كوارث الاقتصاد العالمي.. دروس من التاريخ
حين سكن الأمريكيون في أكواخ وخيام.. وعاد الغرب إلى ركوب الدواب
الجمعة / 18 / رجب / 1441 هـ الجمعة 13 مارس 2020 03:03
تقرير: خالد عباس طاشكندي khalid_Tashkndi@
على مدى قرن من الزمان، مر العالم بعدد من الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي نجم عنها تداعيات سلبية خطيرة على جميع الأصعدة والمستويات، متسببة في الكثير من التحديات لإنسان هذه الأرض، نجم عنها معاناة وبؤس؛ نتيجة ما تخلفه هذه الأزمات من بطالة وفقر وجوع وتشرد وصراعات عرّضت البشرية لخطر وجودي.
ومن بين هذه الأزمات، سجل التاريخ 7 أزمات اقتصادية تعد الأسوأ والأخطر خلال المائة عام الأخيرة، بينها أزمتان انبثقت من الولايات المتحدة، ولأن الأزمات الاقتصادية عادة ما تجر معها أزمات أخرى، كان من تداعيات إحدى هذه الأزمات صعود الديكتاتورية النازية والفاشية ونشوب الحرب الكونية الثانية، وربما لن يصدق البعض أن الولايات المتحدة التي تتربع على عرش أقوى وأكبر اقتصادات العالم منذ عام 1871، عاش ملايين من سكانها في فقر وبطالة وجوع وتشرد وسكنوا في أكواخ خشبية وخيام واضطر الآلاف من الأمريكيين إلى الهجرة للخارج بعد أن فقد أكثر من 25% من المواطنين وظائفهم خلال سنوات «الكساد العظيم»، وفي أزمة اقتصادية أخرى، عادت هولندا وبلجيكا والنرويج عام 1973 إلى استخدام الدواب كوسيلة للتنقل بعد أن حظرت قيادة السيارات كل يوم أحد على خلفية قرار المملكة بقطع إمدادات النفط عن العديد من الدول الغربية في عهد الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- بسبب دعمها للاحتلال الإسرائيلي.
واليوم يقف العالم على أعتاب أزمة اقتصادية متصاعدة ومتعددة الأبعاد، فقد تسبب انتشار فايروس «كورونا المستجد» (كوفيد-19) الذي أصاب نحو 117 ألف إنسان حول العالم وأدى إلى وفاة أكثر من 4 آلاف حتى اللحظة، في سلسلة من التداعيات الاقتصادية شملت أسواق الأسهم وأسعار النفط وأسواق العمل، وأصبحت وأمست تنذر بدخول الاقتصاد العالمي مرحلة ركود يصعب رصد حجمها وتداعياتها على المدى القصير والبعيد، ولأن الحكمة تقول «اجعل التاريخ مستشارك الحكيم»، فإن إحدى سبل تقويض هذه الأزمة وتبعاتها على الاقتصاد العالمي تدفعنا إلى إعادة تسليط الضوء على أبرز الأزمات الاقتصادية الخانقة التي هزت العالم منذ أزمة الكساد العظيم مطلع ثلاثينات القرن الماضي، وتحليل أسباب هذه الأزمات وتداعياتها وحلولها، واستخلاص العبر منها.
تعد أزمة «الكساد العظيم» إحدى أكبر وأخطر الأزمات الاقتصادية التي شهدها العالم في العصر الحديث، حدثت في عام 1929 واستمرت لأكثر من 10 سنوات، متسببة في آثار مدمرة على العديد من الدول الغنية والفقيرة على السواء، وأصبحت مرجعاً بالغ الأهمية لخبراء الاقتصاد حول العالم، خاصة مع نشوب الأزمات الاقتصادية.
اندلعت شرارة هذه الأزمة مع انهيار سوق الأسهم الأمريكية، وتحديدا في بورصة نيويورك «وول ستريت» في 29 أكتوبر 1929، وكان ذلك في يوم ثلاثاء فأطلق عليه مسمى «الثلاثاء الأسود»، وذلك عندما طرح 13 مليون سهم للبيع، لكنها لم تجد مشترين، فوجد آلاف المساهمين أنفسهم مفلسين، وخسر مؤشر داون جونز 89% من قيمته. وكان تأثير الأزمة مدمراً على كل الدول تقريباً؛ الفقيرة منها والغنية على السواء، إذ كان من نتائجها انخفاض التجارة العالمية ما بين النصف والثلثين، شاملة انخفاض متوسط الدخل الفردي وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح. وكانت كبرى المدن في العالم هي أكثر المتأثرين بالأزمة وخاصة المعتمدة على الصناعات الثقيلة، كما توقفت أعمال البناء في معظم الدول، وتأثر المزارعون بهبوط أسعار المحاصيل بحوالى 60% من قيمتها.
واتسع نطاق الأزمة بعد أن حاول أصحاب البنوك الأمريكية اتخاذ إجراءات لمواجهة الأزمة، بسحب كميات كبيرة من السيولة المالية من مصارف في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، مما أدى إلى نقل الأزمة إلى أوروبا.
ولم يفلح الإنفاق الحكومي الذي ارتفع خلال النصف الأول من عام 1930 في إعادة الاقتصاد الأمريكي إلى مستويات ما قبل الأزمة، إذ انخفض إنفاق المستهلكين بنسبة 10% بسبب الخسائر الفادحة بسوق الأسهم، بالإضافة إلى موسم جفاف شديد عصف بالأراضي الزراعية الأمريكية بداية صيف 1930. وبحلول عام 1932، تراوحت نسبة البطالة بين 25% إلى 30% من حجم القوى العاملة، بما يعادل 30 مليون عاطل في أمريكا، وأصبح كثير من الأفراد والأسر بلا مأوى، حتى باتت عائلات تعيش في أكواخ من الكرتون والخيام.
ولم تفلح عروض الائتمان التي قدمتها البنوك بمعدلات فائدة منخفضة في إغراء المستهلكين بالاقتراض، وبدأت الأسعار في التراجع، وانخفضت الرواتب بمنتصف 1931، وكان الانكماش في الاقتصاد الأمريكي قد انتقل إلى اقتصاديات الدول الأخرى، بعدما فرضت الحكومة الأمريكية عام 1930 تعرفة جمركية على أكثر من 20 ألف سلعة مستوردة. ونتيجة لذلك تأثرت القارة الأوروبية التي تترابط اقتصاديا مع الولايات المتحدة بشدة، إذ ارتفعت نسبة البطالة في ألمانيا لأكثر من 25%، واستمر قطاعا الصناعة والصادرات في بريطانيا يئنان تحت وطأة الكساد.
وتداعت الأزمة على الصعيد السياسي أيضاً، متسببة في صعود الأنظمة الراديكالية والديكتاتورية، وعلى رأسها تولي النازيين لمقاليد الحكم في ألمانيا عقب انهيار جمهورية «فايمار» عام 1933 إثر فشلها في تجاوز عواقب أزمة الكساد الكبير على ألمانيا، التي نتج عنها معدلات بطالة مرتفعة وتضخم هائل في الأسعار، وأغلقت أسواق كثيرة في وجه التجارة العالمية وتوقف التبادل التجاري، واتبعت دول كثيرة سياسة الاكتفاء الذاتي مثل النظامين الفاشي في إيطاليا والنازي في ألمانيا.
وأدى انشغال الكثير من الدول في معالجة أزماتها الاقتصادية إلى عدم الالتفات لخطورة ما كان يجري على الصعيد العالمي من انتهاك لقرارات الأمم المتحدة وعودة مبدأ التسلح وخرق المعاهدات الدولية، وقوت الأزمة بطريقة غير مباشرة النظام الشيوعي الذي لم يتأثر حينها من الأزمة الاقتصادية بذات الدرجة التي تأثرت بها الدول الرأسمالية، وهكذا كانت الأزمة الاقتصادية سبباً من أسباب قيام الحرب العالمية الثانية.
الأسباب الجوهرية والحلول
يرجع خبراء الاقتصاد أزمة الكساد إلى طبيعة النظام الرأسمالي، الذي لا يتيح للدول التدخل في نشاط السوق، فعندما تضطرب العلاقة بين العرض والطلب تحدث فوضى اقتصادية تكون نتيجتها أزمة مالية وتحول النظام الاقتصادي الرأسمالي الحر إلى اقتصاد موجه.
وتعود أسباب زيادة العرض على الطلب إلى دخول عصر الآلات في عملية الإنتاج، الأمر الذي ضاعف المعروض في الأسواق، حيث زادت الآلة من حجم إنتاج المصانع بشكل أكبر بكثير من احتياجات الناس، ما تسبب في تكدس الإنتاج السلعي.
وضمن الحلول التي اتخذتها الولايات المتحدة في ذلك الوقت لتخفيف وطأة الأزمة، إنشاء مؤسسة لرعاية العاطلين عن العمل نتيجة الأزمة عام 1933، وكذلك إصدار قوانين تمنع البنوك من التعامل بالأسهم والسندات. كما أصدرت قانون الإصلاح الصناعي وقانونا آخر لتحقيق الاستقرار في قطاع الزراعة في أمريكا، وفي فرنسا وبريطانيا أخضعت قطاعات إنتاجية مثل الفحم والمترو للتأميم الحكومي.
واعتمد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 1933 عبر برنامجه الإصلاحي المسمى «الصفقة الجديدة»، سياسة معتدلة تجاه تضخم العملة، وتوفير تسهيلات ائتمانية سخية للمصنعين والمزارعين، وسن أنظمة مشددة على بيع الأوراق المالية في البورصات.
وكان أول تشريع اقتصادي لعلاج الأزمة يصدره الكونغرس في عهد روزفلت، يتضمن إيصال المساعدة للشباب العاطلين عن العمل الذين تقع أعمارهم بين 18 و25 سنة، من خلال انخراطهم في مخيمات تشبه المخيمات العسكرية مقابل 30 دولاراً للشهر الواحد للمشاركة في الأنشطة والمشاريع الاجتماعية. وبمرور الوقت استعادت حركة الإنتاج في الولايات المتحدة لتنتهي الأزمة.
أزمة سلاح البترول
اندلعت أحداث هذه الأزمة في 15 أكتوبر من عام 1973 عندما أعلن أعضاء منظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوبك)، بالإضافة إلى مصر وسورية وتونس، حظر تصدير النفط لدفع الدول الغربية لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967، وشمل الحظر وقف إمدادات النفط إلى الولايات المتحدة وعدد من الدول الأخرى التي تؤيد إسرائيل في حربها مع الدول العربية.
وكان الرئيس الأمريكي وقتها ريتشارد نيكسون قد تقدم إلى الكونغرس بطلب اعتماد 2.2 مليار دولار كمساعدات عاجلة لإسرائيل، الأمر الذي دعا السعودية وليبيا ودول عربية أخرى بفرض حظر قوي على الصادرات النفطية إلى الولايات المتحدة، وحينها لم يمهل الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- الرئيس الأمريكي نيكسون أي مهلة للتفاوض، حيث اتخذ قرار الحظر في 19 أكتوبر 1973، وكانت هذه هي أول مرة تربط فيها السعودية بين تصدير نفطها إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبين سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، وكان من نتائج ذلك القرار الشهير ترك الكيان الصهيوني لوحده في مواجهة الدول العربية فأنتهى الأمر بانتصار العرب.
ورغم أن الحظر استمر لنحو 5 أشهر فقط، وتركز حينها على الولايات المتحدة وهولندا تحديدا، حيث قامت هولندا بتزويد إسرائيل بالأسلحة وسمحت للأمريكيين باستخدام مطارات هولندا لإمداد ودعم إسرائيل، إلا أنه أدى إلى تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي استمرت تبعاتها لنحو عقد ونصف، حيث بدأت بارتفاع هائل في أسعار النفط وبعد انتهاء حرب أكتوبر بأقل من شهرين خسرت بورصة نيويورك 97 مليار دولار ومنذ ذلك الوقت أصبحت الصناعات اليابانية وخاصة في مجال السيارات تنافس المنتجات الأمريكية، ونتيجة لتأثر الاقتصاد الأمريكي جراء حظر النفط، قدم حينها وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنغر طلب إنشاء الاحتياطي النفطي الإستراتيجي، فوافق الرئيس الأمريكي جيرالد فورد في 1975 على الفور.
ومن التبعات المباشرة لهذه الأزمة أنها أدت إلى قيام عدد من الدول الأوروبية والغربية بوضع قيود لترشيد استخدام النفط، وقررت بعض الدول الأوروبية وضع حد للسرعة وحظرت استخدام المركبات في عطلة نهاية الأسبوع، واضطر الملايين إلى استخدام الدراجات الهوائية والعودة إلى ركوب الدواب كوسيلة للمواصلات، وفي الولايات المتحدة كان هناك شح في الوقود وأغلقت المئات من محطات البنزين. أما على المدى البعيد، فقد تسببت الأزمة في سلسلة طويلة من الركود وارتفاع معدلات التضخم التي استمرت قائمة حتى أوائل الثمانينات، واستمر ارتفاع أسعار النفط متواصلاً حتى 1986.
أزمة الأسواق الشرق آسيوية
في يوليو 1997، اندلعت أزمة في الأسواق المالية الآسيوية بدأت بانهيار عملة البات التايلندي، حيث أجبرت الحكومة التايلندية حينها على تعويم البات بعد أن اختفت العملات الأجنبية التي كانت توازن معدَّلات تحويل العملة، لتنقطع الرابطة بين البات التايلندي والدولار الأمريكي، وكانت هناك جهود مضنية لدعم البات التايلندي في وجه انعدام التوازن المالي الشديد، والذي كانت تجارة العقارات الحقيقية أحد أسبابه البارزة، وكانت تايلند تتحمل في ذلك الوقت أيضاً أعباء ديون خارجية، مما قادها إلى حالة من الإفلاس، ليتبع ذلك انهيار عملتها، ثم انتشرت الأزمة لاحقاً، حيث بدأت عملات كامل جنوب شرق آسيا وكوريا الجنوبية واليابان بالسقوط، وانخفضت أسعار البورصة المالية وكافَّة المنتجات، مقابل ارتفاعٍ هائل في القروض الخاصَّة.
وكانت أكثر البلدان تأثُّراً بالأزمة المالية الآسيوية هي إندونيسيا وكوريا الجنوبية وتايلند، تليها بدرجة أقل ماليزيا والفلبين ولاوس وهونغ كونغ، وكذلك الصين وتايوان وسنغافورة وبروناي وفيتنام، وقد عانت جميعها من انخفاض الطلب والثقة في السوق على مستوى المنطقة بأسرها. وحينها ارتفعت نسبة الديون الأجنبية بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي في اقتصادات اتحاد دول جنوب شرق آسيا (آسيان) لتجتاز 180% خلال أسوأ مراحل الأزمة. وفي مساعٍ لعدم انتشار الأزمة، أطلق صندوق النقد الدولي برنامجاً كلفته 40 مليار دولار لدعم اقتصادات إندونيسيا وتايلند وكوريا الجنوبية الأكثر تأثراً بالأزمة، وكان الهدف من الدعم هو عدم تفاقم الأزمة وامتدادها لتصبح أزمة مالية عالمية، ومع ذلك لم تفلح تلك الجهود كثيراً بإعانة اقتصاد إندونيسيا المحلي، وقد اضطر الرئيس الإندونيسي الأسبق سوهارتو إلى الاستقالة في 1998 بعد 30 عاماً من الحكم نتيجة الاحتجاجات الشعبية العارمة التي أعقبت ارتفاع الأسعار في بلاده.
وبدأت اقتصادات آسيا بالتعافي تدريجياً خلال عام 1999، وبعد تجاوز الأزمة قامت اقتصادات آسيا بالعمل على موازنة نفسها عبر المراقبة المالية المستمرَّة.
أسباب أزمة 97
كانت هناك عدة أسباب مختلفة حول أزمة اقتصادات آسيا، من بينها حدوث تطور وهمي في الاقتصاد التايلندي والماليزي والإندونيسي الذي تحول إلى فقاعة اقتصادية تمولها أموال المضاربة، وزادت المتطلبات مع ازدياد حجم الفقاعة.
وأيضاً في منتصف التسعينات الميلادية، تأثر النمو الاقتصادي في دول شرق آسيا سلبا بانخفاض قيمة الرنمينبي الصيني والين الياباني بسبب اتفاق بلازا لعام 1985، وارتفاع معدلات الفائدة الأمريكية ما أدى إلى ازدياد قوة الدولار وهبوط حاد في أسعار أشباه الموصلات، وفور تعافي الاقتصاد الأمريكي من التراجع الذي حصل في التسعينات بدأ المصرف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة لإيقاف التضخم، وجعل هذا الأمر من الولايات المتحدة وجهة استثمارية مرغوبة مقارنة بشرق آسيا التي كانت تجتذب تدفقات الأموال المتضاربة من خلال معدلات فائدة مرتفعة وقصيرة الأجل.
أزمة الروبل الروسي
بدأت هذه الأزمة الخطيرة في 17 أغسطس 1998 بإعلان الحكومة الروسية عجزها عن سداد الديون الخارجية المتراكمة جراء إصدارات سندات حكومية قصيرة الأجل، وهو ما شكل بداية أزمة مالية واقتصادية شاملة في روسيا.
وكان انهيار أسواق المال الشرق آسيوية في عام 1997 أحد أبرز العوامل الخارجية لهذه الأزمة، أما على الصعيد الداخلي فقد تراكمت على الحكومة الروسية -آنذاك- ديون خارجية ضخمة وانهارت أسعار النفط والخامات الأخرى، وتجلى عجز عام 1998 بانخفاض سعر صرف الروبل أمام العملات الأجنبية 3 مرات، وبشلل النظام المصرفي الروسي وإفلاس العديد من البنوك والشركات، مما أدى إلى التراجع الحاد في دخل ومستوى حياة المواطنين الروس وفقدان ثقتهم في النظام المالي الوطني.
وفي 12 مايو 1998، قام عمال مناجم الفحم بالإضراب بسبب الأجور غير المدفوعة، مما أغلق سكة الحديد عبر سيبيريا، وبحلول أغسطس 1998 بلغت الديون المستحقة للعمال الروس ما يقرب من 12.5 مليار دولار. وعلى الرغم من وضع خطة إنقاذ بدعم من البنك الدولي، ارتفعت مدفوعات الفائدة الشهرية على ديون روسيا إلى رقم أعلى بنسبة 40% من تحصيلها الضريبي الشهري.
أدى ارتفاع أسعار النفط العالمية بسرعة خلال الفترة ما بين 1999-2000 إلى انتعاش روسيا وانتشالها من الانهيار المالي في أغسطس 1998 بسرعة كبيرة، حيث حققت روسيا فائضا تجاريا كبيرا في تلك الفترة، إضافة إلى أن الصناعات المحلية؛ مثل تجهيز الأغذية، قد استفادت من تخفيض قيمة العملة، الذي تسبب في زيادة حادة في أسعار السلع المستوردة.
وأيضاً، نظراً لأن الاقتصاد الروسي كان يعمل إلى حد كبير على المقايضة وغيرها من أدوات التبادل غير النقدية، فإن الانهيار المالي كان له تأثير أقل بكثير على العديد من المنتجين مما كان يمكن أن يعتمد عليه الاقتصاد على النظام المصرفي. ونظراً لأن الشركات كانت قادرة على سداد الديون المتأخرة في الأجور والضرائب، فقد بدأ طلب المستهلكين على السلع والخدمات التي تنتجها الصناعة الروسية في الارتفاع فاتجهت رؤوس الأموال للعمل على تنمية الصناعات المحلية، وهو ما حقق لها استقراراً اقتصادياً على المدى البعيد.
الركود العالمي 2008
تسبب الانهيار المفاجئ لبنك «ليمان براذرز» عام 2008، الذي كان يمتلك أصولا بقيمة 600 مليار دولار بأكبر أزمة مالية في العالم منذ عام 1939، تعود أسبابها إلى أزمة الرهن العقاري التي ظهرت على السطح سنة 2007 في الولايات المتحدة، حيث أدى عدم تسديد قروض الرهن العقاري الممنوحة لمدينين لا يتمتعون بقدرة كافية على التسديد، مما تسبب في عمليات إفلاس في مؤسسات مصرفية متخصصة، وامتدت تداعيات الأزمة إلى أوروبا والعالم.
وقامت الولايات المتحدة على الفور بوضع خطة لتأمين حماية أفضل للمدخرات والأملاك العقارية، وتهدف إلى حماية الملكية وتشجيع النمو الاقتصادي وزيادة عائدات الاستثمارات إلى أقصى حد ممكن لمواجهة أخطر أزمة عقارية شهدتها الولايات المتحدة منذ تعرضها لأزمة الكساد الكبير، وقامت بمساعدة المقترضين الذين يواجهون صعوبات في تسديد أقساطهم عن طريق رفع سقف القروض العقارية التي بإمكانهم تقاضيها مقابل ضمانة عامة.
والجذور الحقيقية لهذه الأزمة مرتبطة بعدة عوامل مختلفة، من بينها عدم وجود قيود صارمة في القطاعات المالية، والسياسات النقدية الضعيفة، والكيانات الاقتصادية المبنية على أساسات واهية، بالإضافة إلى تراكمات لكم هائل من الديون في القطاعين العام والخاص. كانت الآثار والتداعيات كارثية ابتداء من أزمة الائتمان إلى انهيار أصاب الأسواق المالية، وتلاها كساد وارتفاع في معدلات البطالة وضع الكثير من اقتصادات العالم على حافة الانهيار. وبلغت تقديرات خسائر الاقتصاد العالمي نحو 45% من قيمته، وكان بحاجة إلى سنوات عدة لتعويض تلك الخسائر الفادحة.
أزمة فايروس كورونا
تسبب ظهور فايروس «كورونا» الجديد (كوفيد-19) في أواخر ديسمبر 2019 في الصين وانتقاله إلى أكثر من 115 دولة حول العالم ووصول حصيلته حاليا إلى أكثر من 115 ألف إصابة من ضمنها أكثر من أربعة آلاف حالة وفاة، في إثارة حالة من الهلع العالمي ونشوب أزمة اقتصادية خطيرة ما زالت تداعياتها متواصلة حتى اللحظة، حيث شهد «الإثنين الأسود» انهيار بورصات العالم إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية 2008، وحالة من الإنهاك المتواصل للاقتصاد العالمي.
واندلعت شرارة هذه الأزمة في نهاية يناير، وذلك بعد أن قررت الصين فرض الحجر الصحي على مدينة (ووهان) التي ظهر فيها المرض، وأغلقت مئات المصانع بعد انقضاء عطلة رأس السنة الصينية، وكان أول القطاعات المتأثرة من تبعات انتشار الفايروس، السياحة والنقل، تزامنا مع منع العديد من الدول دخول مواطنين قادمين من الصين والدول التي ظهر فيها المرض.
وفي نهاية يناير، تطورت تبعات الأزمة اقتصاديا إذ شهدت الأسواق المالية العالمية من شنغهاي إلى وول ستريت تراجع أسعار المواد الأولية التي تستوردها الصين بكميات كبيرة، فهبطت أسعار النفط بين منتصف يناير ومطلع فبراير بنحو 20% عم البورصات، وشهد الأسبوع الأخير من فبراير انهيارا في البورصات العالمية وتراجع المؤشرات في أوروبا والولايات المتحدة بأكثر من 12%، وهو ما لم يشهده العالم منذ أزمة 2008-2009 حين دخل الاقتصاد العالمي مرحلة انكماش، ولم تكن هذه سوى بداية أزمة متصاعدة.
ونتيجة لمخاطر الانكماش المتوقعة، توجد تحركات عالمية لحماية الاقتصاد من تبعات الفايروس، فأعلن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في 3 مارس خفض معدلات فائدته الرئيسية، وضخت الصين سيولة في اقتصادها، فيما سعت إيطاليا وألمانيا وفرنسا لدعم شركاتها، وما زالت التحركات قائمة لإنقاذ الاقتصاد العالمي من تداعيات الأزمة.
لقد كشفت هذه الأزمة، أن أي مشكلة في مصنع صيني يمكن أن تتسبب في تعطيل سلسلة الإمدادات لمجموعة كاملة من الشركات في العالم، حيث واجه صناعيون في جميع أنحاء العالم من كوريا الجنوبية إلى الولايات المتحدة مرورا بألمانيا واليابان وإيطاليا وفرنسا، صعوبات في التزود بالقطع والمكونات التي ينتجها عادة شركاء صينيون. ولا يزال العالم الآن يعيش تداعيات هذه الأزمة المتفاقمة، ولا يسعنا أن نقول سوى «لو أردت فهم الحاضر فادرس الماضي».
أزمة منطقة اليورو
بدأت شرارة هذه الأزمة التي تعرف أيضاً بمسمى أزمة الديون السيادية الأوروبية في أواخر عام 2009، وتأتي ضمن تداعيات ما خلفه الركود العالمي في 2008، وهي أزمة ديون متراكمة لعدة سنوات داخل الاتحاد الأوروبي لعدد من الدول الأعضاء، أبرزهم اليونان وإيرلندا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، أثارت مخاوف كبرى من قدرة هذه الدول على سداد ديونها، وتسببت ضخامة هذه الديون في حالة من الذعر للبنوك مما ساهم في انهيار الاقتصاد الأوروبي.
ونجمت أزمة منطقة اليورو عن مجموعة من المسببات ليست مرتبطة فقط بأزمة الركود العالمي التي سبقتها بعام، حيث كان من ضمن الأسباب عولمة التمويل وشروط الائتمان السهلة خلال الفترة 2002-2008 التي شجعت ممارسات الإقراض والاقتراض عالية المخاطر ونجم عنها الاختلالات التجارية الدولية وفقاعات العقارات التي انفجرت في 2008-2009 والركود الاقتصادي التي تبعها، ومن الأسباب الأخرى هي عدم التزام بعض الدول الأوروبية بمعاهدة «ماستريخت» الموقع عليها من قبل الدول الأعضاء في عام 1992 وتقضي بالتزامها بالحد من إنفاقها على العجز ومستويات الديون، إلا أن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أخفقت في أوائل العقد الأول من القرن الماضي في البقاء ضمن حدود معايير معاهدة (ماستريخت) وتحولت إلى تأمين إيرادات حكومية مستقبلية لتخفيض ديونها أو عجزها وتجاوز أفضل الممارسات وتجاهل المعايير الدولية. وقد دفع ذلك الحكومات باتجاه إخفاء حجم عجزها الحقيقي ومستويات ديونها عبر عدة تقنيات بما في ذلك المعاملات غير المتسقة في الحسابات وخارج الميزانية العمومية واستخدام هياكل معقدة من العملات والائتمانات المشتقة، ومع اندلاع أزمة الركود في 2008، بدأت هذه الحكومات وأولها اليونان في الكشف عن حجم ديونها الحقيقية، حيث كانت الديون اليونانية قد تجاوزت 400 بليون دولار (أكثر من 120% من الناتج المحلي الإجمالي) وكانت فرنسا تمتلك 10% من ذلك الدين مما أدى إلى إرهاب المستثمرين بمسألة «التخلف عن السداد»، ثم بدأت بعدها حكومات أوروبية أخرى في كشف حجم مديونياتها الحقيقية المتراكمة عليها منذ سنوات، وهو ما كشف عن اختلالات في النظام المصرفي الأوروبي.
ولتجاوز الأزمة، اتخذت أوروبا سلسلة طويلة من الإجراءات والتدابير، وفي 2011 قام الاتحاد الأوروبي بإقرار إصلاح جديد لميثاق الاستقرار والنمو يهدف إلى استقامة القواعد باعتماد إجراء تلقائي لفرض عقوبات في حالة الخرق، ووضعت قواعد مالية صارمة وقابلة للتنفيذ والعقوبات التلقائية مضمنة جميعها في معاهدات الاتحاد الأوروبي، إضافة الى اتباع سياسة اقتصادية متقشفة لتجاوز الأزمة مع تحفيز الاستثمارات الخارجية للحد من تطور تداعيات الأزمة.