زوايا متخصصة

رياح التغريب.. هل تنقلنا إلى عالم المُسوخ أم الإبداع؟

إعداد: فهد صالح (جدة) fahadoof_s@

شكّل «التغريب» موضوعاً كبيراً لغير واحدٍ من الكتاب المعاصرين، وهو من المصطلحات التي أخذت تنتشر في كتابات مثقفينا في الآونة الأخيرة، ولا يمكن جمعه في مادة صحفية.. فما المقصود به؟

يُراد بـ«التغريب»، في اللغة العربية، النفي والإبعاد عن البلد، ويُطلق في الاصطلاح الثقافي والفكري المعاصر، غالباً، على حالات التعلق والانبهار والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربية والأخذ بالقيم والنُّظم وأساليب الحياة الغربية؛ بحيث يصبح الفرد أو الجماعة أو المجتمع، الذي له هذا الموقف أو الاتجاه، غريباً في ميوله وعواطفه وعاداته وأساليب حياته وذوقه العام وتوجهاته في الحياة، ينظر إلى الثقافة الغربية وما تشتمل عليه من قِيمٍ ونظم ونظريات وأساليب حياة نظرةَ إعجابٍ وإكبار، ويرى في الأخذ بها الطريقة المُثلى لتقدُّم جماعته أو أمته.

وفي ظل العصر الحديث؛ حيث تهيمن الحضارة المادية الغربية بمفرداتها الناعمة، وعلى رأسها اللغة الإنجليزية بمختلف أوعيتها من آداب وفنون ومعلوماتية وغير ذلك، فإننا نجد أن التقليد الأعمى من جانب شرائح كبيرة من أبناء مجتمعاتنا، قد قادهم إلى أن يتحول لسانهم إلى لسان أعجمي خالص، وخصوصاً من أتباع المدارس الثقافية الفرنسية والإنجليزية، ممن تأثروا برياح التغريب. ولقد أدت ظواهر عدة إلى أن تتحول أجيال بالكامل إلى مسوخ ثقافية، لا تعلم أي شيء لا عن لغتها، ولا عن أعرافها وتقاليدها بالتالي، أي شيء.

شكت لغتنا من التغريب في كلامنا الذي يستهوينا أثناء الحديث من خلال حشوه بكلمات أجنبية عديدة، وفي حرصنا على تعليم أطفالنا لغةً قبل إتقانهم لغتهم الأم، وفي شركاتنا الكبرى، التي قد تكتب معاملاتها ومراسلاتها وأنظمتها بالإنجليزية، وفي بعض جامعاتنا التي تصر على التعليم باللغة الإنجليزية في غير كلياتها وأقسامها المتخصصة في اللغة العربية، وفي لوحات واجهات المحلات التجارية المنتشرة هنا وهناك، التي تقذي العيون بكلماتها الأجنبية، وبخطوطها الأعجمية وكأنها غير موجودة في بلاد عربية تعتز بلغتها الأم وتعمل على حمايتها من التشويه، وفي المكاتب التجارية التي لا يجد فيها العربي موظفاً عربياً يجيد التخاطب معه كما هو الحال، في وكالات خطوط الطيران الأجنبية وما شابهها من مكاتب السفر والسياحة والشحن. كما أن بعض المثقفين المنبهرين بالغرب يظنون أن النظريات الغربية الحديثة فيها حلول سحرية لمشكلاتنا اللغوية المعاصرة، ويحاولون نقل النظريات الأدبية واللغوية وتطبيقها على لغتنا العربية بحذافيرها دون مراعاة لخصوصية اللغة العربية، وهم بهذا الفعل كمن يحرث في البحر؛ لأن العربية لها سماتها الخاصة بها، ولا مفرّ لنا إلا بالرجوع إلى تراثنا العربي، ونفض الغبار عنه وتطويره والبناء عليه؛ فتراتنا العربي حافل بالنظريات والجهود اللغوية والأدبية..

وهذا لا يعنى - من جهة أخرى- ألّا نستفيد من التجارب الإنسانية، ولكن ليس كل نظرية تصلح للتطبيق على لغتنا، فنحن لا ندعي أن كل ما جاءنا من الغرب من نظريات في اللغة والأدب غير صالح، ولو حدث ذلك نكون مجافين للمنهجية العلمية، ولكن بالمقابل ليس كل النظريات الغربية صالحة للتعامل معها وتطبيقها على العربية؛ فالنظريات اللغوية والأدبية نظريات إنسانية عامة محايدة في أغلب الأحيان، ولكن ليس بالضرورة أنها تتواءم مع لغتنا.

قد يكون أمراً جيداً أن تتلاقح الثقافات، من خلال التعليم ومختلف وسائط وأوعية المحتوى الفكري والثقافي، مثل الآداب والفنون، لكن على أن يكون ذلك من خلال ضمانات تحمي الهوية، ومختلف أساليب التنشئة الاجتماعية والثقافية، والحفاظ على الخصوصية.