كتاب ومقالات

لم يحضر أحد

أريج الجهني

هناك من يحضر في المكان وهناك من يمثل به، فالحضور حينما لا يكون صادقا فهو يشبه المثول أمام المحكمة، كثيرا ما نكون متهمين فنحضر لنعطي وندعم ونجد أن حضورنا مجرد ذريعة لاتهامنا بأنه كان باهتا أو كاذبا، قد تتصل لتسأل عن صحة صديق فيبادرك (قل ما لديك)، الحضور فلسفة فلا يكفي أن تحضر بجسدك لتبرهن للناس أنك هنا، ولا يكفي أن تحضر دون أن تسجل دخولا في عقل من هو أمامك، نحن لا نشبه الفراشات ولا نفهم ظل الخفافيش، ربما نشبه الأنوار ورغم حقيقة ضوئنا تظل مقابض إنارتنا بيد أحدهم فمتى انصرف عنك هوى بيده على رأسك وغاب وتركك في عتمتك.

الحضور مغامرة جريئة أمام رفاهية الغياب، ففي ابتعادك أنت لست مضطرا لأن تبرر إنسانيتك في كل مرة ولن تحتاج أن تهاتف أحدهم وتشرح له أسباب حاجتك للوقت، قد يباغتك البعض في كل فترة ليقول كان يجب أن تفعل كذا وأن تقول كذا، ثم يأتي أحمق آخر ويقول لقد خيبت ظني بك بهذا الحضور الذي لا يشبه أوهامنا وعقولنا البلهاء، ثم يأتي مغتالو العقول ليضعوا عليك عقوبات عبورك من منطقة المثول لمنطقة الحضور الحقيقي وهكذا، بقدر ما تبتعد بقدر ما تصبح الصورة أكثر وضوحا.

أن تكون حاضرا يعني أن تعي لذة الحضور وأن تنغمس في الحقيقة، وأن تحضر بعقلك أنت لا بعقل الجموع، فالحضور الذاتي أن تتجلى في عينيك صورتك عن ذاتك واستحقاقك يتجلى في ضميرك واحترامك لكيانك يضيء ملامح وجهك، لهذا تعتبر الثقة بالنفس من أكثر الصفات المثيرة والجذابة في الشخص، اغمض عينيك وحاول أن تتذكر أول وجه ستتذكره، ستجد أن حضوره الأول جاء كروح واثقة ومستقرة، أصحاب الحضور الباهت مهما كانت ملامحهم مبهرة لن تستقر بصماتهم في ذاكرتك دون أن تكون الثقة تسبقهم.

في سياق ثقافتنا الاجتماعية، فكرة الحضور مرتبطة دائما بثلاثة أمور؛ أولها السلطة، ثانيها المال، وثالثها الجمال، فلو حصرت ملفات ومجلدات المحافل ستجد أن الحضور لا ينعتق من هذه المحددات، التي أثبتت فشلها مع الزمن، فالسلطة الاجتماعية تكلست وتراجع رصيد المشيخة والهياط وأصبح الفرد أكثر وعيا وتساؤلا (ما سبب الحضور؟)، الوعي المالي أيضا جعل الناس تعيد حساباتها في رصد الحاضرين (مشاهير الفلس) رغم ما ينالونه من أموال هم فعليا (لم يحضر أحد) فالتغطيات التي تقع في مداراتهم أصبحت محط استفهام وربما مساءلة، أما الجمال فالغياب هو عنوان المرحلة، فمع شغف الفيلر والبوتكس أصبحت لا تعرف هل الحاضرات هن أنفسهن أم أشباحهن؟

معنويا عالج طلال مداح فكرة الحضور في أغنيته (احبك لو تكون حاضر احبك لو تكون هاجر، ومهما الهجر يحرقني راح امشي معاك للآخر!)، لكن لعله لا يدري أن الإنسان في عصرنا هذا عاطفته غائبة وحضوره باهت بل مشاعره بأكملها منمطة، وربما حضر بجسده وغاب عن واقعه، وربما عاش ملاحم وهمية في مخيلته دون أن يصل للحضور المعنوي اللائق كحضور العشاق القدامى أو كما تسميهم صديقتي سمرا (المحاربين القدامى)!

* كاتبة سعودية

areejaljahani@gmail.com