مفاصل الدولة المصرية والوصول لسدة الحكم بأي طريقة كانت.
اهتمام القيادة النازية بالإسلام
كانت هناك جملة من الأسباب الأساسية لدى ألمانيا النازية تقف وراء قيامها بتجنيد المقاتلين المسلمين في صفوف جيشها خلال الحرب العالمية الثانية، فمن ناحية كانت تدرك أن تظلم المسلمين في عدد من البقاع الإسلامية القابعة تحت الاحتلال وسلطة الاستعمار سيسهل من مسألة استقطابها، ومن ناحية أخرى كانت ترى أن المسلمين مقاتلين أشداء ومستعدين للتضحية بحياتهم من أجل عقيدتهم، ولهذا قال وزير داخلية الرايخ الألماني وقائد القوات الخاصة الألمانية والبوليس السري المعروف بـ«الجيستابو» هاينريش هيملر الذي كان أقوى رجال هتلر وأكثرهم شراسة، معلقا عن الدين الاسلامي وانضمام الجنود المسلمين ضمن صفوف القوات النازية «يجب القول إننى لست ضد الإسلام بشيء فهو يأتيني بمقاتلين ويعدهم بالجنة إذا قاتلوا وقتلوا في المعركة إنه دين عملي وجذاب جدا بالنسبة للجنود».
ولذلك اهتم القائد النازي أدولف هتلر عبر تصريحاته وآرائه بالتقارب مع العالم الإسلامي لخدمة أهدافه السياسية والعسكرية، وعلى رأسها تأليب المسلمين في البلقان ودول الاتحاد السوفيتي وشمال أفريقيا ضد أعدائه، ولهذا كانت له تصريحات مثيرة عن الإسلام من بينها: «دين محمد الإسلامي من أكثر الأديان التي كانت ستلائم -أيضاً- الأهداف التي نسعى لتحقيقها؛ أكثر من المسيحية نفسها. فلماذا يتوجب علينا أن نعتنق المسيحية بكل الخنوع والهوان اللذين تتصف بهما»، وفي كتابه الشهير «كفاحي» قال: «أما رجال الكنائس فكانوا منصرفين عن هذه الأعمال التخريبية داخل البلاد، التسابق إلى هدي زنوج أفريقيا، هذا التسابق الذي لم يؤدِ إلى أي نتيجة بالنسبة إلى النتائج الباهرة التي حققها الإسلام هناك»، وهو ما يعطي تصوراً واضحاً عن أسباب اهتمامه ومحاولة تقاربه مع العالم الإسلامي.
ارتماء البنا في أحضان النازيين
كان مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا على صلات سرية بعدد من الاستخبارات الأجنبية بهدف دعم أجنداته السياسية الرامية إلى السيطرة على الحكم وتوسيع نطاق نفوذه وتحقيق طموحاته السياسية في إطار الوصول إلى «أستاذية العالم» المشار إليها في مذكراته «الدعوة والداعية»، وقد فجر الخلاف بينه وبين نائبه في الجماعة أحمد السكري عام 1947 أو ما يعرف بـ«فتنة السكري» في كشف بعض الحقائق عن هذه العلاقات المشبوهة، إذ نشر السكري عبر صحيفة «صوت الأمة» سلسلة مقالات عن الرشاوى التي تلقاها البنا من الاستخبارات البريطانية ثم توقف عن استكمال الحلقات بضغوطات من والد البنا.
وفي السياق ذاته، لم يكن مستغرباً أن يعرض البنا خدماته على الزعيم النازي أدولف هتلر، فوفقاً لوثائق ومستندات تلك الحقبة المحفوظة في الأرشيف الفيدرالي الألماني (Bundesaschiv)، وقد ألقى الضوء عليها الباحث والكاتب المصري توحيد مجدي وجمعها في كتاب «أسرار حسن البنا في الرايخ الثالث» الذي صدر عام 2018، وتبين هذه الوثائق أن البنا حرر رسائل خطية أرسلها من القاهرة إلى برلين، إضافة إلى أسطوانة تحتوي على 3 تسجيلات صوتية لمحادثات هاتفية أجراها حسن البنا من مصر مع القائد النازي أدولف هتلر الذي تلقاها في مقر قيادته في برلين، وكانت في الفترة ما بين 1938 و1940، وانتهت بتوقيع البنا على وثيقة تعهد بالالتزام والتعاون مع قيادة الرايخ الثالث النازي، وكان التعهد من طرف البنا فقط، وورد في نص التعهد العمل لحساب النازية من القاهرة، كما عرض البنا تجنيد 50 ألف مقاتل من جماعة الإخوان في مصر والعالم العربي للقتال كنازيين مسلمين في الحرب العالمية الثانية، مشترطاً أمرين؛ الأول: أن تسمى الفرقة العسكرية الإخوانية «الفيلق الإخواني العربي الحر»، والثاني: أن يتولى البنا انتقاء عناصر جماعته المشاركة في القوة وليس قيادات الجيش النازي، مع الالتزام بتلقينهم خطاباً دينياً يحث على الولاء للجيش النازي. وقد شاركت لاحقاً هذه الفرقة العسكرية بالفعل مع القوات النازية ضد جيوش دول الحلفاء، وسقط منها آلاف القتلى ومئات الأسرى الذين احتفظت أرشيفات ألمانيا وبريطانيا بوثائق استسلامهم وتسليمهم في ميناء الإسكندرية بمصر.
وقبل ارتباط البنا بالمهمة الجاسوسية التي اطلق عليها لاحقاً كود «شرفة القصر»، قام هتلر بتكليف وزير الدعاية النازية باول جويبلز بمهمة الاتصال السري مع حسن البنا، وحصل ذلك خلال زيارة منسقة إلى مصر في عهد رئاسة عبدالفتاح يحيى إبراهيم للوزراء، وسجلت زيارة جويبلز إلى مصر بغرض «غير سياسي» وهو زيارة الآثار الفرعونية وذلك حتى لا تتسبب زيارته في خلافات دبلوماسية بين الملك فاروق وبريطانيا، وخلال تلك الزيارة استطاع أن يلتقي بحسن البنا بعيداً عن أعين رقابة المخابرات البريطانية وقام بالترتيب معه ليكون بذلك المرشد الأول في تاريخ جماعة الإخوان الذي عمل جاسوساً لصالح ألمانيا النازية.
عملية شرفة القصر
يزخر الفصلان الثاني والثالث من كتاب «أسرار حسن البنا في الرايخ الثالث» بتفاصيل دقيقة منقولة عن أرشيف الوثائق الألمانية في الحقبة النازية، حول كيفية تجنيد حسن البنا وتوظيفه للتجسس لصالح المخابرات النازية والآليات التي اتبعها للهروب من أعين رقابة المخابرات البريطانية، واختصاراً لتفاصيل العملية؛ أفصحت السلطات البريطانية عن وثائق لهذه العملية في السنوات القليلة الماضية تكشف عن كيفية تجسس البنا لصالح المخابرات البريطانية، حيث تقول الوثيقة السرية الصادرة عن مكتب الخارجية البريطانية والكومونولث بتاريخ 28 أغسطس 1945 وعليها دمغة «سري للغاية» وتحمل عنوان «معلومات عن الشيخ المصري حسن البنا خلال الحرب العالمية الثانية»، وجاء فيها: «اشترى حسن البنا شقة في عام 1940، أطلت شرفتها على قصر عابدين ومنها عمل جاسوساً لخمسة أعوام كاملة لحساب الرايخ الثالث في عملية سرية تحت كود (شرفة القصر) دار خلال الحرب العالمية الثانية. وعملت تلك الشقة كواجهة تحت لافتة (مكتب قانوني ومحاماة) لصالح الاستخبارات النازية السرية في القاهرة وذلك من عام 1940 إلى عام 1945، حيث بدأت في إرسال البث المشفر لرسائل التجسس في ديسمبر 1940، وذلك بعدما تدرب البنا نفسه على يد ضباط الاستخبارات النازية في القاهرة لمدة شهرين، حتى أمكنه إدارة تلك الشقة والاستمرار في أعمال التجسس. وكل الأسرار التي بثها البنا إلى برلين كانت ترسل أولاً إلى جهاز ألماني مشفر، كان مخبأ في مركب صيد مدني خاص، رسا داخل ميناء أبي قير بالإسكندرية وقد تم ضبط المركب على يد الاستخبارات البريطانية في نوفمبر 1943، لكنها أخفقت في إخضاع طاقمه للتحقيق، بعدما قتل أفراده خلال محاولة الهرب».
طموحات البنا والحسيني
كانت علاقة مفتي فلسطين محمد أمين الحسيني بالسلطات النازية وطيدة وقديمة، إذ نشأت خلال حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين، وبعد أن اصدرت سلطات الانتداب البريطاني أوامرها بالقبض على الحسيني، هرب إلى ألمانيا بعد أن تنقل من لبنان إلى العراق ثم تركيا وأخيراً وصل إلى عاصمة الرايخ الثالث وأقام فيها 4 سنوات، وكان يسعى من تحالفه لاحقاً مع جماعة الإخوان وألمانيا النازية في توظيف هذا التحالف لصالح طرد القوات البريطانية من فلسطين.
ووفقاً لسلسة طويلة من الوثائق، لعب الحسيني دوراً في التقارب بين الزعيم النازي أدولف هتلر ومرشد الإخوان حسن البنا، وكان للأخير مخطط بعيد عن توجهات الحسيني، حيث كان يهدف إلى إعلان الخلافة في مصر والسيطرة على الحكم فيها ومن ثم التوسع في السيطرة على العالم العربي والإسلامي.
وكان لافتاً أن لا يكون حسن البنا وأمين الحسيني على علم مسبق بأن هتلر قبل فتح قنوات التواصل معهما بعدة سنوات، كان معجباً للغاية بطرح المفكر الألماني باول لاجارد في كتاب يحمل عنوان (كتابات ألمانية) صادر في برلين عام 1934 والذي يقترح حلولاً لمشكلة التواجد اليهودي في أوروبا، حيث أوصى لاجارد في كتابه بنقل اليهود الألمان والنمساويين إلى فلسطين، قائلاً: «يجب علينا إعادة زرع يهود ألمانيا والنمسا في فلسطين حتى تنقل هذه المياه الملوثة من شوارعنا وبحيراتنا»، وإذا كانا على علم بأن مثل هذه الأفكار تصب ضمن اهتمامات هتلر، فهذا الأمر يقدم دلالات على أن مسألة الوجود اليهودي بشكل عام لم تكن ذات أهمية بالنسبة للبنا على أقل تقدير.
والمثير في الأمر، أن قوة «الفيلق الإخواني» التي جندها البنا لصالح الجيش النازي، لم تعمل لخدمة أي من الأهداف التي سعى لها البنا والحسيني على السواء، حيث تمركزت تلك القوات في سورية بتاريخ 21 يونيو 1941 بغرض التدريب والتجهيز ثم انتقلت تلك القوة فور سيطرة بريطانيا على الأراضي السورية إلى إحدى جزر اليونان وتبعد مسافة نحو 70 كيلومتراً جنوب شرق العاصمة أثينا، حيث استقر الفيلق الإخواني داخل قاعدة ألمانية للمشاركة في المعارك الشرسة غرب أوروبا، وكانت القوة المكونة من 55 ألف مقاتل بينهم 15 ألف مصري، قتلوا في المعارك ولم يتبق بحسب الوثائق البريطانية سوى 939 مقاتلاً تسلمت مصر منهم 56 فرداً.
موقف هتلر من البنا
كان واضحاً لدى السلطات النازية منذ البداية أن غاية مرشد الإخوان حسن البنا من التواصل معها وتقديم عرضه بتجنيد شباب الإخوان في الجيش النازي، تكمن في أن يستغل الفرقة الإخوانية النازية للانقلاب على الملك فاروق والسيطرة على مصر، كما أنه كان واضحاً أن البنا عرض نفسه عليهم لأنه تيقن من أن عمالته للإنجليز لن توصله للحكم وأنه استخدم فقط كورقة ضغط ضد القصر المالي، ولذلك قطعت السلطات النازية الطريق أمام أن تكون القوة المشكلة من عناصر إخوانية (الفيلق الإخواني) تقع تحت سيطرة البنا والولاء له، واكتفوا بتقديم الامتيازات المالية وتمويل الجماعة وتأمين حمايته.
ووفقاً لسجلات ووثائق الأرشيف الألماني، أكد الزعيم النازي أدولف هتلر خلال نقاشه مع هاينريش هيملر قائد فرق سلاح الدفاع والاستخبارات (S.S) التابعة للحزب النازي، حول عملية تجنيد حسن البنا لصالح الرايخ الثالث، أنه لا يهدف من التعاون مع مرشد جماعة الإخوان أن يلبي له أي طموحات سياسية بإزاحة ملك مصر من أجله، قائلاً بالنص: «عزيزي هيملر لا تقلق فأنا لن أستبدل ملكاً حقيقياً يدين بالولاء والحب والتأييد لألمانيا، تعتبره أمة عربية كبرى قائداً لها، بشيخ يدين له بعض الآلاف بالولاء، والفارق بينهما أن الملك الحقيقي شعبه ليس مستعداً للتضحية لأجله.. لكن أتباع ذلك الرجل لديهم الاستعداد الكامل للموت من أجل أفكاره، وكن متأكداً هيملر أنه لا يمكن وضع التاج على رأس مهرج ومن ثم انتظار أن يصبح ملكاً حقيقياً، لقد عرفت ذلك الرجل عن طريق وسطاء وما عرضه كان فرصة، بل ضرورة لاستمرار سير العمليات في الشرق الأوسط على الأقل.. وكان من الواجب الحتمي استغلالها».
وفي هذا الصدد، عقب الباحث المتخصص في التاريخ الإسلامي البروفيسور أليكس مالاشينكو عبر برنامج وثائقي على قناة روسيا اليوم، العام الماضي، قائلاً إن كثيراً من القوميين العرب والمعارضين سعوا للتواصل مع السلطات النازية ظناً منهم أن الفوهرر قد يقدمهم كزعماء بدلاء للأنظمة الحاكمة في العالم العربي، ولكن لم تكن هذه الرؤية حاضرة لدى الزعيم النازي أدولف هتلر بقدر ما سعى إلى توظيفهم ككيانات موالية وداعمة له خلال الحرب العالمية الثانية، وهذا ما حدث مع البنا تماماً الذي لم يكن في نظر الزعيم النازي سوى عميل يقدم له مقاتلين مرتزقة مقابل المال.