الخزانة
الجمعة / 27 / جمادى الآخرة / 1441 هـ الجمعة 21 فبراير 2020 03:26
حنان الحربش
لا يحق لأحدهم فتح خزانتك، أن تعبث عيناه كالفئران داخل ملابسك، يغرز عينيه في قلبك، هذا تعدٍ لا يخلو من الإهانة !!
لهذا السبب احترسوا، وابقوا على غرف ملابسكم موصدة، ما أشبه القلوب بالخزائن.
مضى على تلك الحادثة ثلاثة أشهر، ولا أحد يعرف يقيناً ما إذا كان الأموات يشعرون بالإهانة أيضاً.
منذ أن رحلت قرر والداي التخلص من كل أثر كان لها في هذا العالم.. يخيل إليّ أنهما يريدان طمس بصمات يديها.. وأن يمحوا تاريخها.. وأن يتصرفا كما لو أنها لم تكن موجودة قط.. هكذا يقومان بحماية ابنتهما الصغيرة من الحزن الذي خلّفه رحيل أختها الكبرى.
ولكن مهما فعل الآباء في سبيل حماية أبنائهم، تظل للأقدار مخالب.. لا أحد يستطيع أن يقي ابنه من الأحزان.. للطفولة أحزانها مهما بدت باسمة وسعيدة.. وأعمق أحزانها هو انكسار الوالدين.
انكسرت أمي، وبدا ظلّ أبي أكثر انكسارا.. كان الحزن يحفر بمعوله حفرة مظلمة، كانت تكبر مع مرور الأيام، والمسافة بينهما تزيد اتساعاً -ومع هذا- كانا مُصرّين على عاداتنا القديمة.. تناول العشاء كل سبت في مطعمنا المفضل.. الذهاب إلى تناول المثلجات في حديقة المدينة.. كانا يريدان إقناعي بطريقة ساذجة أن الحياة مستمرة وأن العادات لا تتغير.. وأن أختي الطيبة هي وديعة من الخالق.. وأنها الآن على متن غيمة تنظر إلينا من السماء.
ولكن كل ابتسامة في النور تتلاشى إذا جُن الظلام، كان لنشيج أمي على الوسادة هسيس أشعر به.. وكانت حدّة أبي وخلافهما الدائم حول الإنجاب ما يجعل علاقتهما متوترة ومشحونة.. كل شيء كان على ما يرام، هذا ما يحاولان ادعاءه.
لطالما أخبرتني أختي.. أن الهالة، ذلك الشعاع الذي ينبثق من جوهر الأشياء، هو ما يجعلنا نشعر بحقيقة ما يدور حولنا.. لهذا علينا أن نكون مستعدين دوماً للحدس والتلقي.. علينا أن نتعلم ألا نرى عبر أعيننا فحسب.. بل عبر قلوبنا أيضاً.. أن نتحلى بنفاذ البصيرة !!
لقد ماتت أختي.. ما كان لشخص مثلها أن يموت.. تركت خزانة ملابسها ودفاترها.. وهذا ما كانت تقوله لي دائماً.. «أن يفتح أحدهم خزانتك.. هو أن يلقي بنظره في قرارة قلبك.. وأنا لا أحب هذا الانكشاف».
***
بأكياس القمامة السوداء حملوا ملابسها على جناح السرعة، حافلة بيضاء تقف أمام المنزل «جمعية التبرع الخيرية».
شعرت بدموعي تسقط على خدي.. لقد فتحوا خزانة أختي.. فتشوها.. عبثوا في ملابسها.. ثم أرسلوها إلى الجمعية الخيرية.. من يحفظ للأموات حقهم في الخصوصية ؟!!
لقد حدث ما لم أكن أريده أن يحدث.
***
الدفاتر.. مازالت قابعة في مكانها، أتأملها عندما أشعر بأنياب الفقد تحز على قلبي.. أحاول أن أعتذر من أختي لأني أريد قراءتها ولكنني أعرف يقيناً بأنها ستغضب.
ولأنها تنزعج عندما ينظر أحدهم إلى قرارة قلبها كما تقول.. أقمتُ محرقة صغيرة في فناء المنزل.. وألقيتُ بكل الدفاتر طعاما سائغا لألسنة اللهب.
وقد قطعتُ عهداً على نفسي بألا أفشي سرّ أختي أبداً.
لهذا السبب احترسوا، وابقوا على غرف ملابسكم موصدة، ما أشبه القلوب بالخزائن.
مضى على تلك الحادثة ثلاثة أشهر، ولا أحد يعرف يقيناً ما إذا كان الأموات يشعرون بالإهانة أيضاً.
منذ أن رحلت قرر والداي التخلص من كل أثر كان لها في هذا العالم.. يخيل إليّ أنهما يريدان طمس بصمات يديها.. وأن يمحوا تاريخها.. وأن يتصرفا كما لو أنها لم تكن موجودة قط.. هكذا يقومان بحماية ابنتهما الصغيرة من الحزن الذي خلّفه رحيل أختها الكبرى.
ولكن مهما فعل الآباء في سبيل حماية أبنائهم، تظل للأقدار مخالب.. لا أحد يستطيع أن يقي ابنه من الأحزان.. للطفولة أحزانها مهما بدت باسمة وسعيدة.. وأعمق أحزانها هو انكسار الوالدين.
انكسرت أمي، وبدا ظلّ أبي أكثر انكسارا.. كان الحزن يحفر بمعوله حفرة مظلمة، كانت تكبر مع مرور الأيام، والمسافة بينهما تزيد اتساعاً -ومع هذا- كانا مُصرّين على عاداتنا القديمة.. تناول العشاء كل سبت في مطعمنا المفضل.. الذهاب إلى تناول المثلجات في حديقة المدينة.. كانا يريدان إقناعي بطريقة ساذجة أن الحياة مستمرة وأن العادات لا تتغير.. وأن أختي الطيبة هي وديعة من الخالق.. وأنها الآن على متن غيمة تنظر إلينا من السماء.
ولكن كل ابتسامة في النور تتلاشى إذا جُن الظلام، كان لنشيج أمي على الوسادة هسيس أشعر به.. وكانت حدّة أبي وخلافهما الدائم حول الإنجاب ما يجعل علاقتهما متوترة ومشحونة.. كل شيء كان على ما يرام، هذا ما يحاولان ادعاءه.
لطالما أخبرتني أختي.. أن الهالة، ذلك الشعاع الذي ينبثق من جوهر الأشياء، هو ما يجعلنا نشعر بحقيقة ما يدور حولنا.. لهذا علينا أن نكون مستعدين دوماً للحدس والتلقي.. علينا أن نتعلم ألا نرى عبر أعيننا فحسب.. بل عبر قلوبنا أيضاً.. أن نتحلى بنفاذ البصيرة !!
لقد ماتت أختي.. ما كان لشخص مثلها أن يموت.. تركت خزانة ملابسها ودفاترها.. وهذا ما كانت تقوله لي دائماً.. «أن يفتح أحدهم خزانتك.. هو أن يلقي بنظره في قرارة قلبك.. وأنا لا أحب هذا الانكشاف».
***
بأكياس القمامة السوداء حملوا ملابسها على جناح السرعة، حافلة بيضاء تقف أمام المنزل «جمعية التبرع الخيرية».
شعرت بدموعي تسقط على خدي.. لقد فتحوا خزانة أختي.. فتشوها.. عبثوا في ملابسها.. ثم أرسلوها إلى الجمعية الخيرية.. من يحفظ للأموات حقهم في الخصوصية ؟!!
لقد حدث ما لم أكن أريده أن يحدث.
***
الدفاتر.. مازالت قابعة في مكانها، أتأملها عندما أشعر بأنياب الفقد تحز على قلبي.. أحاول أن أعتذر من أختي لأني أريد قراءتها ولكنني أعرف يقيناً بأنها ستغضب.
ولأنها تنزعج عندما ينظر أحدهم إلى قرارة قلبها كما تقول.. أقمتُ محرقة صغيرة في فناء المنزل.. وألقيتُ بكل الدفاتر طعاما سائغا لألسنة اللهب.
وقد قطعتُ عهداً على نفسي بألا أفشي سرّ أختي أبداً.